إن الأديان كلها ركزت على أصول وأسس معينة واحدة، وأكدت على حقائقَ بعينها. ومن حيث الضوابط الأصلية -وبالتناسب مع أحوال الزمان وحاجاته- كلُّ نبي بعثه الله تعالى، قام بدور الامتداد لمن سبقه والمكمّل والمتتم له، وصَدَّق رسالةَ السابق أو السابقين، وكمَّلها حسب الأحوال والشرائط، وبسَط للأمور التي تتطلب التفصيل، وجدد المسائل المحتاجة إلى تجديد، وفي الأحوال كلها أكد على الأمور الأصيلة بعينها؛ فالتوحيد والنبوة والبعث والنشور والعبادة هي المسائل المقدَّمة العزيزة لكل نبي… فهي الزبدة في دعوة الأنبياء والمرسلين أجمعين، مع التنوع في الأسلوب والتعبير والبيان والأداء. أما الفروق في الديانات أو الإجمال والتفصيل، والإطلاق والتقييد، والوضوح والخفاء وأمثالها في المسائل المختلفة، فتتعلق بأفق إدراك البشرية وتَحَضُّرِها وتطورها. فقد شرَّع الحق تعالى لكل أمة أوامرَ وقوانين خاصة تتعلق بالفروع حسب مبلغ علم تلك الأمة وإحاطتها، ونوعِ معضلاتها وحاجاتها، ووضَّح -مجدَّدًا- الأسسَ التكوينية والضوابط التشريعية حسب إدراك المخاطَبين، وبَيَّن تَنَزُّلاته الكلامية بتنوعاتها المتعددة ببعدِ تجلٍّ مختلف في كل مرحلة. فتوالى التنوع والتجديد في أمورٍ مثلِ تفصيل المجمل وإطلاق المقيد وتعميم الخاص وتوضيح المبهم، مع أن محور المضمون والمنطوق واحد وثابت. فكم من المسائل هي كافية للمبتدئ والبدوي، تستدعي تفصيلا أكثر للمنتهي والحضري.
فهنا نشهد تبدلاً دائمًا في المسائل التبعية الثانوية في رسالات الأنبياء والرسل ابتداءً من أولهم إلى خاتمهم، بالصورة المبينة آنفًا، لكن هذا التبدل لم يمس أبدًا روحَ الرسالة الأصل، ولم يغادر حدود التفرعات. أما التفرق والاختلاف والصراع والحروب الناشئة منهما بين أتباع الأديان السماوية، فليس مردها إلى الدين والتدين، بل إلى تفسيرات خاطئة كان يسوقها المبتدئون من أتباع الأديان الذين لم يحافظوا على أصل الرسالة الإلهية وتربوا على الانجراف وراء المصالح والحقد والبغض والانحراف والأهواء والنـزوات… ولا زالت القضية كذلك. فمن أجل ألا تقع أنواع التنازع والتفرق كما وقع أمس، ولكي نلم الشعث إن كان قد وقع اليوم، يجب القبول بالإيمان وبالإسلام وفاقًا للأصول والأسس التي وضعها الله تعالى، وجعْلُها جزءًا لا يتجزأ من طبعنا وجِبِلّتنا. ولكن الحاجة ماسة إلى “العمل الصالح” لكي يثمر هذا الإيمانُ ويبدي قوتَه… بعبارة أخرى: حتى يسبغ الحياةَ على الوجدان؛ فبقدر إسناد الإيمان بالعمل الصالح وإمداد المؤمن بالعبادة، يقترب إلى الله تعالى، ويظل محافظا على هذا القرب واكتسابِ رضاه. وإلاَّ، فالإيمان الذي لم يُمَدَّ بالعبادة ولم يُسنَد بها، لن يبدي قوته تمامًا، وكذلك المؤمن الذي ليس له عبودية لن يستطيع الثبات منتصبًّا على ساقيه أمدًا طويلا. ولذلك ما برح القرآن الكريم يُتبِع الإيمان بالعمل الصالح ويُذكِّرُ بظاهر “العمل بالأركان” مع باطن “التصديق بالقلب” الذي هو الركن الأساس، ولا يفتأ ينبه إلى الحزم في مناسباتنا الداخلية والخارجية، الباطنة والظاهرة… إذ الإيمان أساس وحيد للعمل، والعملُ سُور للإيمان وصونٌ وشاهد وضمان له.
