هناك أساس مهم من أسس تفسير القرآن وهو “أن القرآن يبين بعضه بعضا”. ولذا فأول ما ينبغي أن يعتني به المفسر هو أن يجمع المتشابهات ويقرن بعضها ببعض. فرب معنى أجمله القرآن في موضع وفصله في موضع آخر، أو أطلق في موضع وقيد في موضع آخر. ثم إن القرآن ربما تعرض للمعنى الواحد في غير موضع لحكم عالية اقتضت تخصيص كل موضع بالقدر الذي أورد فيه. فإذا ما جمع المفسر كل مواضع وروده تجلى له الهيكل العام الذي أراده القرآن في تلك القضية.
القرآن كله كالسورة الواحدة
وقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ذلك المنهج في فهم القرآن في عدة مواقف. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾(الأنعام:82)، شق ذلك على الناس، قالوا يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه؟! فقال: “إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: ﴿يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾(لقمان:13) إنما هو الشرك” (رواه البخاري).
فقد أطلق لفظ الظلم في موضع فشاع في المعنى المعهود في الظلم في عرف الخطاب، بينما هو مفسر في موضع آخر بالشرك. والذي يجعل الموضع الآخر متعينا للبيان هو الفهم العالي لقواعد الشريعة وكلياتها، ومنهجها في تحديد أسباب النجاة وأسباب الهلاك، مما يعين على إلحاق الآيات بعضها ببعض.
وما زال هذا المعنى بهم حتى صرحوا بأن القرآن كله كالسورة الواحدة يحمل بعضه على بعض، قال الإمام الرازي في التفسير الكبير: “لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضا، ويبين بعضها معنى بعض، ألا ترى أن الآيات الدالة على الوعيد مطلقة، ثم إنها متعلقة بآيات التوبة وبآيات العفو”.
وللعلامة الطاهر بن عاشور تحرير جيد في هذا المعنى يمثل ضابطا مهما يجب تأمله في قضية حمل بعض القرآن على بعض، حيث قال في التحرير والتنوير: “وهذا كلام لا يحسن إطلاقه، لأن القرآن قد يحمل بعض آياته على بعض، وقد يستقل بعضها عن بعض، إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصودا في جميع نظائرها، بله ما يقارب غرضها”.
وقد ألف ابن الجوزي كتاباً فيما أجمل في القرآن في موضع وفسر في موضع آخر منه، ونبه ابن تيمية على هذا المعنى في أصول التفسير، وكذا ابن كثير في أوائل تفسيره، وكلامه مأخوذ من كلام ابن تيمية، ثم السيوطي في الإتقان وغيرهم كثير.
وهو قريب مما عرف عند المتأخرين بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم وقد كتب فيه كثيرون.
السنة النبوية أول بيان للقرآن الكريم
وأساس آخر مهم من أسس التفسير وهو “أن السنة النبوية ثاني الوحيين، وأنها نابعة من القرآن وموضحة لمعانيه”. فهي أول بيان للقرآن الكريم، وهو بيان يمتاز بالعصمة. فإنه أول كاشف دقيق منضبط ومحفوظ يكشف عن معاني القرآن، ولأنه معصوم وحجة فإنه مكمل للهدى القرآني، بحيث يتكون منهما معا توجه الشرع الشريف في كل مسألة أو قضية، بل قال الإمام السيوطي رحمه الله في “الإتقان”: “وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح للقرآن”، وقال أيضا: جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن. قلت: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: “إني لا أحل إلا ما أحل الله، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه” (أخرجه بهذا اللفظ الشافي في الأم).
قال الشيخ طاهر الجزائري في “توجيه النظر إلى أصول الأثر”: “قال بعض علماء الأصول: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من شيء فهو في القرآن أو فيه أصله قرب أو بعد، فهمه من فهمه، وعَمِهَ عنه من عمه، وكذا كل ما حكم به، أو قضى به، وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه، وقال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله”.
