لا ريب أن السِّلم هو مطمح آمال المجتمعات الإنسانية كلها، إذ هو المناخ الذي يتحقق فيه الأمن وتشيع فيه الطمأنينة.
ولكن السلم ليس شيئاً يصنعه الإنسان أو عملاً يمارسه، إنما هو رغبة في النفس ومقصد من أهم مقاصد الإنسان. وإنما سبيل الإنسان إلى تحقيق رغباته والوصول إلى مقاصده، أن يبحث عن الأسباب الموصلة إلى تلك الرغبات والمقاصد، فيمارسها ويعكف على إنجازها.
فما هو السبب السلوكي الموصل إلى السلم؟ ما هي الوسيلة التي إن تمت ممارستها تحققت في المجتمع الإنساني حقيقة السلم؟
لا توجد إلا وسيلة واحدة لبلوغ هذا المقصد، إنه ممارسة العدالة في علاقة الإنسان مع الإنسان. ومن الواضح أن هذه الممارسة لا تتأتى من شخص واحد، إذ هي علاقة سلوكية تسري ما بين الأشخاص تتلخص في عدم العدوان على حقوق الآخرين، وعدم التقصير في النهوض بالواجبات المرعية تجاه الآخرين، وإنما يتم ذلك بسلوكات نوعية متبادلة.
إذن، فالعدل هو الوسيلة السلوكية المتبادلة التي توصل المجتمع إلى مناخ السلم، ومن ثم تحقق في حياة أفراده الأمن والطمأنينة، وإذا غاب العدل غاب معه الطريق الموصل إلى السلم.
ولما كان القرآن الذي هو خطاب الله الموجه إلى عباده جميعاً، يتضمن دعوة ملحة إلى سلوك السبيل المؤدي إلى واحة السلم، وذلك في مثل قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾(البقرة:208)، فقد ركز في تعريفه للسبيل المؤدي إليه، تركيزاً كبيرا متكرراً على ضرورة ممارسة العدل في العلاقات الإنسانية جمعاء، بل إنه يأمر الناس باللجوء إلى هذا الميزان في كل الأحوال ومع الآخرين أياً كانوا، وأياً كان نوع العلاقة معهم.
تأملوا في حرارة هذه التوصيات وتأكيد الأمر بها بمختلف الأساليب:
• ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(المائدة:8).
• ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾(الأنعام:152).
• ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(النساء:58).
• ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾(النحل:90).
• ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الحجرات:9).
إن هذه الأوامر المتكررة بأساليبها المتنوعة والموجهة إلى الناس جميعا للانضباط بموازين العدل، ليس إلا تفسيرا لكلمة ﴿ادْخُلُوا﴾ في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾(البقرة:208). إنها بيان للمدخل الذي لابد منه ولا بديل عنه سبيلا إلى السلم.
وإذ قد ذكرنا معنى العدالة قبل قليل، وهو باختصار شديد رعاية الحقوق والواجبات، فمن اليسير إذن أن نعلم أن التطرف هو الجنوح عن هذه الرعاية. فكأن العدل هو الطريق الآمن العريض الذي تتلاقى على السير فيه الأسرة الإنسانية جمعاء، والتطرف هو الجنوح عنه شارداً ذات اليمين أو ذات السيار. ولا ريب أن هذا الجنوح إذ يبتعد بصاحبه عن صراط العدل، لابد أن يزجّه في لون من ألوان الظلم، إذ هما نقيضان إن غاب أحدهما حل الآخر مكانه. وإذا وقع الظلم انقدحت من جراء ذلك شرارة الفتن، وما هو إلا أن تعصف رياحها برواق السلم وتقضي عليه.
إذن، على كل من ينشد السلم أن يبرهن على صدقِ بحثه عنه بتوخي العدالة والسهر على حمايتها وحراسة موازينها، بل إننا لا نشك أن كل من استهان بموازين العدل وضحّى بحقوق الآخرين في سبيل مصالحه ورغائبه الذاتية، فهو عدو للسلام، ماض في طريق القضاء عليه، سواء كان فرداً من الناس أو ممثلاً لدولة.
وعلى ضوء ما تقدم بيانه، نستطيع أن نبرز معنى “الإرهاب”. هذا المعنى الذي ظل مخبوءاً عن الكلمة المعبرة عنه، على الرغم من إلحاح كثير من الدول والمجتمعات الإنسانية على الذين فاجؤوا العالم بهذا المصطلح واتخذوا منه فتيلاً لإشعال نار الحروب، أن يكشفوا للعالم المعنى الخفي الذي يقصدونه به.. أقول على ضوء هذا الذي تم بيانه، نستطيع أن نبرز معنى “الإرهاب” من تلافيف الخفاء. إنه كل جهد يهدف إلى العبث بميزان العدالة ويلحّ على اغتصاب الحقوق انتصاراً للذات واعتماداً على مبررات القوة التي لا يتمتع بها الآخرون.
فكيف السبيل إلى حماية الطريق إلى السلام أن لا ينسف بأسلحة الإرهاب فتحجز المجتمعات الإنسانية أو أكثرها من السلام الذي تنشده، إذ يقوم بينها وبينه برزخ من القطيعة وفجوة عميقة مما أحدثته يد الإرهاب؟
السبيل إلى ذلك اتباع القانون الذي أخذَنا به بيانُ الله القائل: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة:179). وبعبارة أخرى، السبيل إلى ذلك الضرب على أيدي المتربصين بالسلام. وإنما يكون الضرب على أيديهم بإنزال العقاب المكافئ لجريمتهم، وإنه لَلسِّياج الذي لابد منه لحماية السلام.