السعي السنني
إن التصرفات الحسنة غير المستمدة من الإيمان هي أعمال توافقت مع الصواب لا يُحتَمَل دوامها وتماديها بتاتًا، ولا تُمنِّي بمستقبل واعدٍ البتة. والإيمانُ من غير عمل إيمانٌ غير مسنود قد يَعرِض عليه التصدعُ والانهيار، ولا يُحتَمَل انفساحُه وتوسعُه، وتقليدٌ بارد عبارة عن مقبولات نظرية. أما الإسلام الذي نسميه “الدين الحق”، فهو العنوان المبجَّل للعمل بكل المسؤوليات والتكاليف التي جاء بها القرآن، إلى جانب الإيمان القلبي الصادق بمجموع الأصول والفروع لهاتين الحقيقتين.
فالإسلام بهذا الفهم هو المصدر الفريد الوحيد لسعادة الإنسان القلبيةِ والروحية، والمادية والمعنوية، والدنيوية والأخروية. غير أن الاستفادة من مصدر كهذا على الوجه الأتم قد نيطت بالاستخدام الأمثل للأجهزة الظاهرية والباطنية الموهوبة للإنسان بالفطرة. فالذين يستخدمون مواهبهم الأولية كأجهزةِ استقبالٍ للواردات الثانية، يبدأون أعمالهم بالمحاسن والألطاف، ويقضونها بالمحاسن والألطاف في الأجواء الزرقاء لـ”الدوائر الصالحة”،(1) ويُفلحون بإنجازِ أعمالٍ تُنبئ عن مدارجِ الأبدية في كل آن ولمحةِ بصرٍ من حياتهم.
وما برح الإسلام مصدرَ عزٍ وقوة لأتْباعِه الذين يؤمنون به ويَحيَونه بصدق، وقد أسعدهم بقدرِ صدقِ انتسابهم، ولم يُوقِعْهم قط في خذلانٍ دائم أو متمادٍ. فمنذ عهد الصحابة وحتى اليوم كَمْ عشنا بفضله في فترات مختلفة عصورًا ذهبية وأقمنا حضارات زاهية؛ وبالمقابل في مراحل الشؤم التي وَلَّينا الدينَ ظهورَنا وقطعنا علاقته عن الحياة، توالت علينا النكبات وضجت الجموع عويلاً في الانكسارات، وانقصم ظهر المجتمع حتى عجز عن القيام. ولكنْ -حتى في تلك المراحل- هناك الكثير ممن ظَلَّ مؤمنًا بالدين وقوته، غير أنهم حدَّقوا بأبصارهم في أفق الجدود والحظوات الخارقة، وقاموا وقعدوا حالمين بعنايةِ الكرامات الخارقة، وغضوا البصر عن العادات والسنن الإلهية. ومعلوم أن على المؤمنين أن يؤمنوا بإمكان وقوع ألطاف الحق تعالى منةً منه وفضلاً.. لكن علهيم أيضًا أن لا ينسوا البتة أنّ الوسيلة إلى استمداد هذه العناية هي الهمة والمجاهدة. وقد تفضَّل الله تعالى بتذكيرنا في الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(العنكبوت:69)، بأن الألطاف التي يخلقها ويُظهرها تقترن بعزم الإنسان وإرادته، فنبَّهَنا إلى أهمية الجهد والمثابرة في نفس الوقت الذي قطع فيه السبيلَ أمام الشرك، فكأن السعي والجهد من أمارات توفيقه وتوجهه الخاص.
