الجمال كالخير والحق عصيّ عن التعريف، وهو نفس ما ذهب إليه جان برتليمي في بحثه حول علم الجمال حين قال: “إن نحن رجعنا إلى قدامى الفلاسفة لعلمنا أن الجميل، شأنه شأن الحق والخير، يعيش فوق العقل والمنطق والعمل، ولهذا فالجميل لا يقبل التعريف… والجمال يفهم من خلال الأشياء الجميلة.”
كما أن هناك مسألة بالغة الأهمية تكمن في التطابق الحاصل بين مفهوم الجمال والفن؛ فالفن ليس هو الجمال بل هو متضمن له، لكونه أشمل منه في المفهوم، لكن الجمال غير الفن. ومن ثم ليست هناك محاولة في الثقافة الإسلامية إلى جعل الجمال علماً، بل اتجهت الثقافة الإسلامية إلى تحرير الجمال والعمل الفني مما يحد الخيال أصلا، لأن الفن يرتبط بموضوعات غير قابلة للتحديد أصلا، ومن ثم يجب أن يكون متعالياً عن الفقه والقانون والقواعد، ولعلنا نوجه السؤال التالي: ما منطلقات الفن الإسلامي؟
كل ما في الكون موضوع الجمال
لقد كان أرسطو سبّاقا في القول بشمولية موضوع الجمال: “الجمال في الكائن الحي والشيء المكون من أجزاء يتولد من عدم التناهي في الكبر والتناهي في الصغر”. ومعنى ذلك أن كل ما هو موجود في الوجود يحمل إمكانية أن يكون موضوعَ الجمال. والمسلم باعتباره يرد كل شيء لله من حيث الخلق، يعتقد أن كل ما خلق الله وما سيخلقه هو موضوع للجمال: “كل شيء جميل” وقوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾(السجدة:7)، وبالتالي يصبح حتى المنبوذ والقبيح في عرف واعتقاد الناس موضوعاً للجمال. والمثال على ذلك أن القرآن نبه في كثير من النصوص إلى ضرورة تأمل بعض الموضوعات التي إن طرحت تبدو للسفيه ساذجة ومبتذلة، ولا تحمل قيماً جمالية، أو لا تصلح لأن تكون موضوعاً للعمل الفني أصلا، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾(البقرة:26).
فالعمل الفني مقصد من مقاصد الشريعة السمحاء، وجوب وجوده مصلحة إنسانية؛ فبه نُقوّم النفوس ونهذب طبائعها، ونُجلي عنها ما يكدرها من غموم وهموم، فحاجتنا إليه كحاجة الإنسان إلى الخضرة والزرقة، والعطر والشذى. فالعمل الفني من منطلق كونه يدخل ضمن مقصد التحسينات يكون حسب أبي حامد الغزالي: “ومثال الضروري من النعم: الماء والغذاء. ومثال الحاجة: الدواء واللحم والفواكه. ومثال المزايا الزوائد: خضرة الأشجار وحسن أشكال الأنوار والأزهار ولذائذ الفواكه والأطعمة التي لا تنخرم بعدمها حاجة ولا ضرورة”.
ومنه فكل ما خلق الله وما سيخلق لبقية الخلق قبل وجوب نداء الحق، يصبح موضوعاً للجمال، وبالتالي ليس هناك عمل فني رائع بموضوعه، بل هناك عمل فني رائع بحسب فهمنا وإدراكنا لمقصده.
منطلق الجمال
الله ذو الجلال هو منطلق الجمال وموضوعه الأول، لأن الله هو الجمال وخالق الجمال، ثم نفسه هو الجلال أسمى مراتب الجمال، ومن ثم يصبح الله هو الكمال وهو غاية العمل الجمالي. فالعمل الفني هو محاولة الوصول إلى كمال الشيء، ومن ثم يكون الفنان قد حاول أن يتمثل صفة من صفات الله وهي الخلق والإبداع، لأنه يشعر أن كل ما هو موجود وما ليس بموجود مرده إلى الجليل والجميل، أي إلى الله ذي الجلال.
