إن من أهم الحاجات الأساسية في حياة الإنسان أن توضع بعض الحدود لتصرفاته، وأن تُحترم هذه الحدود. وقد يتم التصريح عن هذه الحدود التي يجب احترامها في القوانين. إن هذه الأنظمة والقوانين تبيّن لنا الطرق التي نستطيع من خلالها منع نمو الأعشاب الضارة في حديقتنا. عندما يراعي الفرد هذه الحدود المكتوبة أو غير المكتوبة، المرئية أو غير المرئية، يتحول إلى إنسان ذي شخصية عالية مستقيمة. أما إذا قام هذا الإنسان بمخالفة هذه الأنظمة التي تحافظ على الحياة الاجتماعية ورفض تطبيقها، فإنه سوف يدمر نفسه بنفسه عاجلاً كان أم آجلاً.
إن أكبر عقبة أمام التحسين والإصلاح، هي ألا يتحمل الإنسان أية مسؤولية، وأن يعيب الآخرين دائماً دون الالتفات إلى عيوب نفسه التي لا تعد ولا تحصى. وإذا نسي الناس صدق ضميرهم، سخر منهم ضميرهم ودفعهم إلى إيجاد الحجج والمبررات لكل أقوالهم وأفعالهم، حيث هناك رغبات جُبِلَت عليها فطرة الإنسان تشكل الأساس لخرقه القواعد والقيم الأخلاقية. نعم، إن الطموح إلى النجاح والفوز والصدارة والارتقاء، والصعود إلى القمة، والشهرة والتباهي على الآخرين… تقود الإنسان إلى خرق القواعد والأنظمة. ولكن إذا استطاع هذا الإنسان تربية شخصيته وأعدها للتعامل الصحيح مع حوادث الحياة، عندها يمكنه كبح طموحاته هذه وتوجيهها ضمن الأطر المشروعة، ووفق المبادئ والقيم الأخلاقية السامية.
الصراع الذي يعيشه الإنسان في داخله تجاه تربية شخصيته، تجعله يغدو ويروح بين الالتزام والمعارضة للقيم الأخلاقية والقوانين، وبين رغبة امتلاك كل شيء ومقاسمته مع الآخرين، وبين الشعور بالخضوع للأنظمة الراهنة أو عصيانها. لكن يجب ألا ننسى أنه لا أحد يستطيع أن يُرغم الإنسان على القيام بشيء دون رغبته وإرادته، فإذا تم ذلك فهذا يعني أن ذلك الإنسان يعيش ضعفاً في الإرادة والشخصية.
هناك مقولتان تعدان موضوعاً مشتركاً بين اليونانيين القدماء والبابليين والسومريين، الأولى: “اعرف نفسك” والثانية: “كن معتدلاً في كل شيء”. تشير هاتان المقولتان إلى مدى أهمية تربية الشخصية في جميع الثقافات. فإنهما لافتتان للنظر إلى حدٍ بعيد، خاصة من ناحية التأكيد على أهمية الوسطية والتوازن. هناك نقطة أخرى مشتركة بين الثقافات في تربية الشخصية وهي أن يعرف الإنسان عيوبه، وأن يتأمل ملياً في كيانه وذاته حتى يستطيع رؤية عالمه الداخلي وصفاء روحه وجوهره. إن معرفة الذات خصلة ضرورية ليس فقط من أجل الحصول على شخصية قوية، بل من أجل معرفة خالق هذه الذات ومربيها. وكم أحسن القائل عندما قال: “اعرف نفسك، وليكن مرادك معرفة الله، ومَن عرف نفسه، فقد عرف الله”.