المؤمن والإرادة
ولابد أن أنبّه ههنا إلى أنه ينبغي أن لا يحمل محاولتنا لتفسيرِ وشرحِ النظام الإلهي الجاري في الوجود والحوادث، وفاعليةِ هذا النظام باطراد وانسجام وكأنه تابع للأسباب… ينبغي أن لا يحمل ذلك إلى أننا نقوِّم الأحداث من منظورِ فكرة “التعين السابق” (Determination)؛ فغاية ما نريده هي التذكير بأن الإرادة الكلية والجزئية في تصرفات الإنسان تَوَجُّهٌ ذو لون من المشيئة الإلهية، وكذلك التذكير بأهميتها في مستوى الشرط العادي. وأذكِّر من فوري هنا بأمرٍ آخر هو: أنه -سواء اعتبرنا “الإرادة” مَيلا أو تصرفًا جزئيًّا في ضمن ذلك الميل- لابد أن يَستعمل المؤمن قابليةَ الترجيح هذه، والتي يحسها في وجدانه، باتجاهِ تحقيق ما يريده الحق تعالى ويشاؤه، وأن يحفظ عزمه وثباته على هذه الحال. فاللازم أن يتجنب المؤمن ما يقبِّحه الشرع، وأن يسعى إلى المعروف، ويَثْبُتَ بأطواره ومواقفه في موضعِ تمثيل الإسلام ثباتًا دائمًا، حتى تكون كل لقطة من حياته أنموذجًا لوجه من أوجه الإسلام، وحتى يُصوِّر الإسلام في ذاته ويشدو به في صوته ويجسده في شكله باعتباره الممثلَ الصدوق لهذا الدين، وحتى يستخدم كل قدراته التي وهبها الله له في جعل الإسلام إحياءً للحياة… فيتحرى في كل صغيرة وكبيرة من أعماله كلها -مهما كانت- رضا الرب تعالى، وحسب تعبير بديع الزمان: أن يكون العمل لله، والابتداء لله، واللقاء لله، والتكلم لله… والتحرك أبدًا في دائرةِ “لله، ولوجه الله، ولأجل الله”، وتكون الثواني والدقائق والساعات والأيام في هذا العمر الفاني أجزاءً من زمانِ طريق البقاء، وتغدوَ وسائل لسعادته الأبدية.
وعلى المؤمن أن يغذي إيمانَه بنيّاته وتصوراته وإرادته وبرامجه، ويؤديَ حق إسلامه، وألا يرسل نفسه إلى الغفلة دقيقة واحدة أو ثانية واحدة، حتى لا يقع في التفسخ. وعليه أن يحرك مكوك الشعور والحس والإرادة دائمًا من الإيمان إلى “الحركية”، ومن “الحركية” إلى الإيمان، وينسج نقوش قماش حياته ورقوشه وكأنه يعرضُها لمشاهدة أنظار الله تعالى بكامل انشراحِ الصدر.
الدعاء والعبادة
إن الكفر والإلحاد جهنم في القلب، وتَرْك العمل الصالح غربة ومخمصة ووحشة. ولا مفر من ظهور اختلال الشخصية في أمثال هؤلاء بين حين وآخر. إن عزائم هؤلاء خائرة وأفكارهم سائبة وإراداتهم مشلولة. وإن الذي يقوي الإرادة إنما هو الدعاء والعبادة، والذي يقتلع جذور الأحاسيس والانقيادات الفاسدة إنما هو التَوَجُّه إلى الحق تعالى والإنابة إليه.. ولم يحدُث أن انقطع في الطريق من تَوَجَّهَ بوجهه إلى الله بالمعايير الإسلامية… ولئن تعرض نفر منهم إلى اهتزازٍ بسبب ضعف منهم، فلم يُصرَع أحد منهم على ظهره تمامًا… فكيف بمن شد وثاق حياته بوشيجة الإحياء؟!
