لابد من الثمن لأي سلعة، وبما أن سلعة الله الجنة فثمنها غال جدا، لأن الجنة هي مستقر الرحمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لله مائة رحمة. فمنها رحمة بها يتراحم الخلق بينهم. وتسعة وتسعون ليوم القيامة” (متفق عليه). فبقسمة واحدة يتراحم جميع الخلائق منذ كانت الدنيا حتى تفنى، جميع مظاهر الرحمة التي ترى في علاقة الآباء بالأبناء، والمومنين بعضهم ببعض، والوالد بولده، والوالدة بولدها، وعلاقة جميع الكائنات، وجميع مظاهر الرحمة والرأفة والحنان كلها تدخل في قسمة واحدة، وهي مَجْلَى صفة الرحمن ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾(الأعراف:156)، وتسعة وتسعين للرحيم ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾(الأعراف:156). شاع بين الناس أن الله رحمن الدنيا ورحيم الآخرة وذلك له شواهده ومنها هذا. الرحيم لشدة الرحمة، والرحمن لسعتها، والرحمة لسعتها يدخل فيها جميع الخلائق كفارا كانوا أم مومنين، أحياء كانوا أم غير أحياء، أم جمادات، أما اسمه الرحيم، فهو للمومنين ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾(الأحزاب:43)، تلك الرحمة تتجلى أساسا في الجنة، وفيما أعد الله لأهل الجنة، ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾(يونس:26)، ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾(ق:35)، هذا الثواب العظيم جدا الذي نقيس الغائب فيه على الشاهد؛ فإذا كانت الرحمة الواحدة من المائة من رحمة الله قد غرق فيها جميع الخلائق فكيف هي هذه الرحمة؟
ومن ثم فالفرح أساسا بفضل الله وبرحمته ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ (يونس:58)، “ما من أحد يدخله عمله الجنة” فقيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: “ولا أنا، إلا أن يتغمدني ربي برحمة” (رواه مسلم). ومِن تغمُّده برحمته التوفيق إلى فعل ما يوجب رحمته سبحانه وتعالى ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾(الأعراف:43). فإذا هذه السلعة عظيمة الشأن جدا، شيء لا يتخيله الذهن حتى إذا أراد تخيله لا يستطيع تخيله، فلابد أن يكون ثمنه كذلك مرتفعا، لابد أن يكون عاليا “ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة”(رواه الترمذي). المومنون ما كان يحركهم وما يحركهم ولن يحركهم حق التحريك إلا مثل هذه السلعة، فهم عن الدنيا وفيها زهدوا، لأنها فانية بكل ما فيها، فكيف يمكن التعويل على أي شيء فيها. تدبرتُ في الأمر فوجدتها تتلخص في هذا: لابد من ثمن يكافئ المُثْمَن، يكافئ السلعة التي ستشترى، وبما أن هذه السلعة هي الجنة فتحتاج إذا إلى ثمن باهظ، ولكنه أيضا يسير على من يسره الله عليه، كما في الحديث الصحيح (رواه الترمذي).
التربية بالأخطاء
البشائر بالنسبة للمؤمنين كثيرة جدا، فيها العام وفيها الخاص وفيها القريب وفيها البعيد. وأعظمها هذه البشرى، بشرى الجنة، ورضوان الله سبحانه وتعالى؛ فالله وعد المومنين بالنصر وجعله حقا عليه ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الروم:47)، وقال: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾(محمد:7) في أي لحظة تاريخية وأي بيئة وأي وسط ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾، إذا لم تجد جواب الشرط فاعلم أن الشرط فيه خلل، أما جواب الشرط فلا يمكن أن يتطرق إليه خلل مع وجود الشرط. فإذا رأينا في الخارج ما لم يعجبنا، فلنتامل جميعا قول الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾(آل عمران:165) ليس من جنس خارجي، ليس من اليهود ولا من النصارى كما يحدث عادة في التحليل لأوضاع وأحوال المسلمين، الكل لا أصل له، التعليل والتحليل الصحيح القرآني السنني دائما داخلي. وما أصاب المسلمين في السيرة النبوية لا في أُحُد، ولا في حنين، ولا في أي وقت إلا بما كسبت أيديهم، وذلك لظروف عظيمة تنبني على ذلك. فالتربية بالأخطاء هي وجه من وجوه التربية العظيمة، لأن الإنسان قبل أن يصيبه جزاء الخطأ تقريبا قد يكون سكران ساهيا، ولا يصحو إلا بعد نزول الصفعة، إذ ذاك يتهيأ نفسيا للتلقي. صحيح كما قال صلى الله عليه وسلم “السعيد من وعظ بغيره” (رواه مسلم)، ولكن هذه درجة عالية، ومن أجلها قص القصص ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾(يوسف:111)، لأن في القصص وفي غير القصص، في أمور الكون التي يفكر فيها، ما يكفي للدلالة والإرشاد، لكن لمن كان فيه ما يلزم من الاستعداد. أما إذا لم يكن ذلك الاستعداد فإنه لابد من تهييء ظروف الاستعداد بأشكال من الصفع والضرب والركل وما أشبهها، تتجلى بأشكال مختلفة لتُهيئ الجو للتلقي، وإن ما حدث للمسلمين بصفة عامة في القرنين الأخيرين هو من النقم التي في طيها كثير من النعم، فهي نقم فيها عدل الله وفضله؛ ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾(فصلت:46) لأن ما أصابنا فيها كان على السُنّة ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾(الشورى:30). فظاهرة الاستعمار جملة في العالم الإسلامي، كل ذلك بما كسبت أيدينا. وبما أن الذين كلفوا بحمل الأمانة ووكل إليهم أمر الشهادة على الناس، ما حملوا الأمانة وفرطوا فيها، وأخلدوا إلى الأرض واتبعوا هواهم فابتلاهم الله بأشكال من الابتلاءات. وأقول: فيه عدل الله سبحانه وتعالى، وفضله، ومن ذلك الفضل هذا الوجه الثاني للأمر، وهو أن هذا السكر بالدنيا لا سبيل إلى إيقاظ المسلمين منه إلا بمثل هذه الصواعق المحرقة، وهذه الكوارث، لأنه لولا مثل هذه الصواعق ما استطعنا أن نستيقظ، وما كان ما يتحدث عنه اليوم بالصحوة الإسلامية التي نرجو أن تَرشُد وأن تتسع وأن يمكّن الله لها في الأرض بجوده وكرمه.
فإذاً الله وَعَد ووعده صادق، ولكن ما وعد الله وعدا إلا مشروطا، وعوده بالنصر العام، أو بالتخصيص بالنصر في الدنيا مثل ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾(غافر:51) و”الذين آمنوا” حتى ولو لم يكونوا الرسل ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾ “في الحياة الدنيا” بالتحديد، و”إن” و”لننصر” كلها توكيدات. ثم جمع هذا الأمر في صورة السُنة الماضية الكونية في صورةِ ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(الأنبياء:105) سواء كانت “الأرض” بمعنى صغير كما ذهب بعض العلماء بأنها بمعنى “فلسطين” فقط ﴿ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ﴾(المائدة:21)، أو كانت الأرض هذه الدنيا الكرة الأرضية كلها، أو كانت الأرض هي الجنة ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾(الزمر:74) المعاني لا يوجد لها مخصص في الآية ولا داعي للتخصيص، بل ما جاء من الآيات بعدُ جاء موضحا لأشكال الأرض، فهي سابقة على الأولى، وسابقة على الثانية، وسابقة على الثالثة.
العبادة بالاختيار
فالله وعد في الذكر الأول وفي الزبور وفيما جاء مما نزل من الكتب، وحتى نزولِ الكتاب كله وهو القرآن، وعد بأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، قال الله: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا﴾ هذا أمر قد كُتب وفرغ منه، ولكن الشرط دائما حاضر ﴿عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ ﴿عِبَادِيَ﴾، إن هذه اللفظة – لفظة عبد الله- ليست لفظة عادية، لفظة فيها كثير من الأهمية والخطورة، فالله سبحانه حين أراد أن يمدح محمدا صلى الله عليه وسلم سماه “عبد الله” ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾(الإسراء:1) ما قال: “برسوله”، ولا قال: “بنبيه”، بل قال” “بعبده”. فلفظة “عبادي”، وليس “عبيدي” أيضا فيها سر، لأن هناك “العبادة بالاضطرار”، وهناك “العبادة بالاختيار”، ولفظُ “العبيد” في الغالب، إلا في بعض السياقات يذهب عادةً إلى العبادة بالاضطرار فالكل ﴿آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾(مريم:93) ولكن العابد لله بالاختيار هو الذي جعل من نفسه عبدا، هو اختار من نفسه عبدا لله، هو عبد الله بطبيعة الحال، ولكن بمعنى الاختيار جعل نفسه عبدا لله، “عبد الله” هذا يجمع على “العباد”، على “عباد الله”، و”عباد الرحمن”، ليس و”عبيد الرحمن”، هذا من “العبادة” وليس من “العبدية”. فالعبادة ببساطة أن تجعل من نفسك عبدا لله باختيارك، إذا جعلت من نفسك باختيارك عبدا لله فأنت عابد لله، وأنت من هؤلاء: “عبادي” الذين يرثون.
