تؤدي الممارسات التقليدية في المعاملات، بدءًا من البيت والمدرسة والمجتمع إلى السلبية. ومن هذه الممارسات، عدم التربية على الحوار وسيادة الطرق التسلطية، وعدم منح الفرد فرص التصرف والتدخل لحل مشكلاته والمساهمة في اتخاذ القرارات والعمل على تنفيذها. كل ذلك يؤدي بالشباب -مع مرور الزمن- إلى تميزه بالسلبية والاتكالية، وغياب الجرأة على مواجهة المشكلات المطروحة أمامه داخليًا، لأن عدم تأهيل وتدريب أبنائنا على الحوار، يؤدي بهم إلى رفض الآخر، كما يرفض رأيهم داخل البيت والمدرسة والمجتمع، ومن ثَم عدم الثقة بالنفس وبقدراتها، وسيادة عقلية المؤامرة والإحباط عِوض عقلية الإرادة والإنجاز والفاعلية والمشاركة. وهكذا فإن الممارسات التربوية والأسرية والاجتماعية، تساهم في تدعيم سمات السلبية الحوارية عند الشباب داخل مجتمعاتهم.
فكيف يمكن الحديث عن الآخر الخارجي وتجاوز عوائق الحوار الداخلي؟ هل أعددنا شبابًا قادرًا ومؤهلًا معرفيًّا وسلوكيًّا ودينيًّا وفكريًّا وسياسيًّا وتكنولوجيًّا وإعلاميًّا… لمحاورة الآخر الحضاري من موقع الندّية، والمشاركة في المنجز الحضاري لا من موقع الدونية ورد الفعل الآني والتبريري لمواقف يصدرها صانعو ثقافة الصراع الحضاري؟
إن شبابنا يدرك يقينًا أن المهمة التي يقتضيها حوار الداخل، لا تقل أهمية وخطورة عن حوار الخارج. قد نتفاءل بالتأطير النظري لأسس ومقومات هذا الحوار الخارجي، لكن الواقع -ونعني الواقع الداخلي- يحتوي قدرًا من العوائق التي تحتاج إلى نظر أوسع وأعمق، أشجع وأشفى من الثقة الزائدة بسلامة معطياتنا الفكرية والتاريخية.
مفتاح الحوار الثقافي
إن الحوار الإسلامي بين مكونات الذات قد يكون مفتاحًا حقيقيًّا لحوار ثقافي مع الآخر. فمثل هذا الأساس يجعل الحوار يستند إلى القوة ويراهن على القوة. ومن دون القوة واستمرار الاختلالات البنيوية الداخلية والصراع الداخلي، فإن الحوار لن تقوم له قائمة؛ معنى ذلك أن أمةً ما لا تملك مفاتيح الحوار الداخلي، كيف تتمكن من إجراء حوار مع الآخر؟! وحتى لو تحدثنا عن تعارف ثقافي، فالأمة التي لا تعرف نفسها ولا تزال تمارس التجهيل والنسيان في حق أبنائها، وتتنكر لبعضها البعض ولتاريخها وجغرافيتها، هي -بلا شك- أعجز عن أن تقيم تعارفًا بينها وبين الآخر.
وبلا شك، فإن عنوان “الأمة الإسلامية” غير كاف، طالما أن الحوار “الإسلامي-الإسلامي” يفرضه التنوع الثقافي للمجال الإسلامي، مما يقتضي تعارفًا وحوارًا ثقافيًّا داخليًّا. حوار “إسلامي-إسلامي” وأيضًا حوار “إسلامي-مسيحي”، باعتبار الأمة الإسلامية تتسع لإطارات ثقافية أخرى وأقليات متنوعة ومختلفة ومتعايشة. إن ثمة فرصة أمام العالم الإسلامي في أن يقدم للعالم نموذجًا حواريًّا؛ يبدأ بأن يقيم نموذجًا داخليًّا مصغرًا عن حوار الثقافات يزيد في دعمه وتعزيزه وإنجاحه.
فديننا أصّل للحوار مع الآخر نظريًّا وتطبيقيًّا، وتاريخنا الإسلامي زخرت صفحاته بنماذج جدّ راقية في التطبيق العملي لأدبيات الحوار، وأسس ومرتكزات التعايش مع الآخر دينيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، في الشام والأندلس وصقلية وسمرقند، لكننا اليوم كمجتمعات وأفراد، لسنا من يعلِّم العالم هذه المبادئ والقيم والمُثل العليا بالأوضاع التي نحن عليها. فعلينا أولا العمل على إعادة صياغة العقل العربي والمسلم بما يؤهِّله للتعمُّق في عناصر قوة حضارته، ليكتشف عناصر التقدّم والنهوض والمكوّنات الحيَّة في الحضارات، ونفهم منطلقها الداخلي وقوانينها في التقدّم ومحركات التاريخ فيها.
