أيهما أسبق، أو ينبغي أن يكون هو الأسبق في حياة الإنسان الفكر أم السلوك؟
1- أعتقد أنه سؤال سهل غير معقد وأن من اليسير معرفة الجواب عنه لكل أحد. فما من شك أن السلوك إنما هو ثمرة الفكر والتصور، ومن ثم فالفكر هو الأسبق دائماً أو هو الذي يجب أن يكون الأسبق في حياة الإنسان.
وكلما كان الفكر أدق وأصوب، كان السلوك أكثر تناسباً مع جوانب الحياة وأقرب إلى تحقيق الأهداف المرجوة.
وعلى الرغم من أنهم يقولون “ما من قاعدة إلا ودخلها الشذوذ” فإننا لا نكاد نعثر على أي شذوذ أو استثناء عن هذه القاعدة.. إن الإنسان -أياً كان- ما دام عاقلاً سويّ النظر والتفكير، لابد أن يكون سلوكه -أياً كان- نتيجة تصور مبدئي وقرار فكري، مهما صغر الموضوع الذي يتعلق به السلوك أو كبر، فتلك هي القاعدة.
2- والآن، بوسعنا أن نطرح سؤالاً آخر: ما هو الموضوع الكلي الذي تندرج تحته آلاف الجزئيات التي يتناولها الفكر الإنساني، ومن ثم يتعلق بها السلوك وتغدو ساحة لنشاطات الإنسان تجاه ذاته وغيره؟
لا شك أن هذا الموضوع الكلي إنما هو الكون والإنسان والحياة. فمهما كانت المسألة التي يفكّر فيها أحدنا ليتخذ قراره السلوكي في حقها، فإنها لن تكون إلا واحدة من جزئيات هذا البيان الكلي الذي هو الإنسان والحياة وسائر المكونات.
وإذا كانت القاعدة التي بدأنا حديثنا هذا بالتذكير بها صحيحة وكلية، لا يدخلها ريب ولا شذوذ، فإن من الضروري أن نبدأ فنسعى إلى فهم هذا البنيان الكلي الكبير، قبل أن نغرق أفكارنا في خضمّ جزئياته. فإن السعي إلى فهم أجزاء أو جزئيات شيء ما، قبل فهم الكل أو الكلي الجامع لأشتاتهما، سعي لا طائل منه، بل النتيجة هي أن يعود صاحب هذا الحق بتصورات زائغة وفهوم خاطئة لتلك الأجزاء أو الجزئيات المتناثرة.
فإذا تجاوز الإنسان مرحلة التصور والفهم، إلى السلوك والفعل، ازداد أثر أخطائه اتساعاً. إذ تتحول من نطاق الأخطاء النظرية إلى الضرر الواقعي والتطبيقي. ومن شأن الضرر الواقعي أن يتسع ويمتدّ، ثم لا يزال يتسع ويمتد إلى مدى لا يعلم حدوده ومضاعفاته إلا الله عز وجل.
3- أما الآن، فيحين أن نتساءل بجدّ: ما مدى اهتمام علماء الاجتماع اليوم بهذه الحقيقة؟ وما هو مظهر تطبيقهم لهذا المبدأ الذي فرغنا من بيان أنه مبدأ علمي سليم؟
إن علم الاجتماع اليوم ليس أكثر من مرآة تبرز حال كل أمة أو دولة، لتتجلى عليها الآثار السلوكية للمذهب الفكري السائد في تلك الأمة. فهو تابع غير متبوع مقود غير قائد.
ومن ثم فإنه لم يحلّ إلى اليوم لأي من هذه المجتمعات أي مشكلة على كثرة المشكلات الاجتماعية وتنوعها، ولم يحقق لها أي خير على الرغم من شدة افتقارها إلى شيء من الخير والإصلاح. والسبب هو أن هذا العلم ينطلق في رسم المجتمع من واقع سلوكي فرض نفسه، لا من فكرة تقوم على حياد القرار العلمي.