ومن ثم فنحن نجد أن العمل الفني في الإسلام يرتبط بالله المبدع. ولعل الفنان المسلم أراد أن يجعل لنفسه الكوجيتو التالي: “أنا أبدع، إذن أنا موجود” ولقد ربط كبار المتصوفة العمل الفني بالله كذات متعالية عن الإدراك الحسي، فالجمال والجلال آية من آياته. ولعل هذا ما دفع الفيلسوف “إ. كانط” إلى تأليف رسالة حول “الجميل والجليل”.
ومن ثنائية الجمال والجلال نلاحظ أن العمل الفني في الإسلام لا يخرج عن مدار نقطتي جذب، أو بمعنى آخر أن الإبداع الفني يقع بين حدي الجمال والجلال. ونقصد من ذلك أن الجمال يفيد الرقة والروعة: الأنثى -الدنيا- الجنة، والجلال يفيد الشدة والرهبة: الفحولة -الآخرة- النار.
إن كل عمل فني في الإسلام هو محاولة إبراز الجانب الجميل أو الجليل في الأشياء أو كلاهما معاً كما فعل المعري في رسالة الغفران، أو ابن عربي في ترجمان الأشواق.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية حرمت على الفنان تخيل الله كصور مادية من مبدأ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾(الشورى:11)، فإنها أباحت له استجلاء الله في أياته ومخلوقاته. فالخط العربي تمثل لله الأبدي، كما أن في الكلمة والمعنى حضورا لروحه وجلاله.
وعي معنى الخلق الإلهي
إن الفنان في المنظومة الإسلامية أكثر الناس شعورا بحضور الذات الإلهية في الأشياء، لأنه وهو يمارس عملية الإبداع يدرك أن ما يقوم به في أغلب الأحيان هو مجرد محاكاة -ليس بالمعنى الإغريقي- لما أبدعه الله سبحانه وتعالى، وبالتالي فنحن نعي من خلال العمل الفني أسرار الموضوع؛ فكل ما هو مخلوق يحمل دلائل الجمال في ذاته، وبالتالي نحن ندرك الله في الجمالية الخالصة لكل موضوع. ومن ثم فلقد اتجه العمل الفني في التراث الإسلامي إلى إبراز الله سبحانه وتعالى في كل عمل فني بدءاً من الخط إلى العمارة والزخرفة. والدليل على ذلك ارتباط أكثر الأعمال الفنية بموضوعين رئيسين “المصحف” و”المسجد”، والغاية إبراز معنى الجلال والجمال في أكبر معالم الإسلام. ولقد حاول “بايير” أن يقرب هذه القاعدة في قوله: “كل عمل فني نعي من خلاله كيفية جماليته الخاصة”.
فالعمل الفني في الإسلام دوما يُتبع بمقولة جمالية “ما شاء الله”، وهي تدل على التعجب الذي أخذ باللب، فأدهش الحواس وداعب الأذواق. إنها مقولة تعكس وعي الذات بعظمة العمل الإنساني في محاكاة ما صنعه الله وأبدعه. وبالرغم من إيمان الفرد أن ما صنعه الإنسان وأبدعه لا يرتقي أبدا إلى إبداع الله سبحانه وتعالى.
إن الفن الإسلامي يترفع عن المحاكاة الطبيعية، ويتجه نحو المحاكاة الغائية. ونقصد أن الفن ليس هو محاكاة الطبيعة ونسخها كما هي، بل المحاكاة أنك تحاول محاكاة فعل الله ليس كما هو لأنه يستحيل، بل محاكاته من حيث الوصول إلى غاية وهي اكتشاف الله المبدع في أعمالنا.
