يرى بعض الإخوة الغربيين أن المسلمين يذهبون في تقديس قرآنهم ونبيّهم مذهبًا يحرمهم من التمتع بحرية الرأي، وربما رأوا أن الأَولى بالمسلمين أن يُنـزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرتبة القدسية التي يتبوؤها في أفئدتهم إلى حيث لا يبدو في أنظارهم أكثر من زعيم في قومه ولّت زعامته مع ذهاب عصره. فما الذي ينبغي أن نقوله لهؤلاء الإخوة؟
منهجنا في البحث والنقد
نقول لهم: إن تقديسنا للإسلام ومصدرِه ونبيِّه خاتم المرسلين، إنما تم في نهاية رحلة طويلة من البحث والنقد، وبعد افتراض كلّ الاحتمالات الممكنة في تفسير الإسلام والقرآن وظاهرة الوحي وتحليل شخصية محمد صلى الله عليه وسلم، والاعتماد على منهج الاستقراء التامّ لها.
فلمّا وصلنا من هذه الرحلة إلى النهاية ذاتها التي وصل إليها الرعيل الأول من قَبل، وثبت لدينا بالحجة العلمية أن الإسلام ليس إلا شِرعة رب العالمين، شرّف بها عباده في الأرض، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن إلاّ الأَمين على نقل هذه الشرعة إلينا، وأن القرآن ليس إلاّ وحيَ الله المنـزل عليه لفظًا ومعنى؛ كان لا بدّ لنا عندئذ من اليقين بأن الإسلام حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قد تنـزل من عند الله على عباده.
وهل رأيتم عاقلاً لا يحمله عقله على تقديس الحق؟! وهل التأبي على تقديس الحق إلا تعبير غير مباشر عن تقديس الباطل؟! وأظن أننا جميعًا نعلم أن تقديسنا لشيءٍ ما إنما يعني تنـزيهه عن السوء وعصمته من الخطأ. فهل هناك شيء غير الحق أولى منه بالتقديس، أي التنـزيه عن السوء والخطأ؟!
وهكذا، فإن دعوة بعض الناس إيّانا إلى إبعاد سمة التقديس عن الإسلام ورسله، لاسيما آخرهم الذي أرسل إلى الناس كافة، ليتيسّر لنا -فيما يتصورون- أن نقتحم إلى ذلك كله بالنظر، وبالبحث والنقد، دعوة متأخرة جدًّا؛ فقد اقتحمنا إلى ذلك سائرَ ألوان البحث والنقد، قبل أن ينبّهونا إلى ذلك، تمامًا كما اقتحم كل فرد ممن أصبحوا يُسمَّون أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرَ سبل الفحص والنقد والافتراضات المختلفة في تفسير شخصيته صلى الله عليه وسلم قبل إيمانهم به. وما يقيننا اليوم بقدسية هذا الدين ونبيّه إلا القرار الأخير الذي انتهينا إليه من رحلتنا النقدية هذه.
ودونكم فانظروا إلى ترجمة عمر وخالد وعمرو وعكرمة ومصعب رضوان الله عليهم أجمعين -وهؤلاء من أبرز أصحاب رسول الله- تجدون أن إشراقة الإسلام في حياة كل منهم إنما تفجرت من أحشاء ظلمات تلك المعارضات والانتقادات. غير أن المعارضة التي كانوا يمارسونها، كانت -على قسوتها وشدتها- منهجًا نقديًّا للوصول إلى معرفة الحق، ثم إلى الانضباط به؛ أي لم تكن معارضتهم هدمًا بحدّ ذاته، يقبعون منه في سجن أبديّ لا محيص لهم عنه، دون أي نظر إلى الحق ومساره، كما يحبه لنا أولئك الذين دأبهم التنكّر لقداسة الحق بحدّ ذاته مهما ثبت أنه الحق، والانطواء في سجن معارضته ومقاومته، مهما ظهر لهم أن عملهم هذا باطل من الفعل والقول.
منهج الصحابة في البحث عن الحق
انظروا إلى عمل عديّ بن حاتم رضي الله عنه وقد كان واحدًا من أبرز رجال المعارضة وأكثرهم كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيام كانت الحقيقة غائبة عن بصيرته، وكان قد ترك المدينة ولحق بنصارى الشام. قال يتحدث عن نفسه: “كرهتُ مقامي في الشام أشدّ من كراهتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت في نفسي: لو أتيته، فإن كان ملِكًا أو كاذبًا لم يَخْفَ عليَّ، وإن كان صادقًا اتّبعتُه.”