إذن لن نجد لأنفسنا من خير لدى علم الاجتماع، ولن نعثر في شيء من المذاهب السائدة فيه على ما قد ينجدنا لحلّ أي مشكلة. ولذا فلا مناص من أن نعود فنواصل سعينا إلى حلّ هذه المشكلة باستخدام القاعدة التي فرغنا من بيانها وعرفنا أنها الحق الذي لا ريب فيه. أي فلابد من أن نبدأ السعي إلى تحصيل تصور علمي سليم لحقيقة الكون والإنسان والحياة، ومن ثم إلى معرفة قصة الرحلة الإنسانية والنهاية التي تنتظره في أعقابها.
ومهما كانت الأداة العلمية التي يمكن استخدامها للوصول إلى هذا التصور المتفق مع العقل والمطمْئِن للنفس، فإن النتيجة لابد أن تتلخص في معرفة ما يلي:
هذه الخليقة تتسم بالنظام الهادف الذي يبرز جلياً في كل ما تنطوي عليه من دخائل وجزئيات وأجزاء.. إذن فلابد أنها من صنع صانع ذي حكمة وتدبير.. ثم إن هذه الخليقة بكل جوانبها وأجزائها وأنواعها، تتسم بالوحدة ضمن الكثرة. يبرز ذلك في دورانها الدائب على محور واحد لا يتبدل، كما يتجلى في تناسقها المتضافر ابتغاء السعي إلى غاية واحدة.. إذن فلابد أن صانعها ومدبرها واحد لا ثاني له. ولن تجد من برهان علمي على هذه الحقيقة أدقّ ولا أجلى من برهان قول الله عز وجل: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾(الأنبياء:22).
ثم إن الوحي الإلهي تنـزّل ليكسب هذا البرهان العقلي والعلمي مزيداً من التأكيد والرسوخ، وليضيف إلى هذه المعلومة كثيراً من التفاصيل التي لا يمكن أن يستقل العقل وحده بكشفها والوصول إليها، إذ هي داخلة في الغيوب التي لا تخضع لوسائل التجربة والحس، فلا مطمع في الكشف عنها إلا بواسطة النص المُعْلِم بشأنها الشارح لتفاصيلها، على أن يثبت بالبرهان العلمي أن هذا النص إنما تنـزل وحياً من لدن صانع الكون ومبدعه إلى من قد اختاره رسولاً منه إلى الناس، يبلغهم من خلاله جملة البيانات والتعاليم التي ينبغي أن يعرفوها عن الكون والإنسان والحياة.
ولو أن الفلاسفة اليونانيين أتموا معارفهم العقلية التي أكدت لهم ضرورة وجود الصانع وكونه متصفاً بالحكمة والعلم والتدبير، بالإصغاء إلى الوحي الإلهي متمثلاً في النص، أو النقل المتمم للعقل، إذن لما تاهوا ولما اضطربوا في تصورهم لهذا الإله الصانع، ولما توهموه مرة في العقول العشرة، ومرة في إلهين واحد منهما للخير والآخر للشر، ولما ذهبوا في تصور علاقة هذا الصانع بمصنوعاته مذاهب شتى.
وإن العجب لا ينتهي من شأن هؤلاء الفلاسفة، كيف استطاعوا استعمال عقولهم في بعض الأمور إلى أقصى ما أمكنهم الوصول إليه من أغوارها البعيدة، وكيف عجزوا عن إدراك أمور أخرى إلى جانبها فلم يستطيعوا استعمال عقولهم حتى في الوصول إلى دراية سطحية لها!.. فعلى سبيل المثال؛ إن أي عاقل لا يعجز عن معرفة أن المسائل الغيبية التي لا تدخل في نطاق التجربة والحس، لا يستقل العقل وحده بمعرفتها معرفة صحيحة، بل لابد لذلك من تضافر كل من العقل والنقل معاً، غير أن أولئك الفلاسفة تاهوا عن هذه الحقيقة وعجزت عقولهم عن التنبه إليها، فحمّلوا عقولهم عبء كل من العقل والنقل معاً، وكانت النتيجة أن أورثتهم عقولهم -بدلاً من العلم بها- القلق والاضطراب، ولم تأت إليهم بأي طائل. ولقد ظلت هذه الآفة عالقة بالفكر الفلسفي، حتى جاء الفلاسفة الإسلاميون بكل فئاتهم، فنبهوا إلى هذا الخطأ الكبير وأبرزوا القسمة العادلة في منهج البحث بين كل من العقل والنقل، في بحوث مستفيضة تعد بحق من أبرز مزايا الفلسفة الإسلامية، ومن أهم ما استدرك به العلماء والفلاسفة الإسلاميون على الفلاسفة الإغريقيين.
