لا أعرف في حياتي يوماً سالت فيه شوارع دمشق وأزقتها وميادينها، بأمواج متلاطمة من الناس، كالذي حدث يوم الاثنين الواقع في 15 ذي القعدة سنة 1398، يوم شُيِّع شيخنا العالم المربي الشيخ حسن حبنكة الميداني إلى مثواه الأخير.
في ذلك اليوم، توقفت حركة دمشق أو كادت، وهجر الناس أعمالهم، وترك معظم الطلاب دروسهم، ونسُوا مدارسهم وجامعاتهم، وسار الكل مشياً على الأقدام في خطى وئيدة وسط زحام شديد، من دار شيخنا الراحل -رحمه الله- في أواسط حي الميدان إلى مسجد بني أمية الكبير، ثم من مسجد بني أمية إلى مثواه الأخير بجوار مسجد الحسن في حي الميدان (مسافة لا تقل عن 8 كيلو متر).
لم يكن ذلك اليوم العجيب زمناً مر وانقضى، ولكنه كان في الحقيقة سجلاً ثبت واستقر. سجلٌّ ارتسمت عليه صورة أمينة ودقيقة لمدى محبة أهل الشام لعالمها الجليل الذي ارتحل.. محبة صادقة نبعت من القلوب، ولم تُلصق إلصاقاً بالمظاهر والوجوه، فما قادهم إلى توديعه بالسير في ذلك الدرب الطويل شيء، غير تلك المحبة التي لم تكن ثمرة لأي رغبة مما قد تميل إليه النفس البشرية من أمور الدنيا وأسبابها، وإنما هي سر رباني ينطوي على أكبر الآيات الدالة على ما لهذا الدين من سلطان على القلوب.
وبيان ذلك، أن الناس -أيّاً كانوا- مفطورون على الحنيفية السمحة التي ابتعث الله بها جميع الرسل والأنبياء. فإذا توفر لهم سبيل تربوي سليم يقيهم غوائل النفس ومكر الشيطان، نمت هذه الفطرة كما تنمو الحبة في باطن الأرض، واستقرت لها جذور راسخة في القلب، ثم امتدت منها أغصان باسقة وثمار عظيمة إلى الفكر والنفس.
فما يبصر هؤلاء الناس عالِماً بدين الله، قد أخلص لله في علمه وعمله، إلا وأبصروا فيه مظهراً للفطرة التي أُشربتها قلوبهم وهفت إليها نفوسهم، فتعلقوا به من حيث هو تعبير مرئيٌّ ومحسوس عن الحقيقة الإيمانية التي تعلقت بها أفئدتهم. ولعل هذا بعضٌ من معنى الحديث الوارد بأن الله إذا أحب أحد عباده في الأرض، نادى ملك: “إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه” (رواه البخاري) فيكتب له القبول في الأرض.
وعلى الرغم من أن شيخنا الراحل -عليه رحمة الله- كان كغيره من عامة الناس -حاشا الرسل والأنبياء- غير معصوم، يجوز عليه السهو والخطأ والعصيان، فقد كان في حياته العامة والخاصة نموذجاً نادراً للمسلم العالم بدين الله، العامل بعلمه، الداعي إلى صراط ربه، الجريء في إعلان كلمة الحق وإبلاغها، المتخلق بأخلاق خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام.
وسأتناول بالشرح الوجيز بعضاً من هذه الصفات، مؤكداً للقارئ أنني لن أبالغ في بيان منقبة للشيخ ولا محمده، ولن أصفه إلا بما أعلمه فيه مشاهدة، أو بلاغاً من إخوة أجلاء لا يُرتاب بحديثهم. وقد عشت عمري هذا، ولا أذكر أنني سخّرت قلمي أو لساني لمدح من لا أثق بفضله، أو لقدْح من لا أستيقن مبرراً لقدحه.
علومه ومصادر استحصالها
كان عالماً غزير العلم، وأعني بغزارة العلم كلاً من صفتي العمق والاتساع معاً. فما كان يتناول المسائل العلمية بسطحية عابرة، بل كان يقف عندها وقفة المنقب والمعقب، ويصلها بكل ما قد يكون لها علاقة به من مسائل أو علوم أخرى. وكان في الوقت ذاته ذا بصيرة نافذة بمختلف علوم الإسلام؛ من عقيدة وفقه وأصول وتفسير وحديث، وبمختلف مايعدّ آلة له أو سبيلاً إليه؛ كعلوم العربية بأنواعها، والمنطق والمناظرة والفلسفة.
