عجيبٌ أمر هذا الإنسان! لقد وهبه الله تعالى من المواهب والملكات ما استطاع به أن يُحلِّق في الفضاء، وأن يغوص في أعماق الماء، وأن يُسخِّر الموجودات، ويستأنس المتوحِّش من الحيوانات… وهو -مع هذا كله- تستفزُّه كلمة عابرة ويثيره خطأ غير مقصود قد يقع عليه؛ فيثور ويغضب وتستخفُّه التوافه من الأمور فيستحمق على عجل ويحاول أن ينتقم لنفسه ويغضب لها ويثأر.
هذا صنف من الناس تجده أمامك في كل مكان وزمان، ولكنه ليس هو الصنف الوحيد بين البشر، فهناك مَن يتعالى على تلك المؤثرات النفسية التي تدفعه إلى الغضب والثأر من الآخرين، ويلجأ إلى الله سبحانه وتعالى يستمدُّ منه قوة الصبر والحلم، ويستعيذ بالله من نزغات الشيطان، فيكظم غيظه، ويعفو عمن ظلمه، ويتجاوز عمن أساء إليه أو أخطأ معه أو حاول أن يستثيره ويستفزَّه.
هل تستطيع أن تجد إنساناً مبرَّءاً من كل عيب، لا تصدر منه زلَّة تجاهك أو لا يقصِّر في القيام بحقٍّ من حقوقك، وبخاصة في مواقف هي محكُّ الصبر والحلم والكشف عن معادن الرجال، كالتعامل بين الناس والسفر والحج والزحام وغيرها من المواقف التي تشتبك فيها المصالح وتتعارض؟
إنك لو ذهبت تدقِّق الحساب مع أخيك على كل هفوة وعلى كل صغيرة وكبيرة، فلن تظفر بأخٍ لك وفيٍّ، خالٍ من العيوب ومبرَّأ من الزَّلَل، وستبقى عندئذ وحيداً فريداً.
ألا ترى كيف حرص الإسلام -أشدَّ الحرص- على توجيهنا إلى العفو، وهو التجاوز عن الأخطاء وترك العقاب عليها سماحةً ويُسراً وطيبَ نفسٍ. وإذا كان العفو من الله تعالى عن العباد هو تَجاوُزه عن ذنوبهم، فإنه من العباد ستر بعضهم على بعض.
العفو، سبب للتقوى
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾(الأعراف:199). هذا النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم، هذا المثَل الكامل والأسوة الحسنة، يخاطبه الله تعالى ويأمره أن يأخذ العفو اليسير الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا يطلب منهم الكمال ولا يكلِّفهم الشاقَّ من الأخلاق، بل يعفو عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم لتمضي الحياة سهلةً هيّنةً ليّنةً. فالإغضاء عن الضعف البشري والعطف عليه والسماحة معه، كل هذا واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء. ورسول الله صلى الله عليه وسلم راعٍ وهادٍ، ومؤدِّبٌ ومعلِّم ومربٍّ، فهو أول الناس وأولاهم بالسماحة واليسر والإغضاء.(1)
وكذلك كان عليه الصلاة والسلام؛ فلم يكن يغضب لنفسه قط، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، ولكن إذا انتُهِكت حرمة من حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، يغضب أشدَّ الغضب.(2) فإن شأن العقيدة والدين خطير عظيم لا يجوز التغاضي والتسامح فيه، أما ما وراء ذلك من المعاملات الشخصية والمالية، في الأخذ والعطاء وفي البيع والشراء وفي الصحبة والجوار… فإن المسلم مَدْعُو إلى العفو والتسامح وكظم الغيظ والمغفرة.
فالعفو سببٌ لنيل الأجر والثواب، وهو طريق -بعد ذلك- للشكر: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(البقرة:52).
وهو سبب للتقوى التي يسعى إليها المسلم دائماً: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾(البقرة:237).
وهو سبب للمدح والثناء، وسبيل إلى المغفرة والجنة مع جملة من مكارم الأخلاق وحميد الخصال: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(آل عمران:133-134).
إشراقات التقوى
فالتقوى هي القوة النفسية التي تكظم الانفعال البشري، وهو الغيظ بما يصاحبه أو يلاحقه من فَوْرَة الدم ومن مظاهرَ عضوية ونفسية، ولا يستطيع أن يغلبه الإنسانُ إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبعثة من إشراقة التقوى، وإلا بتلك القوة الروحية المنبثقة من التطلُّع إلى أفقٍ أعلى وأوسع من آفاق الذات والضرورات.