وقد أدى ذلك كما هو معلوم إلى أن أنشأ المسلمون منظومات كاملة من العلوم الخادمة للبيان النبوي. فنشأت علوم الحديث وعلوم الجرح والتعديل، وأثمرت ذلك النتاج العلمي الفائق الذي لم تعرف أمة من الأمم له مثيلا. وقد نشط الحفاظ لإفراد المؤلفات لما يتعلق بالبيان النبوي القرآني فنشأ ما يعرف بالتفسير بالمأثور، وجمع فيه الحافظ السيوطي جمهرته الضخمة “الدر المنثور، في التفسير بالمأثور” فاستوعب فيها من مصادر واسعة جدا كل حديث أو أثر له وجه تعلق بآية من كتاب الله.
ومن المتأخرين جمع العلامة المحدث السيد عبد الله بن الصديق الغماري كتابا في التفسير بالأحاديث المرفوعة وصل فيه إلى سورة هود.
ولذا فعلى المفسر أن يطلع على ما ورد في كل آية من الأحاديث والآثار، فما كان منها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة أو حكما فقد وجب الوقوف عنده واعتباره، وما سوى ذلك فليتأمل. فإن كل واحد من المفسرين كان يحمل معنى الآية على جملة المعارف والعلوم التي انتهى إليه عصره، وأحاط به زمانه، ثم القرآن أكبر من ذلك، وهو مجرد عن الزمان والمكان لا يتقيد بهما ولا بأحوالهما.
علم أصول الفقه
وأساس آخر مهم من أساس التفسير هو “علم أصول الفقه اشتمل على ضوابط فهم النص وتحليله”. ولذا فقد وجب على المفسر وذلك لأن أعظم مقاصد المفسر أن يلم بالأدوات والآليات التي يتمكن بها من تحليل التركيب وتفكيك النص وفهمه.
وخدمة النص تحليلا وتفكيكا وإحاطة بأجزائه وكلياته، وسبرا لدلالة ألفاظه وتراكيبه، وتوصلا إلى أغراضه ومقاصده، وتقنينا لأساليب ومسالك الاستنباط منه، هدف يسعى إليه المفسر ويسعى إليه الأصولي على حد سواء.
وقد عني الأصوليون بهذه القضايا وحرروها ودققوا فيها تدقيقا زائدا، ولخصوا كل المقدمات التي يتوقف عليها تحقيق أغراضهم تلك من العلوم الأخرى مع استقراء زائد يليق بمقصودهم حتى استوى علم الأصول ونضجت فيه تلك البحوث، وبلغت حدا متقدما جدا من التحرير والانضباط. حتى إنهم لخصوا بحوثاً من علوم اللغة، ومن علم النحو، ومن علوم البلاغة وغيرها وجعلوها أبوابا في علم الأصول.
فلا يليق لأحد أن يُقْدِم على تفسير كتاب الله تعالى من دون نظر سابق، وتمرس فائق بعلم الأصول. قال العلامة الطاهر بن عاشور في “التحرير والتنوير”: “وأما أصول الفقه فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم، وهي من أصول الفقه، فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير، وذلك من جهتين؛ إحداهما: أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب، وفهم موارد اللغة، أهمل التنبيهَ عليها علماءُ العربية، مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة. وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه، فلا جرم أن يكون مادة للتفسير. أما الجهة الثانية؛ فهو أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها، فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها”.
وربما كان الأمر أكبر من ذلك، حيث يستفيد الناظر في فن الأصول نسقا كليا للتفكير يرث من خلاله أصولا كبرى للنظر، ويلتفت ذهنه إلى قضية القطعية والظنية وأثرها في الفهم، وإلى أبواب التعارض والترجيح وكيف يسلك فيها، وإلى الاستدلال وكيفية استخراج جهة الدلالة من النصوص إلى غير ذلك من أساليب الفهم. ولا تخفى أهمية ذلك لمن يتصدى للإبانة عن معاني كلام الحق جل شأنه.