إن تأملنا حال الصحابة، وتأملنا عددا من الأحوال نجد أن الإنسان بفضل الله تعالى إن صدق الله ورسوله وأخلص، ولا يكون ذلك إلا ببذل، ليس الصدق أمرا نفسيا خالصا وكفى، لأن الصدق دليله في الجهاد، دليله في الواقع، في التضحية، إن حدث ذلك الله يدفع بذلك إداية أخرى من نوع آخر.
الصالحون المصلحون
شرط آخر: ﴿الصَّالِحُونَ﴾ هذا مزيد من البيان، وإلا فعباد الله فيها كل شيء، تماما مثلما يقول الله سبحانه وتعالى: “الله”، ثم يأتي بعد ذلك بالأسماء الحسنى، وكلها مضمنة في “الله”. فعباد الله فيهم صفات كثيرة، لخص تلك الصفات ههنا في “الصالحين” فمَن هم الصالحون؟ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ﴾(العنكبوت:9). فالصالحون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، و”الباقيات الصالحات” هي كل شيء، الباقيات الصالحات جميع الأعمال، فهذا الوعد كبير وعام، كوني لكن يحتاج إلى شرطين:
1-شرط الإيمان. 2-شرط الصلاح والأهلية.
الصلاح في هذه الأمة متمثل أساسا في إصلاحها للناس، لأنها أخرجت أساسا للناس، إذ لها خصوصية لكن الآية عامة.
صناعة التوحيد والإيمان
ثم البشرى في الآخرة بالجنة وردت في أماكن ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾(يونس:62-64). وفي سورة الصف جاءت البشرى ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(البقرة:223)، حين نسمع لفظ ﴿الْمُؤْمِنِينَ﴾ في القرآن مستقلا عن أي شرط، نعلم علم اليقين أن ما سواه يدخل فيه، وما يأتي بعده كله داخل فيه، لو قال الله: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾(العصر:1-3) فقط وسكت، فاعلم علم اليقين أنه يدخل فيها: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾. فحين يذكر الإيمان وحده فهو يشمل العمل، لأنه لا يتصور إيمان بدون عمل، إنما في أذهان الناس وفي عقل المتكلمين، أي الذين اشتغلوا بصناعة التوحيد لا في صناعة الإيمان، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتغلا بالإيمان فيمارس الإيمان ويتكلم بالإيمان وعن الإيمان وفي أهل الإيمان، وجاء الناس بعدُ وتكلموا في التوحيد وتكلموا في الكلام، وبقي الكلام مع الكلام وصارت الأمة إلى ما صارت إليه.
فالإيمان بالتعبير القرآني يستلزم العمل إلزاما، ويستلزم العمل الصالح، إلا أنه نظرا إلى أن الناس يحتاجون دائما إلى مزيد من البيان والتكرار والتوضيح فالله سبحانه وتعالى بيّن ووضّح حتى قطع الحجة، ومن أجل ذلك أرسل الرسل، وضرب الأمثال، وقص القصص، بيّن كل شيء ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾(النساء:165). وانقطاع الحجة بالرسل باعتبارهم يعطون المثل البشري للتطبيق الشرعي؛ تراه أمامك ماثلا يمشي على رجليه، ها هو مطبق، وتطبيقه له لا من جهة كونه رسولا، وإنما من جهة كونه بشرا، بمعنى أنه أطاق ذلك وهو بشر، لم يطقه لأن فيه قوة خاصة جاءته وهو ملك، لا، وإلا ما صار قدوة للناس ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾(الأحزاب:21) لأنه فعل ما يفعله البشر ويطيقه البشر، والله كلف البشر بما في وسعهم ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾(البقرة:286).
المحن والمنح
فالبشائر كثيرة ووعد الله عظيم للمؤمنين في أي فترة وفي أي مرحلة، ولكن تلك الوعود جميعا لا نفاذ لها، ولن تكون إلا إذا وجدت شروطها وأثمنتها. والأثمنة عندما ندخل إلى الثمن يبتديء المفهوم الآخر وهو الذي يبتدئ بقوله تعالى في آيات تم الكلام عنها: ﴿الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾(العنكبوت:1-3)، والفَتْن في العربية: وضع المعدن (الذهب أو الفضة) على النار الشديدة حتى يذوب وتطفو الشوائب فيصفى من تلك الشوائب ويبقى المعدن ذهبا خالصا أو فضة خالصة. فإذن المؤمن فيه شوائب قبل تصفيته بالفَتن، فالفَتن ضروري وسنة ماضية، وبه يتميز الناس.