العمل الفني إدراك الوجود لما أنت عليه
قلنا سابقا إن العمل الفني في التراث الإسلامي اعتبر كتجربة فردية، وبالتالي فهي غير مرتبطة بالتحديد الفقهي إلا في طريقة الإبلاغ والتقديم. ومنها نلاحظ أن العمل الفني هو الذي كان يبرز التجربة الوجودية للفرد، لأن العمل الفني هو الذي يعكس إدراك الذات للموضوع؛ وإدراكها للموضوع ليس وفق مبدأ ما ينبغي أن يكون (المشروط)، ولكن وفق ما هي عليه حالة الذات في تلك اللحظات الإبداعية (التحرر). لا نعني بذلك وجود حالة إدراك خالصة للموضوع، ولكن نقصد من ذلك أن الذات تترجم أحوالها الشعورية في متون العمل الفني. فلو كانت النفس في حالة شعورية منبسطة فالموضوع يترجم على أساس أنه جميل ورائع حتى وإن كان الموضوع مخالفا لما هو مألوف والعكس صحيح. ولقد عبر عبد القاهر الجرجاني عن هذه القاعدة في قوله: “اقرأ الشعر وراقب نفسك. فإذا رأيتَك قد ارتحت واهتززت (طربا) واستحسنت، فانظر إلى حركات الأريحة مهما كانت وعندما ظهرت”.
ولقد أكد علم النفس المعاصر هذه الحقيقة، فـ”فرويد” استطاع أن يدرك من خلال لوحة “موسى” على جدران الكنيسة الحالة النفسية للفنان الإيطالي.
إن العمل الفني في الإسلام هو في الحقيقة تجسيد لأنطولوجية الذات المنقسمة بين حالين: فإما “كن جميلا تر الوجود جميلا” أو “كن عليلا تر الوجود عليلا”.
القصدية
لا يخلو أي عمل فني من وجود ظاهرة القصدية أو الغرضية. ونقصد أن كل عمل فني في الإسلام مرتبط بهدف وقصد، وأن الفنان سواء أدركنا قصده أو لم ندركه، هو في حقيقة الأمر يحاول من خلال عمله أن يبرز علاقة ذاته بموضوع عمله، سواء كان القصد أن نعبر عن ما نفهمه أو ما لا نفهمه. وقصدية الفنان المسلم تتعلق في أغلب الأحيان في التعبير عن الموضوعات غير القابلة للفهم، فالزخرفة والمنمنمات والخط هي قمة التجريد في التراث الإسلامي، وبالتالي هي محاولة معرفة عالَم غير قابل للإدراك الحسي، مثل ما يجد المفسر نفسه أمام بعض آيات القرآن ﴿حم﴾، ﴿الم﴾، ﴿ن﴾، ﴿ص﴾..
والفارابي يعتقد أن العقل الفعال من حيث هو قوة مدركة، يجنح إلى محاولة فهم الأشياء وصورها، ليس فقط من حيث كونها أشياء مجردة، بل من حيث كونها أشياء ترتبط باللذة والغبطة والجمال. وهنا تكمن القصدية في العمل الفني: “ومع ذلك فإن الثواني والعقل الفعال، ليس واحد منها يكتفي في أن يحصل له بهاء الوجود وزينته، ولا الغبطة والالتذاذ والجمال بأن يقتصر على أن يعقل ذاته وحدها، لكن يحتاج في ذلك إلى أن يعقل في ذاته موجوداً آخر أكمل منه وأبهى (أي الله سبحانه وتعالى)”.
الجمال ملكة طبيعية
أغلب من تحدث عن الجمال في العالم الإسلامي، نظر إليه على أنه ملكة طبيعية في النفس البشرية، غير أنها متعالية بالعقل والنظر. وبالتالي فالعمل الفني نابع من ذات الإنسان التي تستشعر الجمال في الموضوع، فالفنان وهو يبدع عملا ما، هو في الحقيقة يفجر مكبوتا طبيعيا في ذاته.