الشباب وسؤال “مَن الآخر؟”
لعل أول سؤال يتبادر إلى أذهان شبابنا -ونحن ندعوهم للحوار- هو تحديد ماهية الآخر الحضاري المعنيّ بالحوار؟ وقد نحصر الإجابة في ثلاثة محاور:
1- إن هذا الآخر الذي نريد الحوار معه، يتمثل عادةً في العقل الجمعي لمفكرينا وشبابنا في الغرب، وكأن العالم كله الآن يتجسَّد في هذه القبلة؛ فمن حدّد الآخر وجعله الغرب وحده؟ ومن قال إن الثقافة الغربية هي الثقافة الوحيدة في العالم؟ علمًا بأن هناك ثقافات أخرى منها الثقافة الصينية والهندية واليابانية، وهناك ثقافات دول أمريكا اللاتينية، بل إن هناك ثقافات موزعة من إفريقيا إلى آسيا متنوعة وغنية لسنا على علم بخصائصها ومكوناتها الثقافية والفكرية. ولهذا فإن من الخطأ أن نتصور أن الثقافة الغربية هي الثقافة الوحيدة التي ينبغي أن نتحاور معها. فالحضارة الصينية من أكثر الحضارات امتدادًا في أعماق التاريخ مع وجود عصري واضح ومميز، واليابان التي تمثل الآن أحد أركان المنظومة الكونية في التقدم العلمي والتكنولوجي، لها جذورها التقليدية التي تحرص عليها ولم تفرط فيها، وكذلك دول شرق آسيا التي لحقت بالعصر دون أن تفقد امتدادها التاريخي، وهناك نماذج إسلامية واضحة حافظت على عقيدتها وجذورها ولم تتخلف عن العصر بكل إنجازاته، وفي شرق آسيا أكثر من نموذج، حقق هذه المعادلة مثل ماليزيا وأندونيسيا. وهذا لا يعني إلغاء الحوار مع الغرب بأي حال من الأحوال في إطار التلاقح الثقافي والمعرفي والتكنولوجي؛ لأن الانفتاح والتلاقح سمة من سمات البناء الحضاري في الإسلام. هذا وعلى شبابنا اليوم أن يدرك أنه -وإن كان التواصل مع الوجه الآخر من الغرب، في غمرة الغضب والمرارة وردود الفعل التي أعقبت الغزو الاستعماري لبلداننا مرتبط باستبداد وتصاعد وتيرة العنف مقابل ضغط وتقليص ملَكات التفكير، فبدا لنا الغرب بانتهاكاته التاريخية وكأنه شرٌّ كله- فإنه قد آن الأوان اليوم مع الثورة الإعلامية وانفتاح العالم على بعضه، أن يصوّب شبابنا الرؤية والموازنة بين العاطفة والعقل كشرطين أساسيين، لحسن إدارة مستويات التحديات بالحكمة التي لا يَقْدر على استيفائها إلا أهل الفكر والعلم من شباب الأمة. وفي إطار هذا التصويب، لابد من الإقرار بأن الغرب ليس كتلة واحدة، بل تخترقه وتختمر داخله تيارات واتجاهات وأصوات رافضة لقيم المركزية الغربية المستبدة، وما المظاهرات الصاخبة والمناهضة للحرب على منطقتنا التي عرفتْها عواصمُ الغرب وحملات التعاطف مع العراق، إلا وجه من وجوه غربٍ آخر مغايرٍ لغرب التسلّط والاستكبار. وهذا يتطلب من الباحثين الشباب أن يوجدوا قنوات التواصل مع هذا الوجه الآخر من الغرب، مستثمرين تضامنه مع قضايانا ورفضه لقيم غيّبت مركزية الإنسان في الكون، وتبنَّت منهج العنف والبقاء للأصلح في سوق النخاسة العالمي. إن فتح شبابنا لقنوات التواصل مع هؤلاء أكاديميًّا وفكريًَّا وإعلاميًّا، سيحوّلهم إلى أقلام تنقل بموضوعية قضايانا العادلة، إلى قلب المجتمع الغربي الذي يحكم علينا انطلاقًا مما تتداوله وتسوّق لترويجه بعض الدوائر الإعلامية والسياسية المتعصبة.
2- لا يمكن تصور حوار من طرف واحد، لأن بديهيات الحوار أن يكون بين طرفين، وبين وجهتي نظر. وعندما يصبح الحوار حديثًا من طرف واحد، فهو يفقد أبسط قواعد الحوار. ومن هنا يجب أن يكون الحوار سعيًا من جانبين وليس من جانب واحد، لأن مقصد الحوار مع الآخر لا يعني أن أقول له ما أريد، ولكن أن نصل معًا إلى صيغة لما نريد. وإذا تحول إلى استجابة لمطالب طرف واحد فهو يدخل في نطاق الوصاية والهيمنة والتبعية.
ومن جانب آخر، فشروط الحوار تقتضي من شبابنا الانفتاح بثقة عالية ورفض عقلية قداسة الذات وإقصاء الآخر بدعوى المؤامرة من جهة، كما تقتضي من جهة أخرى توضيح سلبيات وهفوات نغمة التعالي التي يتحاور بها هذا الآخر معنا تحت شعار “الإسلاموفوبيا”، وما تتداوله من تسويق لمنتجاتها تربويًّا وإعلاميًّا وسياسيًّا. فشبابنا في حاجة إلى ترشيد وتأهيل كوادر تشارك في عملية الإنجاز والفاعلية الحضارية بمستوى الندية على كافة المستويات، لا بخيار الانعزال والهروب بانكسار وانهزام من مواجهة تحديات المتغيرات العالمية.
3- لا يمكن أن تتجه كل جهود عقول شبابنا إلى الحوار مع الآخر في الوقت الذي يهملون فيه تمامًا -عن قصد وسوء توجيه- الحوار مع ذواتهم؛ لأن الأمانة تقتضي أن يكون الحوار أولا بيننا، ولكن إذا كان بعض شبابنا يرفض الحوار بدعوى الممانعة، وينزوي في محراب قداسة أيديولوجية فكره ومذهبه، ويطالب باستخدام أسوأ أشكال المصادرة والمطاردة مع كل فكر آخر يخالفه، فإنه يكون مخالفًا لمفهوم الممانعة الذي لا يعني التقوقع داخل الذات، بقدر ما يقتضي تحقيق الشاب المسلم لدوره الاستخلافي في الأرض بمواجهة التحديات، واعتماد فقه الموازنات والأولويات مراعاة لتوازن مصالح دينه ووطنه ومجتمعه وأمته العربية والإسلامية.