4- والآن، ما هي الصورة التي عدنا بها عن هذه الموجودات المتمثلة في كل من الكون والإنسان والحياة، بعد أن اعتمدنا في السعي إلى فهمها على كل من صريح العقل وصحيح النقل؟
لقد علمنا أن هذه الموجودات في مجموعها، كل واحد متناسق، وأن الإنسان في داخل هذا الكلّ أشبه بالنواة القائمة في داخل الخلية. فما تتحرك هذه الأجرام الكونية، ماضية في أداء مهامّها، إلا حول محور الإنسان، وما تسعى إلا في خدمته ولرعاية مصالحه.
أما الإنسان ذاته، فهو أكرم مخلوق على الله عز وجل، متّعه بظلال من صفات ذاته العلية، لتؤهله لعمارة الكون والخلافة عن الله في إقامة موازين العدل ورعاية الأسرة الإنسانية على خير وجه، وهو الوجه الذي ارتضاه الله عز وجل لها.. وقد أنبأه الوحي الإلهي بقصة نشأته وكيفية تكاثره فوق هذه الأرض، وأكد له خبر النشأة الثانية بعد الموت والجزاء العادل الذي أعدّ له على كل ما قد قدّمه في حياته الدنيا من خير وشر، كما أكد له أن هذه الحياة التي يعيشها اليوم ليست إلا ممراً إلى مقرّ.
5- ونظراً إلى ما أثبته كل من العقل والنقل من أن الصانع لهذه المكونات والمتصرف فيها واحد لا ثاني له في ذاته وصفاته، فلابد من اليقين بأن شيئاً من هذه الموجودات لا يستقل بأي قوة أو تماسك، بل لا يستقل بأي وجود ذاتي لا ابتداءً ولا دواماً. إذ لو استقل بشيء من ذلك في لحظة من اللحظات، منفصلاً عن المبدع والصانع، لكانت ثمة قوة غير قوته، تفعل فعلها منفكة عنه ودون احتياج إليه. ولابد أن تكون هذه القوة عندئذ قوة إله آخر قد استقل بمقومات الألوهية كاملة غير منقوصة. وهو ما قد رفضه العقل اعتماداً على أوضح الحجج والبراهين، وهو ما جاء النقل أيضاً برفضه والكشف عن تهافت القول به.
إن الوحي الإلهي يؤكد أن المكونات كلها كانت ولا تزال قائمة بإيجاد الله إياها ثم رعايته لهذا الوجود لحظة فلحظة، بحيث لو تخلى الله عنها لتفككت أجزاؤها وأجزاء أجزائها وذهبت هباءً ثم استحالت عدماً.
تأمل في قول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ﴾(فاطر:41)، وفي قوله سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾(الروم:25)، وفي قوله: ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾(القمر:13-14)، وفي قوله سبحانه: ﴿بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾(هود:41)، وفي قوله سبحانه: ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾(البقرة:255)، ومعنى القيوم: القائم على الدوام بشأن المخلوقات بحيث لو تخلّى عنها لحظة لانهار وجودها وانتهت إلى عدم.
إذن، فلا وجود لما يسميه الفلاسفة، ويقلدهم في ذلك المعتزلة بالقوة المودعة في الأشياء أياً كانت هذه الأشياء، جامدات أو نباتات أو حيوانات، لأن تصور كون القوة مودعة فيها يعني استقلاليتها في التصرف، وهو إقرار بمعنى واضح من معاني الألوهية لها، وهو يناقض وحدانية الله وألوهيّته التي ثبتت بكل من دليلي العقل والنقل.