اتساع مدلولات التركيب
وأساس آخر لا يقل أهمية عما سبقه وهو “اتساع مدلولات التراكيب بحسب اتساع الأسقف المعرفية، والتراكيب الحضارية”. فقد قال علماء الأصول: “الاستعمال من صفة المتكلم، والحمل من صفة المخاطب، والوضع قبلهما”. والمقصود أن حمل الكلام على معانيه وتأويله على أوضاعه اللغوية من صفات المتلقي أو المستمع. والمقصود أيضاً أن المستمع هو الذي يتلقى الكلام فيقوم بمهمة تحليله واستخراج مضامينه والتغلغل فيه للوصول إلى المقاصد التي حملها المتكلم عليه. وكل ذلك محكوم بالوضع اللغوي الضابط لعملية استعمال الكلام. والذي يؤمّن إيجاد مشترك بين المتكلم والسامع، يتم من خلاله تبادل المعاني، ذلك التبادل الذي على أساسه نهض المجتمع البشري وتراكمت المعارف وسرت بين البشر فنمت الحضارة.
وهذه العملية التي يحكمها الوضع متوقفة عند تنـزيل كل لفظ على معناه أو معانيه التي ركب بإزائها منذ أن تم الوضع اللغوي واستقر، بحيث لم يعد من الممكن التلاعب بتلك الدلالة أو تغييرها، إلا بمقدار مأمون ومنضبط من تحريك دلالة اللفظ بحيث ينتقل الذهن من المعنى الأصلي الذي وضع له اللفظ إلى لازم له، أو جزء من مدلوله أو ما أشبه.
وهذا يعني أن لكل مستمع حظا من فهم التركيب، بحيث كلما اتسعت معرفته وازدادت خلفياته وامتد تصوره إلى معان أوسع، رأى أن التركيب يحتملها ويومئ إليها. ولا يكاد أن يقع هذا في كل البشر إلا نادرا لاستواء البشر في المعارف أو تقاربهم فيها. وهم في ذلك محكومون بمعطيات زمانهم، بحيث لا يخطر لأحدهم ما سوف يكشفه الزمن من الأمور بعد زمنه، ليضمن كلامه إشارة إليه. فإن وُجد بشري نابه، أو عبقريٌ فذ وعَرَف بطريق ما شيئا من الأمور المستقبلة وأشار في كلامه إليه، ثم جاءت الأحداث موافقة له اعتبر الناس هذا ظاهرة خارقة تستحق الدراسة كما وقع مثلا حول “تنبؤات نوستراداموس”، وشأنها معروف.
فكيف بالعلم الإلهي الشامل المحيط الذي لا تخفى عليه خافية، وهو سبحانه الذي قدر لكل زمن ما يقع فيه من أحداث ويستجد فيه من علوم ومعارف، فإنه سبحانه ضمّن كلامه إشارة إلى ذلك كله، بحيث كلما استجد شيء لاحت دلالة النص إليه. فالقرآن الكريم نصٌ جاءت ألفاظه وتراكيبه من عند الله بحيث لا تتناقض مدلولاته مع أي سقف معرفي يأتي به زمن، وليس ذلك في طوق بشر، بل كلما تدخلت الأهواء البشرية في الكتب السماوية، فإنها بتصوراتها القاصرة التي لا تحيط بمستجدات الأمور في الأزمان المقبلة تقيد طلاقة النص وإطلاقه، وتجعل أحدث الأزمان تناقضه وتصطدم به. ولذا صان الله القرآن وحَفِظه، ولذا اصطدمت نصوص الكتب السماوية المحرفة بالواقع حتى أحدثت مشكلة العلم والدين في أوروبا. وقد تناول هذا المعنى “موريس بوكاي” في كتابه “القرآن والتوراة والإنجيل في ضوء العلم الحديث”.