تربية الشخصية
إن الطريق التي تُكسِب الإنسان شيمته وشخصيته، ليس فقط بالتركيز على الأخطاء والمساوئ والابتعاد عنها، إنما بالتركيز على الصواب والخير والسعي من أجلهما. إذن، لا يكون الإنسان ذا شخصية مثالية وأخلاق عالية برفضه للمساوئ فقط. فمثلاً، إذا أردنا أن نقيم حديقة جميلة فلا يكفي أن نزيل الأعشاب البرية عن تربتها، إنما يجب العمل على غرس الأزهار الجميلة ورعايتها أيضاً. فإزالة الأعشاب البرية ما هو إلا عمل يساعد على نمو الأزهار فقط، أما العناية بالأزهار ورعايتها فهو عمل مختلف تماماً. السعي وراء الخير والفضيلة وغرسها في حياتنا حتى لا يبقى مكان للشر، أهم بكثير من الحيلولة دون الإضرار ورفض الشر قولاً. يوجد داخل كل إنسان حديقة تعكس شخصيته وعالمه الجواني، والأشياء التي تربّى في هذه الحديقة تكون مرآة لسلوك هذا الإنسان وتصرفاته. كما أننا إذا لم نغرس في حديقتنا الطبائعَ والعادات الحسنة وفق مزاجنا وروابطنا الخلُقية، فيستحيل أن نكون أناساً صالحين. وإن كانت الروابط الخلُقية أو سماتنا المزاجية تشبه أنواع التربة المختلفة فإن سماتنا الشخصية تشبه الأزهار التي تنمو في تلك التربة. إذا فكر الناس ملياً وبذلوا قصارى جهدهم وطاقاتهم في زراعة الأزهار ورعايتها، عندها سيزداد عدد الناس الذين يتحلون بالشخصية القوية المثالية.
ولابد في هذا الصدد -وبعد هذه الشروح النظرية القصيرة- أن ننتقل إلى هذه الأيام التي نعيش فيها، ونقول: إن نجاح الديمقراطية اليوم يرتبط بمدى امتلاك أفراد المجتمعات الشخصية الذاتية، وإن الديمقراطية التي تنسى أن الإنسان كائن أخلاقي والتي لا تبالي بتطوير الشخصية لدى الفرد، لا يمكن أبداً أن تنجح وتصل إلى بر الأمان، لأن الديمقراطية هي نظام يتبناه الفضلاء والعقلاء الذين يملكون القدرة على حمايته والحفاظ عليه.
الإنسان الانتهازي أو الذي لا يفكر إلا بنفسه، يمكن أن يستغل قلب الآخر وروحه وبدنه دون أن يخالف القوانين والأنظمة، أي يمكن أن يمتثل الفرد للنظام، ولكن يمكن أيضاً أن يكون سيء الخلُق. فمن أهم شروط الكمال الأخلاقي أن يكون المرء ذا شخصية وضمير يستطيع من خلالهما رسم الحدود في المكان الذي يخلو من حدود مرسومة. ومن ثم فإن كل ما هو قانوني ليس بالضرورة أن يكون أخلاقياً، لذلك نرى هناك فرقاً بين ما هو موافق للقانون وبين ما هو موافق للحق، ولا يمكن أن يسدّ هذه الفجوة إلا أصحاب الشخصيات العالية، فحيثما ينتهي القانون أو يبدي خللاً، يحلّ الإيمان مكانه وتتسارع القيم الأخلاقية التي تتغذى من الضمير بسد هذا الخلل.
الشخصية في تحقيق السلام
فلنتوج هذا بمثال من التاريخ، ففي بدايات عهد الدولة العثمانية، شغل “دورسون فقيه” قاضي مدينة بورصة، وظيفة تناسب مزاجه وطبيعته. وكان رئيس المخابرات يقدم للقاضي “دورسون فقيه” المعلومات حول الفتنة والفساد والأقاويل التي اندلعت بين الأهالي في تلك الفترة، وقد كان من ضمن المعلومات التي قدمها، المخططات التي وضعت لقتل القاضي “دورسون فقيه”. ولكن دعونا نرى مدى أهمية تربية الشخصية في تحقيق السلام في الحياة الاجتماعية، وذلك من خلال تقديم مقطع من الحوار الذي دار بين عضو المخابرات وبين القاضي “دورسون فقيه”:
عضو المخابرات: إن كل ما قلتُه، دليل على ظهور آلاف الأسهم المشدودة لرمي “دورسون فقيه” في قلبه.