6- فإذا تشبع الإنسان بفهم هذه الحقيقة، وفاضت من عقله إدراكاً ويقيناً على وجدانه اصطباغاً وشعوراً، تحقق عندئذ بتمام معنى العبودية لله تعالى، إذ يدرك أن لا موجد ولا معدم ولا ضار ولا نافع ولا محرك في الكون كله إلا الله عز وجل. ويعود إلى ذاته فلا يراها إلا مظهراً، بل نموذجاً لهذا العجز الكوني العام، وإنما هو في غدوّه ورواحه وتحركه وسائر تصرفاته وأعماله أشبه ما يكون بشاشة الاستقبال، إن انقطع عنها الإرسال عادت شيئاً هامداً جاثماً لا معنى بل لا وجود له.
7- غير أن الإنسان يملك شيئاً واحداً بتمليك الله له وتفضله به عليه، ألا وهو حرية اتخاذ القرار والقدرة على العزم على فعل ما يريد. وهي هبة حقيقية أكرم الله بها الإنسان ومتعه بها، لا مجال لإنكارها أو الارتياب فيها. والحس والتجربة خير شاهدين على ذلك. هذا هو العلم بأن رعاية الله مستمرة للإنسان ليستمر متمتعا بهذه الملكة الهامة، كما أن رعايته للإنسان مستمرة لبقائه متمتعاً بسرّ الحياة والوجود.
هذه الملكة التي يمتع الله الإنسان بها هي مناط التكليف وأساسه. فقصد الإنسان إلى الشيء وعزمه عليه هما مصدر الثواب أو العقاب. أما ما يتبع ذلك من الأفعال والحركات العضوية فمجرد مظهر وشاهد على القصد والتوجه القلبي، يخلقها الله في الإنسان عند توجهه إلى الفعل الذي يريد.
8- فإذا تكاملت هذه الصورة في وعي الإنسان، وتحولت إلى تصديق راسخ مبني على البرهان العلمي، فإن من المنطقي والطبيعي أن تنعكس على نظام الهيئة الاجتماعية، وأن تسير حياة الناس في علاقاتهم المتبادلة ووجوه أنشطتهم المتنوعة، وفق هذا التصور الذي تحوّل إلى تصديق علمي راسخ.
ولا شك أن من أهم الأخطاء التي لابد أن تترك سلسلة من الآثار السيئة على حياة الناس الفردية والاجتماعية، أن ينهض المجتمع الإنساني أو ينهض عمل أي فرد فيه، على ما يناقض أو يخالف تلك الصورة العلمية الثابتة لواقع الكون والإنسان والحياة.
وبوسعي أن أقرر جازماً أن سائر الصور المأساوية التي تفور بها المجتمعات الإنسانية اليوم، من طبقية تفرز ألواناً من الاستغلال بل الاستعباد، وعدوان يدفع إلى حروب طاحنة وإلى تربص الإنسان بأخيه الإنسان، وأنانية مستشرية تمزق أوصال الرحم الإنسانية وتحيل صفاء المودة إلى كيد وأحقاد.. هذه الصور المأساوية كلها ليست إلا نتيجة طبيعية للتشاكس، بل للتناقض القائم بين الحقيقة والسلوك.. أي بين ما هو ثابت ومعلوم من قصة الكون والإنسان والحياة، وما يختاره الناس لأنفسهم من أنماط السلوك والأصول والعلاقات الاجتماعية، بعيداً عن محاولة أي توفيق بين تلك الحقيقة الثابتة وهذه الأنماط السلوكية التي تقودها الشهوات والأهواء.
9- وما من ريب في أن أقصر وأنجع علاج للقضاء على هذه المآسي كلها، إنما هو مراجعة ما استقر في أذهاننا عن حقيقة هذا الكون الذي نعيش فيه، وقصة رحلتنا التي تتم في خضم هذه الحياة، وكنس الأوهام والأخيلة الباطلة التي تختفي وراء أقنعة العلم وعناوينه؛ ثم إعادة ترسيخ هذه الحقيقة العلمية التي لا مردّ لها، والتي تضافر على تأكيدها العقل والنقل. فإذا ساد اليقين بها، ثم تم ترسيخها تربية وتعليماً في قطاعات الناس وفئاتهم، نشأ على أعقاب ذلك مجتمع إنساني سليم مبرّأ من تلك المآسي كلها:
• لن تسوده الطبقية المستغلة أو المستعبدة، لأن اليقين بوحدانية الله تعالى يجعل منهم -على اختلاف طبقاتهم- عبيداً لله متحابين ومتآخين. فهم وإن تفاوتت فيما بينهم الدرجات والرتب، لا يشعرون إلا بأنهم سواسية في ظل عبوديتهم لله وحاجتهم الماسّة إلى رحمة الله. فهم في ذلك مظهر تطبيقي لقول الله عز وجل: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ﴾(الزخرف:32).