والمقصود أن البشر كلما ارتفعت معارفهم واستحدثت عندهم علوم ومعطيات، وجدوا أن النص القرآني متسق مع تلك المعطيات، بينما يسقط كلام أي بشري عن مواكبة الزمن، لقصور تصور قائله وعدم إحاطته عند صياغة كلامه، وكلما كان قارئ القرآن أوسع إحاطة بالعلوم والأفكار والمناهج المختلفة، اتسعت دلالة القرآن في نظره على نحو معجز. ولذا يظل القرآن متجددا عبر العصور لا تنتهي عجائبه ولا ينضب معينه، بل يزداد ثراء كلما ارتقى البشر في سلم الحضارة والمعرفة. قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: “وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين، قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم، فينبلج للناس شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر، على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم”.
مسالك القرآن في التأثير على النفس
وأساس مهم من أسس التفسير وهو “مسالك القرآن في التأثير على النفس وأثر ذلك في فهم النص القرآني وتحليله، ووجوب تحصيل آليات ذلك”. وهو أصل إن غاب عن الناس كلهم فينبغي ألا يغيب عن المفسر. وهو الذي ينقب عن مقاصد القرآن ومراميه، ومدلولات الإيحاءات والمؤثرات التي يستجلبها القرآن ويوظفها في إثارة النفوس وتحريكها، وحملها على النهوض والنشاط والمسارعة إلى ما يريد أو الحساسية والتوجس والفرق مما لا يريد.
وليعلم أن هذا الأصل متوقف على محورين؛ الأول: علوم البلاغة، وهي المعنية بأسرار التركيب اللغوي، والمعاني الكامنة وراء كل تحوير وتغيير في التراكيب، وما يترتب على كل احتمال منها من المعاني المستفادة. الثاني: هو علم النفس، لأنه هو المعني بالبحث في طبيعة النفس البشرية وكيفية صدور الأفعال منها وكيفية استجابتها للمؤثرات المختلفة.
والقرآن الكريم جاء بتصور كامل للنفس البشرية وطبيعتها وأطوارها، وقد سار في تطبيقاته العملية وفي سرده لمقاصده وفي نسجه لكلماته وآياته وفق منهج رباني راق في التعامل مع النفس والتأثير فيها، بحيث إن المفسر إن ألمّ بأطراف من ذلك واتسعت معرفته بهذه المعاني صار يرى وراء كل كلمة وكل تعبير وكل تركيب قرآني تأثيرا نفسيا مقصودا.
قال الإمام الخطابي في “بيان إعجاز القرآن”: “في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا شاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه، عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتفزع له القلوب، يحول بين النفس ومضمراتها وعقائدها الراسخة”.
قصص الأنبياء مناقشة لأصول المناهج الفكرية
وأساس آخر مهم من أسس تفسير القرآن الكريم وهو أن “قصص الأنبياء مناقشة لأصول المناهج الفكرية التي يدور حولها الفكر الإنساني عبر الزمان”. فقد جاءت قصص الأنبياء لمقاصد ربانية متعددة، منها تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ومن ثم تثبيت أفئدة ورثته وحملة مواريث النبوة وأنوار الهداية من بعده، إلى الخلق من العلماء الهداة والدعاة إلى الله على بصيرة بحق، قال تعالى: ﴿وَكُلًا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾(هود:120).
ومنها أنها موضع نظر وتأمل لأصحاب الفكر، وأهل العقول المستنيرة بحق يقول سبحانه وتعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾(يوسف:111). فقوله “عبرة” معناه أن قصص الأنبياء محل نظر واسع، بحيث تستخرج منها فوائد كبرى، وقد توسع العلامة الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في المقدمة السابعة من مقدمات “التحرير والتنوير”، في ذكر فوائد قصص الأنبياء، فذكر عشر فوائد مع إفادات جزلة حول قصص الأنبياء وكيفية توظيف القرآن لها.