ولن يستطيع المؤمن أن يصمد واقفًا على ساقيه ولا ينكبَّ على الأرض إلا إذا عاش حياةً ذاتية وبعزم الإحياء. هذا ما شهدناه أبدًا. فهو عادة سبحانية لمشيئة الله الكلية، وتبديلُها وتغييرها محال على كل أحد. ولا جرم أن أعداءً ألِدّاء يَبرزون دومًا ضد الذين يعيشون الحياة في هذه الاستقامة، تطفح صدورهم غيظًا وحقدًا على هؤلاء المؤمنين ويقعدون لهم كل مقعد ليسحقوهم، ويتربصون بهم الدوائر، ويتصدون لهم كل يوم بخطر جديد. ولكن المؤمنين حق الإيمان، يَخرجون دائمًا من هذه المحن أشد شحذًا من قبل، بل يتبدلون إلى أخرويين ورِبيين وربانيين… وبمشاعر الرضا، يغيّرون المصائب إلى رحمات، ويحوّلون زخاتِ البلايا إلى مرشِّحات للتطهير والتصفية، فلا ينخلعون عن فكرهم وسلوكهم الذاتيَين.
فالواجب علينا -نحن المسلمين- أن نَعود إلى أنفسنا وقيمنا، ونعزم على البقاء بذاتنا، ونتغذى من مصادرنا بأقصى قدراتنا. وإن مصدر الدين الإسلامي ومنبعه هو القرآن والسنة. فهو فائض من صدرهما. وقد أحرزت الأمة الإسلامية موقعًا تُغبط عليه، وصارت قدوة للأمم ما دامت متمسكة بهذا النظام الإلهي. وبالمقابل كلما ابتعدت عن قيمها الذاتية، وقَلدت الأجانب، وسقطت أسيرةَ أهوائِها ونزواتها، انكبت على وجهها من بؤس إلى بؤس، ومن عارٍ إلى عار.
العودة إلى الجذور
فيلزمُ المسلمَ ألا يهمل قيمه الذاتية البتة، وأن يحاول الاستفادة من المصادر الأجنبية بشرط استئذان النُّظُم والقواعد الأساسية الذاتية، وتنقيتها بالترشيح في تلك المصافي. ولكي لا يُساء فهمُ المقصود، نقول: إن الإسلام لا يمنع المسلمين من تعلم علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفضاء والطب والهندسة والإدارة العامة وإدارة الأعمال والزراعة وأمثالها، بل يحثهم على التخصص فيها وأخْذِها والاستفادة منها من أي مصدر كان. لكنه لا يريد أن يبقى المسلمون تبعًا لغيرهم على الدوام، بل يحبذُ لهم الاستفادةَ مما عند الأجانب من هذه الأمور، ثم التخلصَ السريع من استجدائها، وإقامةَ عالمهم الذاتي في الأوامر الإلهية التكوينية كما في الأوامر التشريعية.
وكان أجدادنا في عصورنا الذهبية، يتذكرون مرارًا وكل يوم أنهم خلفاء الله في الأرض، ويتحرون مراد الله ورضاه في كل حركة من حركاتهم الدنيوية والأخروية، ويمحصون أحوالهم بميزان الأوامر التشريعية، ويقيسون مدى صلتهم بربهم، ويَجِدُّون في التعرف على الأسس التكوينية بعشق جادٍّ للحقيقة والبحث، ويَحُدّون البصر لاستطلاع الوجود والحوادث، ويحثون السير في السلوك إلى التوفيق بين ما اطلعوا عليه فعلموا، وما سمعوه ففهموا، وبين العائلة والمجتمع والوجود كله، فيهرولون من العلم إلى العرفان، ويحلقون من المعرفة إلى المحبة، فيرون في كل شيء وحادثة وتبليغٍ من الحق تعالى وسيلةً للسمو نحوه، ويضعونها في مقدمة أعمالهم الدنيوية وملاحظاتهم الأخروية.