ما أشبه الإيمان بمنحة ربانية يعطاها الناس الذين أكرمهم الله دون سابق عمل؛ فليس منح الإيمان منحة خالصة لا يسبقها عمل هي جزاء لهم؛ ققد يكون الإنسان كافرا ثم يصبح مومنا، لم يفعل عملا صالحا قبل، لأنه لا قبول للعمل الصالح دون وجود الإيمان، فهي منحة. تصور أن أبا -ولله المثل الأعلى- عنده أبناء متعددون أعطاهم دفعة واحدة مليون درهم ثم قال لهم اذهبوا، تصرفوا؛ فبعضهم نمى ذلك المال، وبعضهم أكله من ليلته قامر به، وبعضهم لهى عنه حتى سرق له. كلٌ له تصرف فيه، فكذلك الناس-و لله المثل الأعلى- يُمنحون الإيمان، ويمنحون القدر الضروري الذي إن نمّوه زكت نفوسهم ووصلوا إلى أعلى الدرجات مصداقا لقوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾(المجادلة:11)، ولكن هناك ناس لا يزكون ذلك ولا ينمونه فيتناقص حتى يذهب. فكم من ناس كانوا مؤمنين فكفروا وارتدوا. حتى في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع هذا، وفي كل زمان يقع هذا ويمكن أن يقع. وإن كل نعمة هي في الحقيقة منحة، انظر إلى قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾(النور:21)، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “اللهم آت نفسي تقواها وزكيها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها” (رواه مسلم) رغم أنه قال لنا: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾(الشمس:9-10) وأنه أعطانا التصرفَ ولكن التوفيق منه سبحانه وتعالى. فكل نعمة هي في أصلها منحة، وتحتاج إلى تنمية أيضا، بالتزكية، بالزكاة. وبالزكاة تربو النعمة وتزداد، ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾(البقرة:214) مثل الزلزلة التي تحدث عنها القرآن ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا﴾ (الأحزاب:11) وقوله: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾(الزلزلة:1) زلزلت القلوب من شدة الرعب، والهول والضيق، ولكن مع الإيمان القوي تثبت والله المثبت، ﴿يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾(إبراهيم:27).
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ هذه التي تحدثنا عنها أن فيها تسعة وتسعين من الرحمة التي رأينا نموذجا واحدا، التي نحس بواحد على ما لا نهاية بالتعبير الرياضي تقريبا من سعة هذه الرحمة وعظمة هذه الرحمة الموجودة في الكون الآن. فهي مجرد قسمة، فتلك التسعة والتسعين مثل وضعف لذلك الضعف، ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾(يوسف:110) اشتدي أزمة تنفرجي. فإذا سنة البلاء سنة كونية حياتية حين قال الله: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ ثم لحق ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾(الملك:2) ليست فقط في الحياة، بل حتى الموت نحن مع الفتنة ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾(الأنبياء:35). فالإنسان حين يكون في عافية لا يظنن أنه ليس في فتنة أو ليس مبتلى، بل هو مبتلى إذ ذاك، حين يكون مبتلى بتلك العافية هل يشكر نعمة الله أو لا يشكر؟
تمييز الخبيث من الطيب
وههنا نقطة أحسبها في غاية الأهمية وهي أن الله أسس الأمر على البلاء والفتن، وعلى أساسه تكون الرتب عند الله وفي الدنيا، ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾(الحشر:8). ووسام الصدق أعلى وسام، ولذلك طلب الله من جميع المومنين أن يكونوا مع هؤلاء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾(التوبة:119).
سنة البلاء هذه -بصفة عامة- تقوم على الفَتن، والفتن يؤدي إلى تمييز الخبيث من الطيب، وإن في المؤمنين الخبيث والطيب؛ كما قال الصحابة بعد نزول الآية: ﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾(آل عمران:179)، قالوا: ما كنا نظن أنه يوجد خبيث وطيب في المومنين. فإذاً فينا خبيث وطيب، والخبث يحتاج إلى نار الفتن لحرقه في الدنيا رأفة بالمؤمن حتى لا يحرق في الآخرة، لأن كل خبيث في المومن بعد لقيا الله سبحانه وتعالى لابد من أن تحرقه النار إلا أن يشاء الله شيئا بفضله وكرمه. السُّنة العادية أنه لا يدخل الجنة إلا من يقال له: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ﴾(الزمر:73)، و”إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا” (رواه مسلم). ولا يدخل داره دار السلام إلا الطيبون، أولئك يقال لهم: ﴿فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾(الزمر:73)، أما قبل أن تطيبوا لا دخول، أما إذا وجد في المؤمن جوانب طيبة وجوانب خبيثة، فلا يخلوا من أمرين:
– إما أنه في هذه الدنيا ينقى بالفتن بأشكال يختارها الله.