فإن سألتَ عن المصدر الذي تلقى منه الشيخ -رحمه الله- هذه العلوم، قلتُ لك: إنه كان قد طوى في سنوات شبابه عهداً من طلب الدراسة والعلم، قلّ أن يجد طلاب العلم اليوم مثله في الشدة والقسوة، فإن هم صادفوا ما يشبهه فقلّ من يتحمله ويصبر عليه، حتى يتجاوز حناظله المرة ويصل إلى ثماره الشهية.
لقد كان من الشيوخ الذي تلقى عليهم شيخنا -رحمه الله-: الشيخ محمود عطار، والشيخ أمين السويد، والشيخ بدر الدين، والشيخ عبد القادر الإسكندراني، والشيخ عطا الكسم، والشيخ سعيد البدليسي.
وكان من دأبه أن يحمل أوقار كتبه متنقلاً من واحد إلى آخر، يجشِّم نفسَه قطْع المسافات الطويلة التي تَفصِل ما بين هؤلاء الشيوخ، سيراً على قدميه في أكثر الأحيان.
ولم يكن إقباله على العلم بدافع من الهواية الذاتية، كما هو دأب كثير من العلماء والباحثين.. فما عرف عنه أنه عكف على دراسة علم من العلوم لمجرد أن له هوى في دراسته، بل كان همه أن يجعل من العلم الذي يقبل عليه -معلماً أو متعلماً- أداة في طريق الدعوة إلى الإسلام. وقد انعكس هذا الاهتمام على طريقة حياته الخاصة والعامة، وعلى الأسلوب الذي كان يعتمد عليه في التدريس والتعليم.
أما انعكاس ذلك في حياته الخاصة والعامة، فقد ظهر جلياً في ميله إلى التبتل والإكثار من العبادة منذ أوائل عهده بالدراسة وطلب العلم، دون أن يسبب له هذا الميل إعراضاً عن الدراسة أو فتوراً في عزيمته نحوها، ودون أن تقصيه الدراسة أو الرغبة في العلم عن عباداته وأوراده وأذكاره. ولقد علمت مما أخبرنا به الشيخ عن نفسه -رحمه الله- أنه كان يمضي معظم شهر رمضان معتكفاً في المسجد، وكان يجعل من اشتغاله بالعلم -مطالعة وتدريساً- أهم عبادة يملأ بها جلّ أوقات اعتكافه.
وإنها لطبيعة نادرة في طلاب العلم أن يجتمع لدى أحدهم حب العلم مع الإقبال على العبادة والاستئناس بالأذكار والأوراد، بل إن معظم من رأيناهم من طلاب العلم يتفرقون بين هذين السلوكين: فإما عكوف على العلم واستغراق فيه مع تقصير في الطاعات والعبادات، وإما اتجاه إلى العبادات والأذكار مع زهد في الدراسة والعلم.
ولعل مما يتصل بهذه المزية في شيخنا -رحمه الله تعالى- أن علوماً مختلفة، بل متباعدة، كانت تتلاقى في حلقاته الدرسية، قلّ أن تجدها تتلاقى على نهج مطرد من الاحتفاء والتقدير عند كثير من العلماء والباحثين. فلقد كنا نقرأ عليه -مثلاً- كتاب الخبيصي في المنطق، ونقرأ عليه إلى جانبه الحكم العطائية في التصوف، وكنا نقرأ عليه شروح العقائد النسفية في علم الكلام، إلى جانب زهر الآداب في علم الأدب…
وإني لأذكر جيداً كيف كان يبصّرنا في كل مناسبة، بالجسور الواصلة بين هذه العلوم المختلفة، وينبهنا إلى الجامع المشترك الذي تتلاقى عليه هذه العلوم مهما بدت متخالفة متفرقة بعضها عن بعض؛ ثم يؤكد لنا أن هذا الجامع المشترك يمثل الطاقة التي لابد من الحصول عليها، ابتغاء النهوض بشكل سليم بأعباء الدعوة إلى دين الله عز وجل. فالمنطق والفلسفة والأدب والتصوف وعلوم اللغة.. إنْ كل ذلك إلا أدواتٌ ذات أهمية قصوى في مجال الدعوة الإسلامية، يعلم كيف يسخّرها لذلك على أحسن وجه، كلُّ من أخلص دينه لله وابتغى في كل شؤونه وجه الله عز وجل.