ولقد بلغوا أفقًا كهذا الأفق لأنهم عاشوا الإسلام وأحيوه باعتباره كلاًّ لا يتجزأ، وبحبهم إياه من صميم قلوبهم وتحبيبهم له، وبجعلِ الحياة الإسلامية غايةَ حياتهم. فلما توطد في قلوبهم روحُ حركةٍ كهذه توطُّدًا مكينًا، تأسَّس توازُن الدنيا والعقبى تلقائيًّا وجَعَلهم مجتمعًا متوازنًا. فصاروا مقتدرين على التعبير عن ذواتهم في كل مكان وفي كل مجال للحياة. فما برحوا -بفضل ذلك- يتجددون ويتغيّرون في دائرة “مقوماتهم” الذاتية، ويهرعون إلى التغيير، ويتعمقون على الدوام، ويصبحون بإيمانهم وحركيتهم أساتذةً يُعلمون الإنسانية دروسًا في الحضارة في رقعة جغرافية واسعة. فكانوا مرايا للحق تعالى في حركاتهم وسكناتهم، وكلامهم وصمتهم… وكانوا في كل تصرفاتهم وسلوكياتهم المتناغمة المؤتلفة كأن كل واحد منهم آلة موسيقية تُشْجي بأناشيده تعالى… ويَدْعون إليه بنداءاتهم الحرَّى كنداء الدلَّال. فكأنهم -بتعمقهم وعرفانهم هذا- مجتمعُ صحابة، وكأنهم ممثلون لخصال كثيرة تَرجع إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا ما دخل هؤلاء المنورون إلى العلاقات مع الله تعالى أو تفكروا في عقباهم، فإنهم -بين فينة وفينة- يرسلون أنفسهم في رحاب المعرفة، ويرتعشون بالخشية من أعماقهم، وتوجف قلوبهم، ويستغرقون في المحاسبة، ويجددون مراجعة كل شيء فيهم، ويَزِنون معايير القلب كل مرة، ويحسون دائمًا بوطأة المسؤوليات والتكاليف على أكتافهم كالجبال، وتذوب النفس والجسمانية فيهم ذوبانًا يبدلهم إلى موجودات روحانية، وبالأخص إذا ما فاض القرآنُ والحقائقُ التي يستهدف القرآنُ شرحَها وانصبت في قلوبهم، فإن هذه القلوب التي غدت وكأن كل واحد منها بيت من بيوت الله ستتطهر من كل خاطر أجنبي، فلا تفكر إلا به تعالى ولا تشعر إلا به وتشرق شمس النهار به وتغيب به.
الإسلام والقلب
والأصل أن القلب المؤمن لا يَسَعُ الإسلامَ إلى جانبِ معتقدٍ غيره أو تصورات أخرى. فما إن يدخل الإيمان والإسلام القلبَ، حتى يكنسَ المتقبَّلاتِ الخاطئة ويمسحها ويلفظها، وتصبغ العبادةُ كلَّ جهاته بلونه، ويصونه شعورُ الإحسان تحت دفيئةِ أن يرى الحق أو يراه الحق، فلا يَبقى فيه إلا الأنسام التي تهبُّ منه تعالى.
فبفضل هذه العلاقة مع الله تعالى، والقائمةِ على أساس الإيمان والإسلام، تتجلى في فكر الإنسان وسلوكه استقامةٌ لا تتذبذب، وإخلاصٌ متماد، وشعورٌ مستمر في التعاون، وهمةٌ قلبية للتساند، وأخلاق أخروية. فالإيمان النافذ إلى دواخل الإنسان بهذه الدرجة، يتجلى في أحوال المؤمن كلها، سواء في الوظيفة أو التجارة أو معاملات الأسواق أو سائر الأنشطة الاجتماعية، فيطبع بصماته عليها، ويرسم على روحه صورةَ معناه، وتنقلب الصورة بمرور الزمان إلى قصيدة معنوية تُقرأ على تصرفاته وسلوكياته كلها… فكأن مؤمنا في مثل هذا التماسك هو المعنيُّ بمقولةِ: “إذا رأيته ذكرتَ الله تعالى” (ابن ماجه).