والعلاقة الموجودة بين ملكة استشعار الجمال والموضوع، تكمن في أن الموضوع يكون قابلا للتفنن إذا وجد في النفس طبيعة قابلة ومنقادة له. ومعنى ذلك أن العمل الفني هو نتاج علاقة الذات بالموضوع، فكلما وجد الموضوع نفساً قابلة له، اكتسب شروط التمثل الجمالي، يقول أبو حيان التوحيدي: “إن الطبيعة مرتبتها دون مرتبة النفس، تقبل آثارها وتتمثل بأمرها، وتكمل بكمالها، وتعمل على استعمالها وتكتب بإملائها، وترسم بإلقائها.. فالموسيقار إذا صادف طبيعة قابلة، ومادة مستجيبة، وقريحة مواتية، وآلة منقادة، أفرغ عليها بـتأييد العقل والنفس لبوساً مؤنقا، وتأليفا معجبا، وأعطاها صورا معشوقة، وحلية مرموقة، وقوته تكون في ذلك بمواصلة النفس الناطقة”.
قد نفهم من النصوص التراثية أن العمل الفني ليس مجرد محاكاة للطبيعة، بل هو تطويع لها، فعوض أن تكون الذات منقادة للموضوع يكون الأخير هو المنقاد لها. وتلك هي مهمة الإنسان في الوجود.
العمل الفني فوق منطق المنفعة
العمل الفني عند المسلمين غير مرتبط بالمنفعة، باعتبار أن الجمال مطلب ذاتي غير مرتبط بمنطق الضرورة الفيزيائية أو البيولوجية التي تتحكم في الإنسان. ومن ثم فالعمل الفني عند فلاسفة الإسلام يتجه نحو منطق اللذة والذوق وليس إلى المنفعة، لذا يقول فيلسوف الشرق أبو حامد الغزالي: “إن كل جمال محبوب عند مدرك الجمال، وذلك لعين الجمال، لأن إدراك الجمال فيه عين اللذة..”.
إن العمل الفني في لحظات إبداعه الأولى يرفض منطق المنفعة لأن منفعته في ذاته، فهو نوع من إثبات الذات لذاتها خارج موضوعات الإثبات الفيزيائي. ومن جهة أخرى إن المنفعة تحدّ من قيمته التبادلية أو الاستعمالية، في حين أن العمل الفني لا يحمل القيمتين السالفتين، لأن قيمته في ما هو عليه.
إن لذة العمل الفني تكمن في قدرة الذات على اكتشاف ما تركه الله للبحث والتقصي. فالله سبحانه وتعالى عندما ينبه الإنسان إلى تأمل النمل والعنكبوت والطير والنبات.. فهو يريدنا أن نفجر مشاعر الجمال المكنونة في ذواتنا لكي نكتشف المجهول فنصل إلى إدراك الجليل والجميل ومن ثم إدراك الحكمة من الخلق والصنع.
العمل الفني ممارسة ذوقية
إن العمل الفني في الإسلام يعتبر من حيث ارتباطه بالفرد الذي أبدعه، تجربة ذوقية خاصة تعكس ما يختلج في الذات من أماني وآمال، من لذات ورغبات، كما هو في نفس الوقت تنفيس عن ما هو في قرارة اللاشعور المكين. فالعمل الفني يعكس في كثير من الأحيان الحرمان والكبت، كما يصور الخيبة والهزيمة. إن المبدع في كثير من الأحيان يحاول أن يجسد ما لم يستطع أن يجسده في الواقع. فالعمل الفني قبل أن يُهدى إلى سلطان أو فلان، إنما هو في الحقيقة تعبير عن خبرة شخصية يجد فيها الآخر (المُتلقي) المظهر الجمالي أو المنفعة الخاصة. والمتصوفة يعتبرون التصوف حالة ذوقية صرفة، تتذوق من خلالها الذاتُ حلاوةَ الوصل والاتصال الروحي، وتعكس حالة الوجد والهيام. فالذوق السليم مطلب كل طالب للجميل والجليل.
التجريد والتوحيد
جاء الإسلام في فترة كان يغلب المحسوس على المعقول، والتجسيد على التجريد، فكانت الآلهة عند العرب تُنحت من الأشياء (علة تحريم الصور في المرحلة الأولى)، فالرب لابد أن يجسد في شكل ما (حي أو جامد)، وبالتالي ارتبط كل عمل فني في ما يسمى بالجاهلية بالتجسيم. فالشعر الجاهلي يحوي من الصور البيانية الخلابة ما لا يمكن إحصاؤه أو حصره، وعُدّت من صور البلاغة الكبرى، لكنها لم تستطع أن تخرج عن عالم الأشياء والحس.