دعوته إلى الله وروحه الجهادية
ثم إنه ما عُرف عن الشيخ -رحمه الله- أنه فصل يوماً ما في حياته، جهادَ العلم والتعليم في صفوف الطلاب وبين كتب العلم، عن الجهاد بصدع كلمة الحق في المجتمع وعلى مسامع الحكام. ما أذكر، وما يذكر أحد من طلاب الشيخ وإخوانه، أنه اختار يوماً ما واحداً فقط من هذين الطريقين سواء في عهد دراسته للعلم طالبا متمكناً، أو في عهد نضوجه واشتغاله بالعلم أستاذاً ومرشداً.
أجل، ما أعرف أنه -رحمه الله تعالى- قد تخلى عن إحدى هاتين الوظيفتين في أي مرحلة من مراحل حياته، منذ أن كان طالب علم متبصراً يدرس العلم على أساتذته وشيوخه، إلى أن ودع طلابه وإخوانه أثناء بعض الدروس قبل ثلاثة أيام من وفاته…
فأما وظيفته الأولى، فتتلخص في إنشائه معهداً لطلاب العلوم الشرعية باسم معهد التوجيه الإسلامي، بدأت نواته بطلاب قد انقطعوا لدراسة العلم على يديه في مسجد “منجك” قرب داره في حي الميدان. (ويتكون من هؤلاء الطلاب وإخوان لهم، اليوم، واحدة من أهم جبهات العلم والدعوة الإسلامية في دمشق). وسرعان ما انبثق من هؤلاء الطلاب معهد نظامي شرعي ضم العشرات ثم المئات، وسرعان ما أسست لهذا المعهد جمعية ترعى الشؤون المالية لهذا المعهد، وكان معهداً داخلياً، يتوفر فيه للطلاب المسكن والطعام، بل حتى المهم من الثياب في مناسبات موسمية متكررة.
وأما وظيفته الثانية التي كان قد أخذ نفسه بها، فتتمثل في الآثار التاريخية التي سجّلها اشتراكه -رحمه الله تعالى- في الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، ثم في إثارة الرأي العام وجماهير المسلمين ضد كثير من التدابير والقوانين التي سنها الاستعمار الفرنسي، مما يتنافى مع أحكام الشريعة الإسلامية أو مع مصالح الأمة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الثورة التي اجتاحت البلاد آنذاك ضد قانون الطوائف التي حاولت فرنسا أن تفرضه على المسلمين.
كما تتمثل وظيفته الثانية هذه في الآثار التاريخية الهامة التي سجلتها محاضر “رابطة العلماء” في دمشق. وقد كان له دور كبير في إنشائها، كما كانت إليه أمانة سرها. وقد كانت لهذه الرابطة جولات عظيمة لا تنسى، وأيام باقيات لا يعفي عليها الدهر، ظهر فيها الدفاع عن دين الله والاستبسال لحفظ حرمات الله بشكل تقرّ له عين كل مؤمن، وتتفجر منه مرارة كل زنديق منافق.
فراسته وبراعته في معالجة الأمور
ثم إن الشيخ -رحمه الله- كان قد أوتي -إلى جانب انكبابه على العلم وشغفه بالدعوة إلى الله- فراسة ثاقبة وحكمة دقيقة، وبراعة نادرة في معالجة الأمور والمشكلات، وتقديراً قلّ أن يخطئ لعواقب الأمور ونتائج الأحداث؛ كل ذلك مع جرأة في الحق تستعلي على جميع المخاوف والأخطار.
ولقد شهد من مناورات أولي الأمر الذين تعاقبوا على سدّة الحكم خلال جيل من الزمن، ألواناً وأصنافاً، فما خدع منها بلون ولا غرّه منها ظاهر.