– وإما أنه -لا قدّر الله- يؤخر ذلك إلى يوم القيامة وينقى بعذاب جهنم ثم يدخل الجنة بعد. لكن لابد أن يطهر، لابد أن يطيب.
الأشباح في يد الأرواح
هذا الفَتْن ضروري في عملية التصنيف هنا وهنالك، وهو رحمة بالمؤمنين، وتنقية لصفوفهم وقلوبهم، وتزكية لأرواحهم، وتقوية لهم أيضا، لأنهم كلما طابوا خفت أجسامهم وأرواحهم، فخفت أجسامهم، لأن الأشباح في يد الأرواح؛ لماذا يحس الإنسان بالثقل إذا طلب منه أن يجاهد بماله أو بوقته أو بنفسه؟ أو إذا قيل له جاهدْ بدرهم يعطيه بيسر، بعشرة دراهم، ربما يعطيه ربما يبدأ في الإحساس بالثقل، خمسين درهما، البعض ما زال يحس بالخفة، البعض بدأ يحس بالثقل، حتى ربما يثقل الجميع فـ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾(التوبة:38)، هذا الثقل سببه ما في النفس مما ليس بطيب، فالروح حين تزكوا تخف وتصبح كالطائر، وتسهل عليه أن تطير إلى الله سبحانه وتعالى، فحين قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: “إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع” (رواه العسكري في الأمثال)، لأنهم ربطوا أنفسهم بالآخرة، يكثرون عند الفزع لأنه فيه البلاء، فكأنهم يرغبون فيما عند الله مما تكره النفس، أما حين يكون الأمر أمرا دنيويا خالصا، فهم يقلون.
وهذا الفتن له صورتان: صورة وهي أن العبد تنـزل عليه بلايا نزولا، وصورة أنه هو يطلبها.
أنواع البلايا
والبلايا أنواع؛ فيها ما يطلب وفيها ما لا يطلب. نحن لا نطلب المرض مثلا، “فاسألوا الله العافية” (رواه الطبراني)، وهناك نوع من البلاء يطلب، كبلاء الجهاد بجميع صوره، طُلِب منا أن نطلبه وهو بلاء. الاستشهاد آخر صور الجهاد، فأن تجاهد نفسك في ذات الله، وأن تجاهد شهوتك وولدك وتجارتك… حتى تجاهد روحك التي بين جنبيك في سبيل الله وتعطيها راضيا في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله، إن قدّمتَ هذا برغبة منك في ذلك، هذا عوّضك النوعَ الآخر، وإلا طُهّرت بالنوع الآخر، والله الذي يختار سبحانه وتعالى، فقد يختار من هذا وهذا، وقد يختار من هذا دون هذا ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾(القصص:68)، لكن إن تأملنا حال الصحابة، وتأملنا عددا من الأحوال نجد أن الإنسان بفضل الله تعالى إن صدق الله ورسوله وأخلص، ولا يكون ذلك إلا ببذل، ليس الصدق أمرا نفسيا خالصا وكفى، لأن الصدق دليله في الجهاد، دليله في الواقع، في التضحية، إن حدث ذلك الله يدفع بذلك إداية أخرى من نوع آخر، وها هو يقول “ولا يزال البلاء بالعبد المومن حتى يلقى الله وما عليه خطيئة” (رواه الترمذي)، حتى يطيب، يصير طيبا، يعني قد تهيأ تماما لاستقبال الملائكة له، فيقال له: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾(الزمر:73). والمقصود أن نكون عبيدا لله بالاختيار لا بالاضطرار وأن نختار نحن أن نقدم ما أعطانا هو راضين برغبة منا بدل أن ينتزع ذلك منا اضطرارا وكرها وهو يجرنا إلى الله عز وجل كما قال صلى الله عليه سلم: “عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل” (رواه البخاري) يعني يجرنا إليه جرا إلى رضوانه بطريقة أخرى، حين أراد سبحانه بنا الخير. ولا أعلم في الصيغ التي استعملها رسول الله في أمر الإصابة والخير إلا صيغتين:
– “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين” (متفق عليه).
– “من يرد الله به خيرا يُصِبْ منه” (رواه البخاري).
فهما متكافئتان؛ مَن فقه في الدين يطلب هذا الذي أمر الله به راضيا مختارا، ومن يرد الله به خيرا يصب منه، من طلب ذلك راضيا مختارا نتج عنه أجور، والأجور ينتج عنها تكفير للخطايا.