وكظم الغيظ هو المرحلة الأولى، وهي وحدها لا تكفي، فقد يكظم الإنسان غيظه ليحقد ويضغن ثم يثأر وينتقم، فيتحول الغيظ الفائر إلى أجنَّة غائرة ويتحول الغضب الظاهر إلى حقد دفين.. وإن الغيظ والغضب -على شدَّتهما- لَأنظفُ وأطهَرُ من الحقد والضغينة. لذلك تستمر الآية الكريمة لتقرير النهاية الطليقة لذلك الغيظ الكظيم في نفوس المتقين… إنها العفو والسماحة والانطلاق.
إن الغيظ وقرٌ على النفس حين تكظمه وشُواظ يلفح القلبَ ودخان يغشي الضمير… فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب، فهو الانطلاق من ذلك الوَقر والرفرفةُ في آفاق النور والسلام في الضمير… فإذا كان ذلك على أرض المشاعر المباركة بما فيها من قدسية المكان والزمان والعبادة… كان ذلك نوراً على نور وقوَّةً على قوة يهدي الله إليهما من يشاء.
هذا الأثر للعفو وهذه المكانة للصفح والتسامح، جعلتا أبا بكر الصدِّيق رضي الله عنه يعيد النفقة على مسطح بن أثاثة -وكان قريباً له- بعد أن انزلق وخاض في حادثة الإفك على الطاهرة المطهرة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكان أبو بكر يحسن إليه وينفق عليه لقرابته ولحاجته. فلما قال ما قال، حلف أبو بكر ألاَّ ينفق عليه ولا يصله كما كان يفعل، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(النور:22). فعاد أبو بكر بالنفقة عليه والعطاء قائلاً: “بلى، واللهِ إني أحب أن يغفر لي” (رواه البخاري).
العفو عزٌ وقوة
وأما النبي القدوة صلى الله عليه وسلم فقد بلغ القمة السامقة في العفو والصفح، كما بلغها في كل خلُقٍ من فواضل الأخلاق ومكارمها؛ فكان عفوه يشمل الأصدقاء والأعداء.
إن العفو ليس ذُلاً ولا مهانةً ولا عجزاً أو خَوَراً، ولكنه عزّ وقوة للإنسان ورجولةٌ وشجاعةُ نفسٍ. فمن يعف عن الخطأ ويتجاوز عن الذنب، أصبح بذلك قوياً شديداً، حيث ضبط نفسه لئلا يستخفَّه الغضب، وأصبح عزيزاً بعفوه، لأنه أكرم من غيره، وقد استطاع أن يرتفع إلى ذلك الأفق المشرق الوضيء وإلى ذلك المستوى العالي النظيف. أمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً” (رواه مسلم).
ذلكم هو المسلك النبيل والطريق القويم: ضبط النفس والعفو والاستعاذة بالله من نزغات الشيطان والوقوف عند آيات الله سبحانه وتعالى. تماماً كما فعل الفاروق عمر رضي الله عنه لما قال له عُيَيْنَةُ بن حصن: يا بن الخطاب، والله ما تقسم بالعدل ولا تعطي الجزل، فغضب عمر حتى همَّ أن يوقع به، فقال له الحُرُّ بن قيس: يا أمير المؤمنين؛ إن الله تعالى يقول: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ وإن هذا من الجاهلين، فخلَّى عمر سبيلَه وسكت. وكان وقّافاً عند كتاب الله.(3)
إن العفو مظهر من مظاهر الصحة النفسية واستقامتها بما فيه من محبة وأُلفةٍ وخيرٍ وإحسان وجهادٍ للنفس على الرفق والتسامي والاستعلاء، وبما فيه من معالجة للعدوان بالصفح الجميل والردِّ على الإفراط والتفريط بالاعتدال والاستقامة على الطريق، وهو الطريق والسبيل لاستبدال الأمن بالخوف، والإيمان بالشك، والأُلفة والمودة بالحقد والحسد، والمحبة بالبغض.
ـــــــــ
الهوامش
(1) انظر هذه المعاني في “تفسير الطبري” 13/303 وما بعدها، “تفسير البغوي” 3/316، “تفسير ابن كثير” 3-536-537، “في ظلال القرآن” 3-1419، طبعة دار الشروق.
(2) عن عائشة رضي الله عنها قالت: “ما خُيِّر رسول الله سبحانه وتعالى بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها” (رواه البخاري ومسلم).
(3) أخرج البخاري القصة في “صحيحه” كتاب الاعتصام 13/250 مع “فتح الباري”.