ولقد جاء من لوّح له فيما بعد بسلاح القهر وخطر القتل، فما طاش له من ذلك رأي ولا ذلت له قناة. وواصل جهره بالحق وتنديده بالمنكر وأهله، ملتزماً في ذلك خطه الذي لا عوج فيه: حكمة بالغة في التعبير والبيان، وجرأة نادرة في التحذير من الباطل والتنديد بالمبطلين.
ثم رأت دوائر الكفر والطغيان، ذات الهوية المادية الملحدة، أن بقاء الشيخ بفكره المتدبر الثاقب ولسانه القوي الصارم يحول دون سعيها الناجح إلى خنق الإسلام وأهله، ويصدّها عما ألزمت نفسها به من القضاء على فكرة الإيمان بالله، وما عزمت عليه من “تحنيط الإله والزج به في المتاحف” فأوعزت إلى أجرائها أن ينفذوا التهديد ويحققوا الوعيد، وأن يخنقوا صيحة الإسلام في دمشق بقتل زعيم الدعوة الإسلامية فيها، لسان أهل العلم جميعاً، ورأسهم المفكر والمدبر: الشيخ حسن حبنكة الميداني.
فما كان من الأُجَراء إلا أن خفّوا إلى تنفيذ الأوامر، وزجّوا به في الغياهب تمهيداً لإعدامه والقضاء عليه.. ولكن الرب الذي كان المبطلون يدبرون سبيل “تحنيطه” فيما زعموا، كان يدبّر لهم سبيل النهاية والانمحاق، فلقد صدق فيهم قوله جل جلاله: ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ﴾(الأنبياء:70). لقد انتهوا من بطشتهم وسلطانهم إلى شَذَرَ مَذَرَ، وإلى ذلٍّ يتمنى الإنسان معه نعيم الموت.. من حيث عاد الشيخ إلى وظيفته التي أقامه الله فيها معلّماً وداعياً ومرشداً. وقد تضاعف له الحب والتقدير في العالم الإسلامي أجمع، وازدادت قلوب المسلمين توجهاً إليه وتعلقاً به.
شموخ فريد وتواضع عجيب
أما في نطاق الأخلاق الشخصية، فإني أرى أن أهم مزية أوتيها فقيد العالم الإسلامي، أنه كان يتمتع بكل من صفتي الشموخ والتواضع معاً، بالغاً في كل منها الذروة التي تتصورها، وكان الأهم من هذا أنه كان يضع كلاً من هاتين الصفتين من حياته في الموضع المناسب.
فإن اقتضى الموقف اعتزازاً وشموخاً، لم يستطع أن يغلب شموخه من الجبابرة أحد، وإن اقتضى الموقف تواضعاً وليناً، لم يتدان إلى لينه وتواضعه أحد.
ومكان الأهمية من هذه المزية الكبرى، أن بين كل من العزة المحمودة والكبرياء المذمومة، وبين التواضع المطلوب والهوان المكروه، فرقاً دقيقاً جداً، كثيراً ما تضيع معالمه على الناس، فتتداخل هذه الحقائق المختلفة في بعضها أمام تصوراتهم، فيُذَم منها ما هو خليق بالمدح والثناء، ويُمدَح منها ما هو جدير بالتحذير والتنفير منه.
وما رأيت إنساناً في عصرنا هذا، ملك الميزان الدقيق في التفريق بين هذه المواقف الأربعة، ثم ضبط سلوكه بمقتضات هذا الميزان مثل شيخنا الراحل عليه رحمة الله.
وربما عرف بعض الناس الشيخ معرفة سطحية لا مخالطة فيها، فتوهم أنه كان ذا أنفة وكبرياء على الناس، ولكن الحقيقة أن هؤلاء الناس لم يتح لهم أن يروا من حياة الشيخ إلا جانباً واحداً ألزمه بما قد توهموه تعالياً وكبرياء.. ولو أنهم عرفوا منه الجانب الآخر أيضاً، لتكاملت لهم الرؤية ولوجدوا في كل من الجانبين ما يتكفل بتفسير الجانب الثاني.