وقد تأملت قصص الأنبياء في القرآن فلاح لي فيها معنى كلي جليل يجعل فائدتها أوسع وأكبر من أن تكون سردا لأحداث من تاريخ الأنبياء الكرام، رغم ما في ذلك من الأهمية والجلالة.
وبيان ذلك: أن كل واحدة من قصص الأنبياء تناقش منهجا من مناهج الانحراف، وتتعرض بالتحليل والرد والتقويم لفلسفة من الفلسفات، وتبحث قضية كبرى من قضايا الفكر الإنساني، بحيث تشتمل قصصُ الأنبياء على مناقشة لأصول المناهج الفكرية المنحرفة والمتكررة عبر التاريخ الإنساني بأكمله، حيث إن البشرية في تاريخها الطويل عرفت فكرة مشابهة لفكرة العلمانية مثلا، ففكرة العلمانية وفصل الدين عن مجالات الحياة ليست حديثة أو وليدة عصور النهضة الأوروبية، بل هي منهج فكري بشري قديم برز عند قوم شعيب عليه السلام. فقد حكى القرآن عنهم: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾(هود:87).
فهم يتعجبون من وجود علاقة بين الصلاة وبين إدارة الأموال، وأوجهِ التعامل معها. فقد جاء قوم شعيب فوق الكفر ببلية أخرى، وهي أنهم لا يرون رابطا بين التقوى والصلاة والصلاح وبين الشؤون المالية، وكأنهم يقولون: لا علاقة بين الدين وبين الاقتصاد.
وعليه فإن قصة شعيب أرقى منهج نبوي قرآني ناقش قضية العلمانية، وأبرزُ المحاور المهمة التي تفكك تلك الفكرة، وتبين فسادها وضررها، وتأتي بالبديل الرباني والتوجيه الإلهي في هذا الصدد. وبهذا يتسع لنا مجال آخر في فهم أسباب اختيار الحق سبحانه لقصص معينة من قصص الأنبياء، حيث قال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾(غافر:78). وكأن القصص المنتقاة التي أوردها القرآن تناقش رؤوس القضايا الإنسانية والنظريات الفلسفية.
ويترتب على هذا أن يُقبل المفسر على قضية شعيب عليه السلام وأن يجمع كل مواضع ورودها في القرن ثم يتأمل المعالجة الإلهية لقضية العلمانية. وكيف علّم الله تعالى شعيباً عليه السلام المداخل الدقيقة لمناقشة تلك القضية، وما هي المرتكزات التي رشحها القرآن وأبرزها في مناقشة تلك القضية، وذلك بعد أن يقرأ العلمانية وتطوراتها ودرجاتها قراءة دقيقة على غرار ما كتبه الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه “العلمانية الجزئية، والعلمانية الشاملة”، بحيث يعرف ما ينبغي أن يبحث له من رد وجواب في القرآن.
وبهذا تضيف قصصُ الأنبياء فوائدَ زائدة على العظة والعبرة والتثبيت والتأسي، ويتسع مجالُ النظر فيها وتنفتح لنا دراسات قرآنية جديدة في بحث أساليب القرآن في مناقشة التيارات والمناهج والفلسفات الحديثة، ويتبين أن كل قصة من قصص الأنبياء تمثل مناقشة لفلسفة أو منهج فكري مما يتكرر عبر التاريخ.
محاور السور وأثرها في فهم القرآن
وأساس من أسس التفسير الآخر وهو: “محاور سور القرآن، وأثرها في فهم النصوص القرآنية”. ومعناه أن لكل سورة من سور القرآن الكريم محورا محددا تنبني عليه السورة، وتدور حوله وتؤكده بصور ونماذج تفصيلية متعددة، وتجند لأجل خدمته وإبرازه أمثالا وقصصا ومقاطع قرآنية، مطولة أحيانا ومقتضبة حازمة خاطفة في أحيان أخرى بحيث تشتمل تلك المقاطع على أوامر تشريعية ونظم أخلاقية ومناقشة لمناهج فكرية مختلفة وما أشبه مما يشكل مقاصد جزئية، تتعاضد وتأتلف وتشتبك وتتداخل من أجل ترسيخ وتوكيد معنى ذلك المحور الرئيسي الذي تدور السورة حوله.
