“ويليام ستيرون” من أكثر الكتاب الأميركيين المعاصرين شهرة، وهو مؤلف رواية “اختيار
صوفي” التي وصل رقم مبيعاتها إلى إحدى عشرة مليون نسخة، وقدمتها السينما بالعنوان ذاته.
ويليام أراد أن يضع حدا لحياته ويضم اسمه إلى قائمة الأدباء المنتحرين أرنست همنغواي وفرجينيا وولف ورومان غاري وجاك لندن وهنري مونترلان وستيفان زفايغ ويوكيو ميشيما..
كآبة حادة كادت أن تقود ستيرون إلى حافة الجنون. وبعد أن برئ من أوهامه وهواجسه تماما، تحدث عن الكابوس المخيف الذي سيطر على عقله وحياته، إنه مرض ليس من السهل تفسيره أو فهمه. هاجس غريب وطارئ قد يصيب أي شخص دون تمييز لعمر أو جنس أو مستوى اجتماعي وثقافي، إلا أن الشيء الأكيد أنه يصيب النساء أكثر من الرجال. لا أحد يمكن أن يَفهم “سر” هذا المرض إلا الذي وقع في مصيدته والذي قد يقوده للتفكير بالانتحار وهو تصرف مخجل وسري جدا، لأنه ينطوي على أبشع أنواع العقاب.
ويليام ستيرون فكر جديا بالانتحار. وبين تفكيره وحيرته باختيار الوسيلة الأكثر ملائمة لإزهاق روحه، كانت ذكريات الأيام الحلوة تهاجمه من كل زاوية من زوايا المنـزل، وتتردد على مسامعه ضحكات أبنائه وزوجته ليعدل في النهاية عن الفكرة التي استحوذت أياما طويلة على عقله، وقرر أن يستبدل الانتحار بالعلاج ليتابع مسيرة حياته.
لماذا أردتَ الانتحار؟
ويكون الجواب:
– “الكحول”، أو بالأحرى “الإدمان على الكحول” هو السبب الرئيسي. هو الذي قادني إلى هذه المرحلة من اليأس الذي فقدتُ معها الرغبة في الحياة.
هذا ما حدث لأدباء أمريكا السابقين أونيل همنغواي وفوكنر… الجميع كان يلجأ إلى الكحول لعله يمنحه الهدوء والراحة لأعصابه ولتدفعه إلى الكتابة والإبداع. – الكأس مهمتنا جميعا ولكن يبدو أننا لم نحسن الاختيار.
هذه هي النخبة العليا في بعض المجتمعات الغربية.. سقفها العالي.. وهي رغم ما يغمرها من ضوء ويحيط بها من تكريم وتقدير، تريد أن ترحل عن الدنيا بصمت. ما الذي يستطيع المرء أن يقوله إزاء هذا كله سوى أن الإنسان المنقطع عن التبصر الديني سيصل إلى طريق مظلم مسدود مهما أحاطت به الأضواء ومنح من تكريم. وكأنه يتساءل، وقد تضاءلت الدنيا أمام عينيه وتكومت تحت قدميه:
“ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد الشهرة والغنى والمكانة والتكريم والأضواء وإشباع الحاجات الأساسية إلى حد التخمة؟! إنه الفراغ المخيف والطريق المسدود والنهاية المفجعة المدومة فوق الرؤوس”.
وأتذكر مقولة الأديب الفرنسي الوجودي المعروف “البيركامي”: “ما دمنا سنموت فليس لأي شيء معنى”.
إنه الإحساس المكتظ بالعبثية واللاجدوى.. فليس ثمة قبل الموت وبعده سوى الأشياء ونقائضها.. الحياة المكثفة والعدم.. حلقة مفرغة لا يستطيع الإنسان كسرها والخروج منها مهما حاول. ومن ثم -وكسعي للخروج من دائرة العذاب- يلجأ الإنسان إلى الانتحار لكي يختصر الرحلة المعذبة.
ها هنا تبرز قيمة الدين.. قيمة الإيمان بالله وبالغيب واليوم الآخر.. فهذه وحدها هي التي تكسر الحلقة المفرغة وتفتح الطريق المسدود وتصل الدنيا بالآخرة وتمنح الحياة البشرية طعمها العذب وأملها ويقينها، ذلك الذي اغتاله بعض الملاحدة فحكموا بالإعدام على الإنسان وألجأوه إلى قتل نفسه.
ويتذكر المرء كيف أن الإنسان في المنظور الإسلامي هو أغلى كائن في هذه الدنيا، وأن من قتله بغير نفس أو فساد في الأرض -كما يؤكد القرآن الكريم- فكأنما قتل الناس جميعاً، وأنه بتعبير الرسول صلى الله عليه وسلم “بنيان الله في الأرض ملعون من هدم بنيانه”.. ويتذكر جملة الأحاديث الشريفة التي تدعو إلى حماية الدم البشري وتندد بالانتحار باعتباره رفضا لنعمة الله سبحانه وعقوقا لسخائه وكرمه وعطاياه.. ويتذكر بعض تلك الأحاديث:
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات. قال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة” (رواه البخاري ومسلم وابن ماجه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من قتل نفسه بحديده فحديدته في يده يتوجأ بها بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا”. (رواه البخاري والترمذي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمته الله فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا” (رواه الترمذي وابن ماجه).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل” (رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض تلك المغازي، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان (متفق عليه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار” (رواه الترمذي).
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه” قالوا: وكيف يذل نفسه؟ قال: “يتعرض من البلاء لما لا يطيق” (رواه الترمذي وابن ماجه). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا” (رواه النسائي ).
وهذا يكفي.