الإخلاص واليقين
لو أن المرء طلب الإخلاص واليقين في اليوم مائة مرة فما هو من المكثرين. لكن كيف ينبغي أن يكون الطلب؟ دعاءَ قول أم دعاءَ فعل؟ أرى أن دعاء الفعل هو الأصل، لكنه لا يمنع من دعاء القول. أما الأفضل فدعاء قول يلازمه دعاء فعل. وإذا كان لنصيحتي مكانة عندكم، فنصيحتي الأولى والأخيرة هي أن تطلبوا مرضاة الله تعالى. فقد تنسون طلب الجنة في دعواتكم أو الاستجارة من النار، لكن حذار أن تنسوا طلب الإخلاص واليقين بإلحاح، لأن الأمر لا يحتمل النسيان. إذا تلاشى الإخلاص وضاع اليقين لدى الفرد فقد تدحرج في فراغ مخيف، إذ أقواله لا تتجاوز حنجرته، وأفعاله لا تعبر عن أي معنى نبيل.
لو أن المرء طلب الإخلاص واليقين في اليوم مائة مرة فما هو من المكثرين.
محاسبة
قلتَ فأجدتَ، وكتبتَ فأبدعتَ، وهممت فنلت كل مطلوب… عندئذ بادر إلى محاسبة نفسك فورا، إذ قد يكون ذلك استدراجا. ومن يدرى فقد ينفتح مع النجاح بابٌ يقذِف بك في متاهات العجب والكبر والرياء، وينغلق معه بابُ “كن بين الناس فردا من الناس”. لقد ارتعد الأصفياء فرقا من الخيبة والفشل، لكن خوفهم من النجاح كان أعظم وأجلّ. زرعوا الأرض زرعا، فما إن اخضرّت وأثمرت وطابت حتى أسرعوا يبكون، وأنفسهم راحوا يحاسبون، وقالوا وهم وجلون “ماذا جنينا على أنفسنا حتى اهتزت الأرض وربت وأنبتت وازّينت؟ رباه! أيكون ذلك استدراجا من حيث لا نعلم؟”
قلتَ فأجدتَ، وكتبتَ فأبدعتَ، وهممت فنلت كل مطلوب… عندئذ بادر إلى محاسبة نفسك فورا، إذ قد يكون ذلك استدراجا
خلو البال من الهم
كان فخر الإنسانية صلى الله عليه وسلم قبل البعثة المباركة وبعدها مفعما بالهمّ متلفعا بالغم إزاء ما يرى من شقاء مادي وضياع روحي يسود البشرية كلها. فالروايات تقول إنه كان قبل النبوة يعتزل الناس أحيانا ويخلو إلى نفسه متأملا في مشاكل الإنسانية المأزومة. أما عن مبلغ همه بعد أن تحمل مهمة الرسالة فينبه إليه القرآن العظيم قائلا: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾(الكهف:6)، أليست الآية ذات مغزى عميق يهز القلب هزا ويؤثر في صميم الوجدان؟ إن أخطر همنا اليوم خلونا من الهم. الهم الذي يسلبنا النوم ويقض مضجعنا ويتركنا مؤرقين عدة أيام في الأسبوع ونحن نسعي جاهدين نغرس حقائق الإيمان والقرآن في القلوب ونتطلع إلى أن يستجيب لها ضمير المجتمع الإنساني. وإذ لم نأرَق بمثل هذا الهم اليوم، فسوف تنهمر علينا مهمات تحرمنا النوم غدا. والحق أقول؛ يكاد المرء يتفطر أسفا حينما لا يرى من يتفطر هما.
أريد مجانين
مجانينَ أريد، حفنةً من المجانين… يثورون على كل المعايير المألوفة، يتجاوزون كل المقاييس المعروفة
تشبّع بحب الله إلى حد الجنون، لا يغرينّك عنه حسن ولا يفتننك عنه جمال، اِرقَ على كل المعادلات وتسامَ على كل المقاييس، ارفع شعار الثورة ضد كل مألوف، واهتف كما هتف الرومي “هلمّ إليّ يا إنسان”، ثم ادفن نفسك في غياهب النسيان. ناد كما نادى بديع الزمان “وا إنسانيتاه”، ثم امضِ ولا تفكر بسعادتك الشخصية. أجل، اِنس رغد الحياة، انس البيت والولد، واسلك درب أهل السمو الواصلين لتكون من الناجين.
مجانينَ أريد، حفنةً من المجانين… يثورون على كل المعايير المألوفة، يتجاوزون كل المقاييس المعروفة. وبينما الناس إلى المغريات يتهافتون، هؤلاء منها يفرون وإليها لا يلتفتون. أريد حفنة ممن نسبوا إلى خفة العقل لشدة حرصهم على دينهم وتعلقهم بنشر إيمانهم؛ هؤلاء هم “المجانين” الذين مدحهم سيد المرسلين، إذ لا يفكرون بملذات أنفسهم، ولا يتطلعون إلى منصب أو شهرة أو جاه، ولا يرومون متعة الدنيا ومالها، ولا يفتنون بالأهل والبنين… يا رب، أتضرع إليك… خزائن رحمتك لا نهاية لها، أعطِ كل سائل مطلبه، أما أنا فمطلبي حفنة من المجانين… يا رب يا رب…
ـــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.