• ولن يسوده تسلط ولا عدوان، لأن اصطباغهم بمعنى وحدانية الله أورثهم يقيناً جازماً بأن لا قوة في الكون إلا قوة الله ولا نافع ولا ضارّ إلا الله عز وجل. ومن شأن هذا اليقين أن يحرر الضعفاء من سلطان المستكبرين ويرقى بهم إلى صعيد الكرامة الإنسانية الصافية، وأن يحطّم شموخ المستكبرين وطغيانهم ويهبط بهم إلى صعيد العبودية لله عز وجل. وتنظر، فإذا الكل متساوون متواسون، لا يسمو واحد على صاحبه إلا بالتقوى والعمل الصالح… ولن تجد مظهراً يجسّد هذه الحقيقة في كتاب الله عز وجل مثل حديثه عن سحرة فرعون، كيف جعلهم الشرود عن معرفة أنفسهم والكون الذي حولهم أذلّة صاغرين، ثم كيف حرّرتهم معرفتهم لأنفسهم وتوحيدهم للخالق عز وجل من ذلك الذل والصّغار، وسمت بهم إلى حيث يهزؤون بفرعون وسلطانه ويستخفون ببطشه وطغيانه. انظر إلى قوله عز وجل: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾(طه:70-73).
• ولن تمزقهم فرقة، كما لن تتوازعهم دوائر الأعراق والأقوام والشعوب واللغات.. لأن اجتماعهم على اليقين بوحدانية الله، ذاتاً وصفات وأفعالاً، يشدّهم إلى معنى الأسرة الواحدة التي تحيا وتتحرك تحت مظلّة البر برب هذه الأسرة. وإذا كان المجتمع الإنساني أسرة واحدة في الحقيقة، فلا شك أن ربها هو الله عز وجل. ومن الطبيعي بل من الضروري في ظل هذا الشعور الوحدوي الجامع، أن تذوب بينهم فوارق الأعراق والألوان والشعوب واللغات.
وأنا ألفت النظر إلى أنني أقول: تذوب فوارق الأعراق..إلخ، ولا أقول: تذوب الأعراق والألوان.. نفسها. وفرق كبير بين دلالة التعبيرين. إن شعور الإنسان بمعنى عبوديته لله عز وجل وتحققه بهذه الهوية وبالنسبة إلى أعضاء الأسرة الإنسانية الواحدة، ليس من شأنه أن يذيب تعددية الأقوام أو اللغات أو الشعوب.. ثم يصهرها ويصبّها في قالب بشري واحد ينطق بلغة واحدة وينتمي إلى عرق واحد أو ينحدر من سلالة واحدة، فإن هذا باطل من التصور والقول.. بل هو يناقض النظام الذي أقام الله عليه هذه الخليقة من عباده. فقد قضى الله عز وجل أن يكونوا كثرة في الأعراق والألوان والشعوب واللغات، على أن تحتضن كثرتهم هذه وحدةٌ عامة شاملة يجسّدها سلطان العبودية لله الواحد الأحد، ويجمعها نسق السير على ما يرضي هذا الإله وحده.. فهم في تلك الكثرة المشمولة بسلطان هذه الوحدة أشبه بالأغصان الكثيرة المتشعبة تتفرع عن جذع واحد، وتأخذ غذاءها وقانون نموّها وتماسكها من أصل راسخ واحد. وما أجلى هذه الحقيقة وأجمعها في قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾(الحجرات:13).
