قرية كأي قرية من ريف شرق الأناضول الشهير، ببساطته وطبيعته الخلابة، وفضائه الفسيح. لم تمسسها يد المدينة بسوء إلا فيما ندر من مقتضيات الحرث والزرع الحديث، تحوطها الجبال العالية على مد بصرك من كل جانب، وكأنما تطوقها بذراعيها لتحفظها من كل سوء.
ورد إلى خاطري عند رؤية تلك الجبال المحيطة قوله تعالى:” والجبال أوتادا”، وتذكرت ما ذكره الأستاذ محمد فتح الله عن جده شامل آغا عن الأوتاد في هذه القرية، يحكي الأستاذ عن ذلك فيقول :”كان هناك ثلة من العلماء حول جدي، كان جدي يكن لهم احتراما شديدا، وكان من ضمن هؤلاء على سبيل المثال، عالم اسمه “محمّد أَفندي”. هذا الرجل كان قد قضى حوالي ثلاثين أو أربعين عامًا إماما لمسجد قريتنا “قوروجق”. ويبدو أنه كان من الأشراف (السادة). وأذكر أن جدي “شامل آغا” كان يحكي عن هذا الإمام حادثة عجيبة حدثت معه فكان يقول: “قبل الحرب العالمية الأولى حدَث زلزال شديد،لم يبق في القرية منـزلا إلا و قد تهدّم، وكان أهل القرية جميعًا مضطرين بسبب هذا الزلزال إلى المبيت خارج منازلهم في بيدر القرية الواسع؛ ولم يكن أحد منهم ليتجاسر أن يبيت في منزله، لكن الأزمة بدأت تتفاقم وخاصة بعد هجوم الشتاء، وتساقط الثلوج ، وفي أحد الأيام التي كنت ذاهبا فيها إلى البيدر شأني شأن سائر الناس لَقِيَني هذا الإمام “محمد أفندي” ثم خاطبني قائلا: شامل آغا! إلى أين أنت ذاهب؟ فأجبته بأني ذاهب إلى البيدر، آمنُ مكانٍ للمبيت. فقال لي: “دع عنك هذا، وعُدْ إلى بيتك، وبت فيه بكل راحة قلب واطمئنان، وخذ مني هذا الوعد:” لو سقط حتى حجر واحد بسبب أي زلزال، فاحمله وادمغ به رأسي”. فأجبته قائلا: “من أين لك تلك الطمأنينة؟” فقال: ” لقد قدِم في هذه الليلة إلى قريتنا هذه فخر الكائنات سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم-، وكان يتبعه خلفاؤه الأربعة -رضي الله عنهم-،وكان سيدنا عليّ -رضي الله عنه- يحمل في يده بعض الخوازيق والأوتاد فسارعت بالاقتراب منهم، فإذا بالحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يلتفتَ إلي قائلا: مُلاّ محمد، هل هذه قريتك؟ فأجبته نعم يا رسول الله. فتوجّه نحو سيدنا علي قائلا: يا علي! وفي هذه القرية ثبت وتداً أيضا لكي لا تهتزّ مرةً أخرى. فقام سيدنا عليّ كرم الله وجهه بتثبيت واحد من الأوتاد التي كانت في يده على سهل منخفض من سهول القرية.”
كانت هذه الحكاية تتداعى إلى ذهني كلما مررنا بتل أو جبل في طريق ذهابي وعودتي من القرية، وفي أثناء الجولة الصباحية لمعالم القرية جولنا أحد طلاب الخدمة في ربوعها، ثم عرجنا على المقابر لزيارة الموتى والدعاء لهم، فزرنا قبر جد الأستاذ وجدته اللذين توفيا في يوم واحد، وقبر هذا العالم الذي ذكره الأستاذ في حكايته وقص علينا هذا الشاب تلك القصة السابقة.