فمحور سورة البقرة مثلاً في قوله سبحانه: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(البقرة:131). إذ تدور سورة البقرة حول قضية الإسلام لله، وكيف أنها المدخل الأعظم لتحقيق قضية العبودية والإعانة التي جاءت بها سورة الفاتحة: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾(الفاتحة:5)، وأن الأمر فيها ينهض على أساس راسخ من التسليم المطلق لله بالعظمة والربوبية واستحقاق العبادة وأنه وحده الحاكم، وأن التشريع والأمر والنهي له وحده.. حتى إذا ما ثبتت قضية التسليم واستقرت في العقل، وانعقد عليها الجنان أمكن نقل هذا المكلف إلى قضية الاصطفاء وهي محور سورة آل عمران، إذ تدور السورة كلها حول آيتين محوريتين وهما قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(آل عمران:33-34).
وهكذا وكأن سور القرآن تعالج قضية كبرى، ابتداء بقضية العبودية في سورة الفاتحة وقضية الإسلام في سورة البقرة وقضية الاصطفاء في سورة آل عمران وانتهاء بقضية الالتجاء إلى الله والاحتماء به في سورة الناس.
أساس أخير ومهم من أسس التفسير نختم به حديثنا عن أسس التفسير، وهذا لا يعني أن هذه الأسس محصورة وإنما بالتأمل والاستقراء يمكن أن نستخرج أسسا أخرى ويمكن أن نعد هذه الأسس نماذج من الأسس المستخرجة من القرآن الكريم لتفسيره.
الاشتقاق الأكبر وأثره في فهم النص
فمن أسس التفسير “الاشتقاق الأكبر وأثره في فهم النص”. فالاشتقاق علم من أعظم علوم اللغة على الإطلاق، وأشدها تأثيرا في فهم دلالة التراكيب. وهو علم دال على ثراء العربية وسعة بحور اللغة. والأصل فيه إدراك المعاني، ثم ملاحظة سريان المعنى في كل الصور اللفظية المتناسلة الدالة عليه، والتي انتزع بعضها من بعض، أو عكس ذلك؛ بأن تجمع الألفاظ المتشابهة على نحو معين بغية الوصول إلى المعنى الذي تدور حوله، إضافة إلى أنه تستخرج به من اللفظ الواحد صور بالغة الكثرة في تعبيرها عن الأحوال والهيئات والاحتمالات والفوارق الدقيقة التي تطرأ على المعنى الواحد باعتبار تنوع المشخصات واختلاف الأحوال، بحيث يستخرج لكل حال صورة من صور اللفظ.
ثم هو علم واسع دقيق فيه مؤلفات كثيرة، وإنما أردت هنا نوعا محددا من أنواع الاشتقاق، وهو نوع تنوعت أسماؤه عند العلماء، فسماه الفخر الرازي في “مفاتيح الغيب” “الاشتقاق الأكبر”. وتبعه محمد راغب باشا في كتاب “السفينة” له، وتبعهما صديق حسن خان في “العَلَم الخفاق من علم الاشتقاق” وغيرهم…
وهؤلاء جميعا يتكلمون على نوع واحد اختلفت أسماؤه. قال الأستاذ عبد الله أمين في كتاب “الاشتقاق”: “الاشتقاق الكبار وهو انتزاع كلمة من كلمة أخرى بتغيير في ترتيب بعض أحرفها، بتقديم بعضها على بعض مع تشابه بينهما في المعنى والاتفاق في الأحرف”. ويسمى هذا الاشتقاق “قلبا لغويا” تمييزا له من القلب الصرفي الإعلالي وهو إبدال بعض أحرف العلة من بعض.