ولذا انخرط المبدع والفنان في عصور الإسلام في العمل الفني التجريدي من منطلق التوحيد، الذي يفرض على المسلم أن يتعامل مع الله سبحانه وتعالى وعالم الغيب والشهادة بالعقل المجرد فقط. إن الله لا يمكن أن ندركه بالحس ولا بالعقل، لكن يمكن أن نتمثله بصور مجردة أو رموز تحمل دلالات ميتافيزيقية.
لم يجد المبدع الإسلامي حرجاً في توظيف كل ما يمكن أن يؤدي إلى الغرض السابق، ولذا اختار حقول “الخط”، “الزخرفة”، “العمارة”، “المنمنمات”، وهناك مجالات أخرى لا يمكن أن نسردها في هذا المقال كالشعر، والخطاب الصوفي، وتصورات الفلاسفة.
الغايات من العمل الفني
العمل الفني في الإسلام غير مرتبط بالعجائبية والفرجة كما هو الحال في الفن الإغريقي، ولا يرتبط بغائية نفعية من جهة أخرى. إن غاياته المثلى ترتبط بإيجاد عالم ذاتي للفنان يتدرج فيه من مقام النفس إلى مقام القدُس -كما يقول أبو حامد الغزالي- أو يتدرج فيه من عالم الفناء إلى عالم البقاء. والتدرج هو محاولة إدراك العالم اللامتناهي إدراكا يجعل من ذاته تنسج خالص شعورها عن الكون والعالم والحق الذي هو الله سبحانه وتعالى. ومن جهة أخرى ليس الغاية من الفن التعويض، ونقصد أن يتحول إلى قيمة سلبية مرتبطة بنية جعل الفن مجرد وسيلة نحقق من خلالها الكثير مما يحتاجه البشر في حياتهم، أي أن يتحول الفن إلى صناعة من الصناعات التي تخضع لمعيار الجودة والمنفعة. لكن العمل الفني في الإسلام مشروط أساسا بالله سبحانه وتعالى، فهو نوع من العبادة الإيجابية لها مراتب ومدارج، تنتقل من ما هو ضروري إلى ما هو متعالٍ: “لذلك كان إدراك حدود الإدراك غاية الإدراك وبداية الفهم الحقيقي لآيات الوجود مرقاة للشهود، بل إن الشعر ليس إلا تعبيراً عن هذا الإدراك الأسمى”.
إن حب الخلود يتطلب الفناء في ذات الأبدي السرمدي، ووعي الخلود لا يمكن أن يتذوقه إلا الفنان الرسالي (الفيلسوف، المتصوف، الشاعر…). فهو يدرك فناء الجسد والصورة التي هو عليها، لكنه يدرك خلوده في ما أبدعه بفضل ما وهبه له الله سبحانه وتعالى من مدارك ومخارق. فالخلود يتجلى في العمل الفني عندما يمارس الفنان معاناة الفناء في ذات الأبدي: “أفضل عمل فني هو التاريخ الإنساني، عندما يكون حصيلة الآيات جميعاً، فيصبح مصدراً للفن غير التعويضي، للفن الناقل من الفناء إلى البقاء”.