من عجيب أمر هذه القرية أيضا احتفاء أهل القرية بضيوفها؛ فما مررنا بقوم جالسين وألقينا عليهم السلام إلا قاموا وردوا تحيتنا واقفين مبتسمين، كما لفت نظري حشمة النساء وتسترهن الشديد، فزي النساء الأرضروميات ذكرني بحديث مروي عن السيدة عائشة:” متلفعات بمروطهن”، فهو عبارة عن شال كبير واسع سابغ، أو قطعة واحدة من القماش تستر المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها، لذلك لم يكن غريبا علي أيضا ما قصه الأستاذ عن عشق جدته للرسول وصحابته الكرام وبكائها عند سماعها ذكره -صلى الله عليه وسلم-، أو أحدا من صحابته الأطهار، كذلك لم يكن غريبا علي أيضا ما حكاه الأستاذ عن والدته وكيف ختم القرآن على يديها في مدة قصيرة ، وكيف كانت نساء القرية يجتمعن معها سرا لقراءة القرآن وحفظه، فهذه التربة الطاهرة التي تحرص نساؤها على الحشمة والعفاف والتي كلأها الله بعنايته وحفظه، ودق فيها الرسول وخلفاؤه الكرام أوتاد الرعاية والاهتمام جديرة بكل فضل، إذ لم تتسرب إليها فيروسات الغرب المهلكة، ولم يغزها ما غزا عداها من سائر البلاد.
لكن ما شد انتباهي أكثر هو خط السكة الحديد الذي يخترق القرية من منتصفها، وهو بالنسبة لي مشهد عجيب إذ العادة قد جرت في ريفنا المصري أن يكون خط السكة الحديد خارج حدود القرية وعلى أطرافها، وغالبا ما كنا نراه إلا عند السفر، أو إذا كان لنا حقل يمتد عند تلك النواحي. أما أن يكون هناك خط للسكة الحديد في وسط القرية يتراءى للقاطنين فيها أثناء غدوهم ورواحهم فهذا ما لفت نظري وجعلني أتساءل مع من معي: متى أسس هذا الخط؟ وهل عاصره الأستاذ عندما كان طفلا يغدو ويروح في القرية؟ فأخبروني أن هذا خط سكة حديد (اكسبريس الشرق) أو (اكسبريس ارضروم)، وأن له محطة في حسن قلعة القضاء التابع له قرية كوروجك، وأنه يبدأ من محطة حيدر باشا باسطنبول، و يمتد حتى يبلغ مدينة قارص في أقصى الحدود الشرقية المحاذية للحدود الأرمنية الآذربيجانية، وقد أسس امتداد الخط من أرضروم إلى مدينة قارص عام 1939 أي بعد ميلاد الأستاذ محمد فتح الله بعام واحد، مما يعني أن الأستاذ كان يشاهد القطار في غدوه ورواحه بدءا من اسطنبول حاضنة الخلافة الإسلامية العثمانية وانتهاء بالحدود التركية في عصر الجمهورية، وأن هذه الرؤية كانت متاحة بشكل دوري كلما غدا القطار أو راح لأن الخط يقع في منتصف القرية تقريبا فهل كانت رؤية القطار تثير في نفس الأستاذ شيئا؟ وهل كانت تحفزه للهجرة والانطلاق لتبليغ دين الله في كل مكان تشرق عليه الشمس أو تغرب حسب وصية المصطفى- صلى الله عليه وسلم -وإرشاده؟ وهل كان مفهوم الهجرة في الخدمة وانتشارها في ربوع الأرض في شكل مؤسسات ومدارس صدى لرؤية هذا القطار؟ لعل شيئا من ذلك كله لم يكن، أو لعله كله قد كان، فإذا كان الشاعر العربي قديما عند رؤيته لطائر القطا يهيج شوقه ويناجيه بهذه الأبيات قائلا:
بكيت على سرب القطا إذ مررن بي فقُلتُ ومثلي بالبُكاء جَديرُ
أسِرْبَ القَطا هَل من مُعيرٍ جَناحَهُ لعلّي إلى من قَد هَوِيتُ أطيرُ
فمثل الأستاذ بشوقه وعشقه لدين الله ولخدمة عباد الله لا يبعد عنه هذا.