تأمّلوا في هذه الكلمة، بل في هذه المحاكمة النفسية، تلك هي المعارضة السامية التي تعبّر عن حرية البحث، واتخاذ كلٍّ من النقد والنظر منهجًا لاكتشاف الحقيقة والتخلّص من غاشية الوهم.
ثم يتابع عديّ رضي الله عنه حديثه فيقول: ثم قدمتُ المدينة، فدخلت عليه (أي على رسول الله صلى الله عليه وسلم) في مسجده، فسلّمت عليه، فقال: “من الرجل؟” فقلت: عدي بن حاتم، فقام فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامِد بي إليه، إذ لقيَتْه امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفَته، فوقف لها طويلاً، تُكلِّمه في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك! ثم مضى بي حتى أدخلني بيته، فتناول وسادة من جلد، محشوة ليفًا، فقذفها إليّ، فقال: “اجلس على هذه”، قلت: بل أنت فاجلس عليها، قال: “بل أنت”. فجلست عليها. وجلس هو على الأرض. فقلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك. ثم قال: “إِيه يا عدي، لعلك إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجة أهله. فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلّة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت، لا تخاف؛ ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وَايْمُ الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتحت عليهم”. قال: فأسلمت.
فهذا لون من ألوان النقد والمعارضة يحدّثكم عن خبره معها واحد من أبطالها. غير أنها كانت كما ترون، مطيّة بحث ومنهج دراية ابتغاء الوصول إلى الحقيقة. فلما أوصلَته المطية إليها كان لا بدّ أن يقدّسها ويلقي بعصى التّسْيار عندها.
تقديس الحق أمر طبيعي
إننا اليوم نسلك المنهج ذاته الذي سلكه أسلافنا من قبل؛ مررنا مثلهم بمرحلة البحث والنقد ووضع الافتراضات الممكنة، ثم انتهى بنا هذا المنهج إلى معرفة الحق والتبصر به. وإنه لشيء منطقي وطبيعي أن نتوجه إلى هذا الحق الذي عرفناه فنقدّسه ونوليه ثقتنا ثم ولاءنا المطلق.
وإن من حق الغربيين الذين لم يسلكوا إلى معرفة الحق الذي عرفناه هذا المنهج المنطقي الذي سلكناه أن لا يشعروا بأي قدسية للإسلام الذي لم يتبين لهم جوهره بعدُ، ولا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي لم يقفوا على هويته الحقيقية بعد، ولا للقرآن الذي لم يتوفروا على دراسته بعد.
ولكن ليس من حقهم أن يجعلوا من جهالتهم هذه قرار اتهام وتجريح لمعتقداتنا ومقدساتنا التي لم ننتهِ إلى قرار اعتناقها وتقديسها إلا بعد منهج طويل من البحث والنقد والنظر.
وصفوة القول أننا نحن المسلمين لا نتعامل مع تلك القداسة الغامضة التي يتحدث عنها الآخرون، والتي لا يملكون من ألفاظ التعبير عنها والتعريف بها إلا أنها الرهبة والتعظيم للمجهول، بل إننا لا نفقه شيئًا من هذه المصطلحات، ولم يعوِّدْنا إسلامنا على النظر إلى المجهول بأي إجلال أو إكبار؛ وإنما نتعامل مع منهج المعرفة الذي يوصلنا إلى معرفة كل من الحق والباطل.. وعندئذ لا بدّ أن نقدس الحق لأنه حق، وأن نتجاوز الباطل لأنه باطل. ومن لم يقدس الحق بعد معرفته له، كانت معرفته له عبثًا، بل الشأن فيه أن تكون نظرته إلى كل من الحق والباطل واحدة، وأن يكون تعامله معهما واحدًا دون تفريق.
تُرى أيُّ قيمة تبقى لحياة تضْمحلّ فيها الفوارق بين الحق والباطل؟ وأيّ فائدة تبقى لعلم لا يملك أن يصنفهما ويضع كلّاً منهما في المكان اللائق به؟! بل أيّ مزية تبقى للعلم على الجهل إذا لم يملك أن يحجز الحق عن الباطل، وإذا لم يتأت له أن يحمي الحق في حصن من القداسة والتنـزيه؟!
وكلمتي الأخيرة هي أن الإنسان معذور إن هو جهل الحق فلم يقدّسه ولم يتعامل معه، ولكنه ليس معذورًا إن هو أصرّ على أن يجعل من جهالته لسان سخرية واستهزاء من المقدَّس.