ولم ترد في القرآن ألفاظ الجهاد والقتال إلا تعبيراً عن هذا المبدأ، وليس فيه آية تدعو إلى الجهاد أو القتال، إلا ضدّ من يصرّون على إبعاد موازين العدالة عن الطريق إلى تحقيق رعوناتهم وإلى بسط سلطان بغيهم على الآخرين. فإذا أقلع البغاة عن بغيهم وجنحوا إلى السلم، وجب الكف عنهم ومدّ يد التعاون معهم على حراسة السلام وتعبيد الطريق إليه.
يبدو هذا جلياً في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾(البقرة:190).
ونتبيّنه جلياً أيضاً في قوله عز وجل: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الممتحنة:8).
ومن كان دأبه أن يتتبع كلمات القتال والجهاد في القرآن، وأن يحصي أعدادها، ثم يقطعها عن المناسبات والجمل التي أحيطت بها، لِيتأتى له أن يزعم أن القرآن قاموس إرهابي يُصدر إلى الناس أوامر القتل والبغي والجهاد، فمشكلته أنه يعمي عينيه عن ألفاظ العفو والصفح واللطف والعدل والقسط التي يفيض بها القرآن الكريم. وهي لو أحصاها لبلغت أضعاف ما يتتبّعه من ألفاظ القتال والجهاد؛ على أن الألفاظ أياً كانت، عندما تكون مفردات في القاموس لم تُستعمل بعد للتعبير بها عن حكم أو قرار، فهي كالمادة الخام قابلة لأن تُوجَّه إلى أي غرض أو استصناع. وما لم يتم إدخالها في طور الاستصناع والاستعمال، فهي إذن ليست أكثر من مجرد قابلات لأي توجيه أو صنع.
على أن العدالة إن غابت وحلّ محلها الظلم، فإن من الممكن أن تهتاج لواعج الظلم في نفس المظلوم فيقضي على بعض البرآء في طريق انتقامه من الظالم، ولكن مردّ هذا التصرف إلى الثورة التي يحدثها الظلم في نفس المظلوم، وقد نهى القرآن عن ذلك وأمر المظلوم أن لا يسرف في الثأر أو الانتقام لنفسه بحيث يزهق مع حياة المجرم الذي ظلمه أرواحَ حاشية من البرآء، ألم يقل: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾(الإسراء:33).
ولواعج الثأر من شأن الطبيعة الإنسانية عندما يستشرى الظلم في المجتمع، ويعتدّ القوي فيه بقوته إلى درجة أن يجعل منها بديلاً عن القانون وتفسيرا للحق. وهذه اللواعج تجتاح اليوم المجتمعات الغربية أكثر مما هي موجودة في مجتمعاتنا الإسلامية. أياً كان الأمر فإن الشريعة الإسلامية تُلجمها بلجام التربية الدينية التي تتلقى غذاءها من عوامل الخوف من الله والاستسلام لحكمه وسلطانه. وإنا لنعلم أن في قوى الشر ما يستثير هذه اللواعج في نفوس المظلومين، لتدفعهم إلى تجاوزات تتخطى حدود الشرائع والقوانين، كي تلصق بهم تهمة الإرهاب، فيعثر المخططون لاستلاب الحقوق واستلاب الأوطان على المبررات الشكلية لذلك، وإنّ في أرشيف الذاكرة لنماذج ومستمسكات كثيرة لذلك.
يطيب لي أخيراً أن أختم حديثي هذا بسؤال أرجو أن أتلقى إجابة شافية عنه. في عام 1976م رفع “وليم كليفورد” مدير معهد علم الإجرام في أستراليا تقريرا عن سلسلة مؤتمرات عقدتها المنظمة العربية للدفاع الاجتماعي ضد الجريمة المنبثقة عن الجامعة العربية، إلى هيئة الأمم المتحدة التي كانت قد أرسلته إليها بصفة مراقب، تضمن التقرير ما خلاصته لفت نظر الدولة الغربية إلى احتمال ظهور ما سماه “يقظة إسلامية جادة” في الدول العربية. فإذا قرن ذلك بما يملكه بعض هذه الدول من ينابيع النفط، فإن من الراجح أن اجتماع هاتين القوتين سيشكل خطراً حقيقياً على الحضارة الغربية. ثم يوصي التقرير بناءً على ذلك بأن تضع الدول الغربية أيديها بالطرق الممكنة على ينابيع النفط بأسرع وقت.
إن الملاحظ أن التقرير الذي يبلغ ثلاثين صفحة لم ترد فيه كلمة “الإرهاب” على الإطلاق، ولم تكن إستراتيجية السياسة الغربية تستعمل هذا المصطلح بعد.
فما السبب في أن لصيقة “الإرهاب” هذه إنما تم العثور عليها ثم لصقها بالإسلام والمسلمين، بعد تلقي المؤسسات الغربية المعنيّة، لهذا التقرير الذي ينصح الدول الغربية باستلاب ينابيع النفط من أصحابها والعمل على منع “يقظة إسلامية جادة” يمكن أن تنبعث عما قريب.
هل للعالم العربي والإسلامي أن يتلقى جواباً شافياً عن هذا السؤال من المصارد التي تلقت تقرير “وليم كليفورد” ثم عكفت على دراسته ووضعه موضع التنفيذ؟