لفت نظري أيضا في القرية طبيعة الحياة الشاقة فيها؛فمناخها قاسي البرودة في الشتاء والذي عبر عنه الرحالة التركي الشهير (أوليا شلبي) بقوله:”إن القط في أرضروم إذا حاول العبور من سطح منزل لآخر في الشتاء فإنه يتجمد في المنتصف”،وطبيعة الحرث والزراعة في القرى بشكل عام وما يلازمها من رعي الأغنام والأبقار وما يقتضيه ذلك من يقظة وحذر دائمين، ودأب مستمر للعناية بالنبات والحيوان كل ذلك كانت ملامحه بادية أثناء تجوالنا في القرية مع تقدم سبل الحياة وإمكاناتها الحديثة، فما بالكم بالفترة التي قضاها الأستاذ في القرية في مقتبل عمره؟ وكيف صقلت هذه المشقة نفس صاحبها وعلمته الصمود والثبات والتحدي حينا، والملاينة والملاطفة حينا آخر للحفاظ على جهود العام كله وعدم تضييعها هباء.
آخر شيء يمكن أن أشير إليه في مقالي هذا أننا في أي مكان ذهبنا إليه أو حللنا فيه كنا ضيوفا على الأستاذ عبر مؤسسات الخدمة المنتشرة في طول البلاد وعرضها سواء أكانت سكنا للطلاب أو مضيفة في مدرسة نقيم فيها الليالي ذوات العدد، يستقبلنا في تلك المؤسسات طالب محب له محييا مرحبا، أو يقودنا مرشدا في رحلة من الرحلات،ويدعونا تحببا وكرما إلى مائدة عامرة بالخيرات واللذائذ التركية رجل أعمال أو تاجر ممن يسمون الأصناف من الذين نذروا أنفسهم وأموالهم لهذه الخدمة الجليلة ينفحنا كل منهم على حسب مشربه ومستواه الثقافي بحكمة بليغة وقول مأثور عن شيخه وأستاذه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومن ثم كان يتبادر إلى ذهني دائما في مثل هذه المواقف: طوبي لمن أجرى الله الخير على يديه، والمؤمن كالغيث نفع كله أو أينما حل نفع، وما الرفقة التي كانت معي في هذه الرحلة إلا غيض من فيض وقطرة من غيث هذه الخدمة المباركة ، وكأنهم خرجوا من مصنع واحد بل تربوا على عين رجل واحد، أراد أن تكون أمة صاحب الخلق العظيم متأسية بهديه -صلى الله عليه وسلم -فآتاه الله من حيث لا يحتسب.
لهذا كله سألت:هل حل شيء من غيث أستاذنا على قريته ومحضنه الأول؟ وهل كان لها نصيب من هذه المؤسسات الممتدة في أنحاء البلاد وخارجها؟ فكان أن وجدت المضيفة التي سكنت فيها والتي لا تخلو دائما من ضيف، وكذلك مدرسة صغيرة يسمونها هنا في تركيا صالون القراءة تخدم طلاب المدارس في تعليمهم، وتساعدهم في دروسهم وتأخذ بأيديهم إلى عالم القلوب المتوضئة، وترشدهم إلى سواء السبيل. ويشرف على هذه الخدمات طلاب كبار ليسوا من أهل القرية، ولكنهم شباب مهاجر من أماكن بعيدة. وكأن الهجرة والاغتراب صارت قدرا على سالكي هذا الدرب حتى في أوطانهم، يتدربون عليها شبابا يافعين، وكهولا ناصحين ومرشدين، وشيوخا يمدون الأجيال القادمة برصيد خبرتهم الوافر.
فأنعم بهم من رجال وأنعم بهذا مسلكا، واجعلنا يارب من الذين قلت فيهم في حديثك القدسي:” هم القوم لا يشقى بهم جليسهم” اللهم آمين.