المخيلة والعمل الفني
اعتقد فلاسفة الإسلام أن النفس الناطقة تمتلك قوى متعالية عن المحسوسات تدرك بها العالم وصوره المختلفة. ومن بين أهم تلك القوى المُتخيلةُ التي تصنع المتخيلات التي لا تعكس المعقولات، ولكنها تستطيع أن تتمثل ملامح المعقولات في صور مفارقة لما هو موجود أو مألوف، وأن تلك القوة المتخيلة تسبق دوما القوة المتعقلة. فلو كان الإنسان قوة عقلية أو حسية فقط لانعدم وجوده الإنساني. فالمتخيلة باعتبارها قوة في النفس، تمكن الفنان المسلم من إبداع صور غير مألوفة، والسبب في ذلك حسب الفارابي، أن النفس قبل أن تستكمل كمالها لابد لها من تلك القوى حتى تعقل وجودها العيني: “وأما الأنفس فإنها ما دامت لم تستكمل ولم تفعل أفعالها كانت قوى وهيئات فقط معدة لأن تقبل رسوم الأشياء، مثل البصر قبل أن يبصر، وقبل أن تحصل فيه رسوم المبصرات، والمتخيلة قبل أن تحصل فيها رسوم المتخيلات، والناطقة قبل أن تحصل فيها رسوم المعقولات وتكون صورا”. والمُخيلة تستطيع أن تنفذ بما لها من نفاذية في كل شيء، وهي متحررة لكونها لا يمكن أن تكون متخيلة إلا في كونها حرة. وقد نبه الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى تلك القوة الكامنة فيه، حين طلب منه إن استطاع أن ينفذ من أقطار السموات أن ينفذ، ولكن نفوذه لا يكون إلا بسلطان، وأنا أعتقد أن ذلك السلطان هو المتخيلة.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم في أحرج لحظات الدعوة، يسبح بالمؤمنين في عالم المُخيلة المرتبطة باليقين. فالأعداء كانوا يطوقون المدينة، ولم يجد المسلمون وسيلة سوى تخندق في خندق أقامه سلمان الفارسي، لكن وفي عز الأزمة يهلل الرسول صلى الله عليه وسلم حين ضرب الصخرة: “الله أكبر فُتحت فارس.. الله أكبر فُتحت مصر..”. إن شعور المسلم في تلك اللحظة لا يمكن أن نفصله عن مخيلته، والتي حتماً أخرجته من جحيم الحصار إلى نعيم الوعد. لقد سبح كل مؤمن خلف تلك الصيحة ينظر إلى أرض فارس ومصر والشام، رغم أنه في تلك اللحظة موجود في مكان مُطوق وضيق.
إن الله عندما يضرب الأمثال للناس يريد أن يُفجر فيهم المُخيلة، فلا يمكن أن ندرك الأشياء بالحس والمشاهدة. فالجنة كنعيم أبدي وجهنم كشقاء سرمدي يستحضرها الإنسان بمخيلته، رغم أننا لا يمكن أن نتصور الجنة والنار كما ستكون، ولكن نحن ننفذ إليها بالمخيلة ولو نسبياً. والجمال باعتباره لغة رمزية راقية ارتبط بالخيال، لأن الرمز لا يمكن أن يكون إلا في وجود المتخيلة.
الجمال والكمال الإنساني
الهدف من الفن في الإسلام الوصول إلى تجديد الصلة بالله سبحانه وتعالى عن طريق آخر، غير طريق العبادات المتعارف عليها. إن الفن هو محاولة الوصول إلى الإنسان الكامل من منظور إسلامي خالص. إن الفنان المسلم يحاول أن يصل إلى الكمال النسبي حين يحاول أن يتمثل الله سبحانه وتعالى في آياته وخلقه. فالمحاكاة لا تعني نسخ صور الطبيعة بقدر ما هي محاولة إثبات قدرة الإنسان، إنه يتمثل الله سبحانه وتعالى في خلقه وإبداعه، إنه نوع من الكوجيتو بين الإنسان والله سبحانه وتعالى: “أنا أبدع، إذن أنا كامل”. إن الله ندركه من خلال هذا الكوجيتو، فنحن نعرف من خلال أروع عمل فني أن الإنسان عاجز أن يخلق أو يبدع مثلما أبدع الله سبحانه وتعالى، لكن رغم ذلك نشعر بالفرحة حين نستطيع أن نبدع صورا فنية تحاكي في روعتها الصورة الأولى.
إن موضوع العمل الفني في الإسلام له شجون وفنون، لا يسعنا أن نقدمها في هذا العمل، ولكن يمكن القول إن العمل الفني يحمل أبعادا ويستطيع أن يجد لنفسه مكاناً ومنـزلة في فضاء الفن العالمي.