ونعتقد أن الإيمان والإسلام بالمعنى الحقيقي هو هذا، والوضعُ الإلهي الذي نسميه “الدين” هو العنوان الجامع لكل ذلك، و”التدين” اسم لصيرورة هذه الحقيقة الجليلة حياةً أو إحياء للحياة. مبدؤه يستند إلى أجمل الكلام وأحسنه: كلمةِ الشهادة أو كلمة التوحيد.. ومنتهاه يمضي حتى يصل إلى رؤية الحق تعالى. فكل مَن يرَضى به ويعيشه على هذا الحال -والله يتولى السرائر- هو مؤمن ومسلم ومتدين من وجهة الكتاب والسنة… وأي اسم أو عنوان آخر غير ذلك قد يذكر به يعني تهوينًا من شأنه ووضعًا من قدره.
ويَرِد في المصطلحات الإسلامية بلساننا تعبيراتٌ مثل: “إسلام” و”مسلمان-مسلم” و”دينْدَارْ-ملتزم” عَلَمًا على المسلم. لكن لا يرِد فيها كلمات دسها الأجانب عن قصدٍ إلى لساننا فاستعملها البعض، مثل “إسلامي”(2) (Islamist) و”دينيّ”.(3) إننا لم نتعرف على مثل هذه الألفاظ والأوصاف في ديننا من قبل وإلى عصرنا الحاضر. ولا يهمنا أنْ وردت بعينها أو بأشباهها في الأديان الأخرى أو المنظومات المتشكلة في صورة أديان غير ديننا. فبموجب ديننا، المسلمُ الذي يرتكب الذنوب أو يقع في الخطيئة يكون “آثما”، لكنه يبقى “مؤمنًا”. والذي يترك العمل بأمور من الأسس الإسلامية، بشرط عدم إنكاره لها، يبقى “مسلما”. فعلى هذا الاعتبار، تسميةُ الذي يبتغي أن يعيش الدين كاملاً بــ”الإسلامي” (Islamist) أو “الديني” غيرُ مناسب، كما أن تسمية تارك العمل بقسم من الأوامر الإسلامية أو المتقاعس عنها بـ”الكُفري” أو “الضلالي” أو “الفسقي” تعبير غير لائق. وأرى أن على الجميع أن يصون نزاهة لسانه، وأن يفكر ويتكلم بمستوى يليق بالإنسان، وأن يتعلم كيف يحترم كل أحد.
ـــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: عوني عمر لطفي أوغلو.
الهوامش
(1) “الدوائر الصالحة” اشتقاق على الضد من “الدوائر الفاسدة” (المترجم).
(2) أنبه أن مسمى “إسلامي” (Islamist) و”ديني” له وقع أثقل على النفس بالتركية، إذ يقال بالنص “إسْلامْجِي” (İslamcı) و”دينْجِي” (Dinci) بحرفي النسبة الجيم والياء (جي)، وبهما أيضًا يُعرف أصحاب الحرف مثل “كَبابْجي” أو “حَلْوَجي” (صانع الكباب أو الحلوى وبائعهما)، فيكون المعنى أثقل في التركية وكأن المبلغ أو الداعية إلى الإسلام صاحب حرفة يحترف الإسلام ويتاجر به. (المترجم)
(3)الديني: نسبة إلى الدين كما يقال “الإسلامي” نسبة إلى الإسلام. وهذان المصطلحان قد تم استخدامهما من قبل بعض الأوساط المغرضة والمعادية للإسلام -ولا سيما في تركيا- بقصد تشويه سمعة كل مسلم واع يحمل همّ إحياء شعائر دينه وإبلاغها إلى الآخرين.وهذه الأمور تدخل في صراع المصطلحات الثقافية الكثيرة، الحامي على سطح العالم الإسلامي، وفي تركيا خاصة. ومرده إلى قصد التمييز أو الفصل (كل حسب مرامه) بين المسلم وبين المبلّغ أو المرشد أو الداعية. ويراد منه تجريد المبلّغ أو المرشد أو الداعية عن الإسلام في بعض الأوساط، لعزله والاستفراد به. (المترجم)