دورسون فقيه: ما قلتَه صحيح، ولكنه صحيح من جانب العقل والمنطق. ولكنك لم تر بأم عينيك ما تتحدث عنه أليس كذلك؟ لم تسمع أياً منه بأذنيك. هل رأيتَ بعينيك، وهل سمعتَ بأذنك؟ هل رأيتَ زيداً يقول هذا الكلام أو سمعته حتى توجه إليه التهم؟
عضو المخابرات: كلا! ما رأيتُ وما سمعتُ. لكن أظن وأعتقد وأعرف أنه كذلك.
دورسون فقيه: وهل يُحكَم على شيء بالاعتقاد والظن؟ فليس هذا بدليل.
عضو المخابرات: علمتُ الخبر من رجالي وأنا أثق بهم.
دورسون فقيه: يجب الاستماع إلى رجالك ورؤية أدلتهم.
عضو المخابرات: أنا لا يهمني الحكم، إنما دلني على ما ينبغي عليّ فعله.
دورسون فقيه: إن كان الطريق الذي سأدلك عليه يسوق بريئاً إلى الموت، فكيف أكفّر عن ذنبي بعد ذلك؟
إن الطريق التي تُكسِب الإنسان شيمته وشخصيته، ليس فقط بالتركيز على الأخطاء والمساوئ والابتعاد عنها، إنما بالتركيز على الصواب والخير والسعي من أجلهما.
عضو المخابرات: لو كان مكاني شخص آخر لفقد عقله. ولكنها “الدولة”، “ستفقد الدولة سيطرتها وتوازنها” يجب ردع مَن يسعون إلى هدم الدولة يجب معاقبتهم…
دورسون فقيه: إذا كانت الدولة دولة، فالإنسان أيضاً إنسان. لذلك يجب أن تتضح تهمة هذا الإنسان وتثبت حتى يحكَم عليه. وماذا لو قال الشخص الذي تقول عنه إنه مذنب “أنا أقوم بهذا العمل من أجل الدولة”؟
عضو المخابرات: ولكن يا دورسون فقيه! المكان الذي توجه إليه الأسهم هو أنت. أوَما تخاف الموت؟
دورسون فقيه: أنا لستُ الدولة. روح دورسون فقيه، ليست الدولة. إذا متّ ستحاسِب الدولةُ المذنبَ. لكن لا أستطيع أن أضع الدولة في موضع التهمة لأبقى حياً. فليعف الله عن تقصيرنا جميعاً…
فهذا الحوار يبين لنا أن شخصية الفرد تلعب دوراً مهماً في توجيه ذاته، حتى وإن كانت القوانين والقواعد موجودة تحت إمرته، فإن ضميره وشعوره بالمسؤولية ثم مخافته من يوم الحساب تمنعه من اقتراف أي خطأ أو جريمة. إنه يفضِّل أن تتعرض نفسه للظلم والموت، ويتجنب ظلم الآخر. لأن الإنسان يحصد ما يزرعه في حقل عالمه الجواني.
نحن عندما نسعى إلى تربية أناس صالحين ذوي شخصيات متميزة، مستقيمين في تصرفاتهم وأقوالهم، عندئذ نستطيع أن نعيد مكانتنا التي فقدناها منذ سنين، ونُوصل أنفاسنا وأنفاس أجدادنا الأجلاء المليئة بالحب والرحمة إلى كل بقعة على تربة هذه الأرض. كما أن هذا يرتبط بالاهتمام الخاص في تربية الشخصية في مدارسنا، والقدرة على نقل القيم النبيلة إلى أطفالنا في الحاضر والمستقبل.
ــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: محمد صواش.