وقد أسميت هذا القلب اللغوي “القلب الاشتقاقي”، لأنه من مباحث علم الاشتقاق وأكثر ما يكون القلب الاشتقاقي في الكلمات الثلاثية، وبصيغتين في المادة الواحدة مثل: “جذبه، وجبذه” إذا شده إليه..
قال الإمام الفخر الرازي في “التفسير الكبير”: “المسألة الأولى: اعلم أن أقصر الطرق في تعريف مدلولات الألفاظ هو طريقة الاشتقاق، ثم إن الاشتقاق صيغة الماضية والمستقبل والمصدر، ومثل اشتقاق اسم الفاعل واسم المفعول وغيرهما منه. وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن الكلمة إذا كانت مركبة من الحروف كانت قابلة للانقلابات لا محالة، فنقول أول مراتب هذا التركيب أن تكون الكلمة مركبة من حرفين ومثل هذه الكلمة لا تقبل إلا نوعين من التقليب كقولنا “من” وقلبه “نم”.
وبعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة مركبة من ثلاثة أحرف، كقولنا “حمد”، وهذه الكلمة تقبل ستة أنواع من التقليبات، وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الثلاثة ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من التقديرات الثلاثة فإنه يمكن وقوع الحرفين الباقيين على وجهين، لكن ضرب الثلاثة في اثنين بستة، فهذه التقليبات الواقعة في الكلمات الثلاثية يمكن وقوعها على ستة أوجه.
ثم بعد هذه المرتبة أن تكون الكلمة رباعية كقولنا “عقرب، وثعلب” وهي تقبل أربعة وعشرين وجها من التقليبات. وذلك لأنه يمكن جعل كل واحد من تلك الحروف الأربعة ابتداء لتلك الكلمة، وعلى كل واحد من تلك التقديرات الأربعة فإنه يمكن وقوع الحروف الثلاثة الباقية على ستة أنواع من التقليبات وضرب أربعة في ستة أنواع من التقليبات، وضرب أربعة في ستة يفيد أربعة وعشرين وجها..”.
وعليه يمكن للمفسر أن يتوسع في تحليل لفظ “الملك” والملائكة جنس شريف من الخلق. أورد القرآن بعض أوصافهم وسكت عن بعض اكتفاء بدلالة الصورة الاشتقاقية للفظ الملك. إذ الأصل في اللفظ الدلالة على القوة والبأس، فكان الأصل في الملك القوة، تلك القوة التي تشيع وتسري في كل سماته وأوصافه؛ فهم لا يأكلون ولا يشربون وهذه قوة، وهم لا ينامون وهذه قوة، وهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهذه قوة. ومنهم خزنة جهنم وهم ملائكة غلاظ شداد وهذه قوة، ثم هم مع بأسهم وسطوتهم وقوتهم يجمعون إلى ذلك غاية الخضوع للحق، فهم يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وهم مع حملهم للعرش يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا.
كل ذلك يلفت نظر المفسر إلى توظيف قضية الملائكة في ترسيخ معنى عظمة الحق سبحانه من حيث خضوع هذه الأكوان العظمة لجلاله، يلفت نظر المفسر إلى جلال وعظمية القضية التي عرضها الحق سبحانه في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾(آل عمران:124-126).
وإذا ألفنا النظر والتأمل في المفردات القرآنية بهذه الطريقة انفتحت لنا آفاق رحبة في الوقوف على التصورات الكاملة التي أراد القرآن لنا أن نعرفها ونحيط بها. وذلك لأن الألفاظ حينئذ سوف تنثر لنا مكنوناتها ويبوح كل لفظ بما يحمله معناه من أبعاد، ولا يخفى أن هذا في غاية الأهمية في فهم القرآن.