• ثم إنهم لن يؤلّهوا طبيعة ولا مادة، ولن يستخذوا أمام أي من الشهوات والأهواء، لأن عبوديتهم الصادقة لله عز وجل تجعلهم لا يقيمون وزناً لغيره أياً كان.. إن الطبيعة والمادة، بكل ما قد يكون لها من أنظمة وقوانين، جند من جنود الله تعالى، يحرّكه لحظة فلحظة كما يشاء.. والأهواء والشهوات إن هي إلا عناوين فتنة وابتلاء، يستبين تحت فتنة حرّها الصادقون في عبوديتهم لله، إذ يلوذون بلطفه ويفرّون إلى حصن حمايته، فإذا حرّها المتأجج بردٌ وسلام، ويتميز الكاذبون في دعوى هذه العبودية، إذ يقبعون تحت أسرها ويستسلمون لأعاصيرها، فإذا الإله الحقيقي الذي يدينون له بالعبودية والولاء، إنما هو هذه الشهوات والأهواء. لا ربها وخالقها الذي جعلها لعباده مادة امتحان وابتلاء. وجلّ من قال في محكم كتابه: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾(الفرقان:43).
• ولكنهم في الوقت ذاته لا ينفضون أيديهم من استخدام ما سخّره الله لهم، وجعله طوع سلطانهم العقلي ثم العضلي، وأمرهم أن يتخذوا ذلك كله جنداً لهم في عمارة الأرض بأوسع معانيها الحضارية، كما حذّرهم من أن يبتعدوا أو يتنكروا للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها فيحرّموا حلالاً أو يضيّقوا على أنفسهم واسعاً أو يزهدوا فيما امتن الله عليهم بتمتيعهم به. فهم -وقد أيقنوا بوحدانية من بيده كل شيء، واصطبغوا بأتم معاني العبودية له والافتقار إليه- يظلون يعبّرون عن فقرهم إليه بمد الأيدي إلى عطائه والتقلب في كل ما يرد إليهم من نعمائه. ولا ريب أنهم بذلك خير من يدرك معنى قوله عز وجل: ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ﴾(سبأ:15)، ثم يتفاعل معه ويستجيب له عبودية وشكراً. ولقد ورد في ترجمة “معروف الكرخي” رحمه الله أنه كان لا يحرم نفسه من التمتع بالطيبات التي يكرمه الله بها. فإذا جاء من يذكّره بالزهد قال له: “إنما أنا ضيف عند ربي، إن أطعمني أكلت وإن منعني صبرت”، ولعمري لا يستبين الفقر إلى الله إلا عند مد يد الحاجة إلى عطاء الله. فمن كفّ يده عن الطلب من الله تعالى تعففاً وزهداً، فقد حاول بذلك أن يثبت عدم افتقاره إلى الله، وهيهات أن يستقيم له ذلك.
تلك هي الآثار التربوية والاجتماعية التي لابد أن يثمرها اليقين بوحدانية الله عز وجل. ومن مجموع هذه النتائج والآثار يتكون المجتمع الإنساني السوي والسليم، ويتكامل بناء الحضارة الإنسانية المثلى.
ومهما ظل الناس شاردة أفكارهم وتصوراتهم عن التنبه إلى الحقيقة الكونية التي لا تخفى على من سلّط عليها أشعة النظر العلمي المتحرر، ذاهلة عقولهم عن أن هذه الكثرة الكونية إن هي إلا ضغث في قبضة رب العالمين وحده يرعاه ويتصرف به كما يشاء، فلسوف يبقى لغز هذا الكون مستعصياً عن الحلّ مهما تفرعت واتّسعت بحوث العلماء، ومهما تعمقت نظرات الفلاسفة وعلماء الاجتماع. ومن ثم فلسوف تبقى المشكلات الإنسانية المختلفة في تفاقم وازدياد.
وإن في مآسي الدنيا التي من حولنا، والنُذر التي يمتد ضبابها وراء بريق المدنيات والحضارات، والضيق الذي ينتاب الصدور، والأمراض التي تجتاح الجسوم والنفوس، دون أن يتبدّى بريق أمل في إمكان التخلص من هذه الآفات، لأكبر شاهد على ما نقول.
تلك هي آيات الله في الآفاق.. وها هي ذي آيات الله في أنفسنا.. اجتمعت لتكون شاهد صدق على أن هذا الكون كله إنما هو مملكة الله، لا حكم فيه إلا لله، ولا أمل في الوصول إلى الخير الحقيقي والسعادة الاجتماعية المثلى إلا بالاصطلاح مع الله. فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