إن الذي يقف مع أهل بيته في مرافق الخدمة من داره، ثم ينخرط معهم في القيام بكل ما تتصوره من الخدمات المنزلية، لأبعد ما يكون عن طبيعة التكبر والتعالي. وقد كان هذا العمل من شأنه، يعرف ذلك منه كل من خالطه في حياته.
وإن الذي يسهر الليل مع أهل بيته، عاكفاً معها على تفصيل أردية الطلاب وخياطتها، ثم يحملها إليهم مع الصباح ليرى أقيستها عليهم، فيأخذ من طول هذا ويزيد من عرض ذاك، يمارس ذلك كله بنفسه لأبعد ما يكون عن معنى الغطرسة والتعالي.
نعم، هكذا عرفت شيخنا رحمه الله. كان يمضي ليالي بطولها في شهر رمضان مع زوجته، لا شغل لهما إلا تحضير أردية (جبب) الطلاب، كي تكون جاهزة لهم مع إشراقة العيد. بيده المقص وبيدها المخيط. فإن رأى أن التعب قد نال منها، ذكّرها -رحمه الله- بأن أعظم عبادة يتقرب بها عبد إلى الله عز وجل إنما هو خدمة طلاب العلم ورعايتهم لوجه الله عز وجل.
وقد أخبرني صديقنا ونجل شيخنا -رحمه الله- فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن حبنكة(1) أن الشيخ -رحمه الله- قد بلغ من اهتمامه وشفقته بطلابه أنه كان ينسى في جنبهم كثيراً من شؤون أولاده. فقالت له زوجه يوماً: هلاّ أوليت أولادك أيضاً من العناية والاهتمام مثل الذي توليه لسائر الطلاب. فقال لها: عليّ أن أهتم كثيراً بشؤون طلاب العلم، وسيتولى الله عز وجل مقابل ذلك، شؤون أولادي…
حقاً، لقد أوتي الشيخ -رحمه الله- مجموعة من المزايا والصفات، قلّ أن تجتمع في تكامل وتناسق عند شخص واحد. والذين لم يعلموا الشيخ إلا في سنواته الأخيرة، لم يعلموه على حقيقته ولم يكتشفوا سائر مزاياه وأخلاقه.
لقد كانت حياته تاريخاً وعبرة، ثم جاء يوم وفاته فكان هو الآخر تاريخاً وعبرة!..
كانت حياته عبرة تنطق لكل ذي فكر ولب، بأن الجرأة الحكيمة في التعبير عن الحق، لا تنسخ حياة ولا تنقص من العمر ذرة، وأن المداهنة أو المصانعة على حساب الحق، لا ترفع لصاحبهما قدراً ولا تنسج له جاهاً، بل تهبط به إلى الدرك في أعين الذين يداهنهم من الفسقة والمنحرفين قبل المستقيمين والصالحين. وأن أشرف ما يرتديه العالِم في قومه من سيما المهابة والوقار أن يسمو بعلمه عن مصانعة المارقين ومماراة السفهاء، ويسخره مخلصاً لبلوغ مرضاة الله عز وجل.
وكان يوم وفاته أيضاً عبرة للناظرين المتبصرين، أكد لهم أن المسلمين لا يزالون مسلمين صادقين، وفي مقدمتهم جيلهم الصاعد الذي تفيض بهم المدارس والجامعات.. بيعتهم للحق وأهله وحبهم للعلم ورجاله وهواهم مع كل داع إلى دين الله صادق في دعوته مخلص لله في عمله وجهاده.
ــــــ
الهوامش
(1) هو أكبر أنجال الشيخ -رحمه الله- قد ورث عنه الكثير من علمه، وانطبع بجميل أخلاقه وسموّ نفسه. وهو إلى جانب علمه، أديب شاعر مرهف الحس، سخر أدبه وشعره في السبيل إلى مرضاة ربه. كان أستاذاً في كلية الشريعة من جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، وشغل قبلها منصب مدير التعليم الشرعي بوزارة الأوقاف في دمشق. أخرج سلسلة من المؤلفات القيمة، جلّها يعالج الكشف عن خطط الغزو الفكري في العالم الإسلامي. آخرها كتاب “صراع مع الملاحدة حتى العظم”. توفي -رحمه الله- يوم الأربعاء: 11/8/2004.