كنا تائهين ضائعين مشرَّدين هنا وهناك، فأدركَنا الله برحمته وأبلغنا بفضله وكرمه مواطنَ من الخير والعطاء يتعذر أن نصل إليها بحولنا وقوتنا. إننا نؤمن إيمانا قاطعا أننا نتفيأ في ظلال العناية الربانية. بعد التأكيد على هذه الحقيقة، من المفيد أن أنبه إلى أمور مهمة ينبغي الالتزام بها حتى لا ينقطع التأييد الإلهي والعطاء الرباني الذي لا يفتأ يهطل على رؤوسنا كالغيث في هذه الأيام:
مَحْوُ الذات
ينبغي أن نقنع “أنفسنا” أنه ليس لنا يدٌ في حصول هذا الخير العميم. فالنجاح كل النجاح لطف من الله وفضل من لدنه وإحسان. فإذا آمنّا بذلك فقد جنّبنا أنفسَنا شوائبَ الشرك، وأنجيناها من الأوهام التي تظل النفسُ تَضُخّها في دواخلنا لكي تضخّم أنانيتنا. بل يحسن أن نقول: “في الحقيقة، لو لم أُقحِمْ نفسي في هذا الأمر، لوجد له رجالا خيرا مني في إخلاصهم وصدق تمثيلهم، ولقطعتْ القافلةُ مسافات واسعة أضعافَ ما قطعتْه حتى اليوم. وا أسفاه، فلولا كدورة نفسي لتجلّى المددُ الإلهي وفق صفائه المقدس على الخدمة الإيمانية. وا حسرتاه، فقد ارتطمت تجلياته بفيروسات أنانيتي وتحطمت على ضعفي وسيئاتي. أجل بسببي أنا تعثرنا وتأخرنا عن المواقع التي قصدناها، وابتعدنا عن المراقي التي حلمنا بها”. بل ينبغي تكرار هذا السؤال: “يا نفس، كم إنسانا قتلتِ حتى اليوم!؟.. كم إنسانا كان يبحث عن الحقيقة فتعثر بك وفقدها إلى الأبد!؟”.
أيها البطل الذي نذر روحه للحقيقة! هذا هو القلق الذي ينبغي أن يمور في أحشائك مورا، ويهز كيانك هزا كي لا تنقطع تجليات الرعاية الربانية. ومن ثم، كلما عظم النجاحُ الذي تم على يديك، بالغْ في نكران ذاتك، وأوغِلْ في محو نفسك، وتذلّلْ أمام الله، وانكسر بين يديه، وأمعِنْ في العبودية له. ذلك أحرى بك كي لا تنسحق تحت أثقال أنانيتك. اغرِسْ هذه الفكرة في روحك، وثبّتْها في قلبك حتى تصبح جزءا من كيانك وبعدا من أبعاد طبيعتك. كان النبي صلى الله عليه وسلم يبكي صباح مساء متضرعا ويقول: “يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلَّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين”. فإن اتخذتَ هذا الدعاء وِردا لك، لا يفارق لسانَك ولا قلبَك، فقد وُقِيتَ من الانسحاق تحت حوافر النفس الجموح.
جعجعة الأنانية
ينبغي أن نعلم يقينا أن الخلل والفشل لا يقع إلا بما كسبت أيدينا، وأن النفس هي العائقُ الأكبر لكل خدمة إيمانية. وما يتم من توفيق وإنجاز، فهو محضُ إكرامٍ منه جلّ وعلا، فالخير كل الخير من الله وحده. أما مقولة ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾(القصص:78)، فلم يقلها إلا “قارون” حينما ظن نفسه مصدر الأرزاق والنعم. وإنها لَعبارة لم يزل كل قارون وفرعون يرددها عبر التاريخ. أما الأنبياء وعلى رأسهم سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم فقد كانت كلمتهم واحدة: ﴿لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ﴾(الأعراف:188). فمن يقلْ: “فعلتُ أنا، أنجزتُ أنا، نجحتُ أنا، لو لم أكن أنا…” فمعناه أنه واقع في مستنقع آسن من التفكير الفرعوني. يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم “لأنْ يَهدي الله بك رجلا واحدا خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم”. فلو هدى الله ملايين من الناس على يديك، فنسبتَ تلك الهداية إلى نفسك، فقد أحبطتَ عملك، ورميت بنفسك في لَظى النار وحرمتها من النعيم المقيم.
الغَيرة المقدسة
عندما يستقر في قلب المؤمن الشعورُ التامّ بأن الخير كله والتوفيق كله من الله وحده، يأبى إلا أن يكون شغلُه الشاغلُ وهمُّه الدائم هو الحديث عنه سبحانه، والغَيرةَ من كل قول يقال في غيره عز شأنه. يأتي بعض الناس أحيانا فيقول بإسهاب “قرأ عليّ الكتابَ الفلانيَّ كذا عددٌ من الناس…” أو “يشارك في دروسي كذا عددٌ من أصحاب الثقافة العالية…”، بينما الصحيح أن نُسهِب في الحديث عن شؤون الله دائما، وأن نكون غيورين في ذلك أيما غيرة. كثيرا ما نجد عاطفة الأبوة والأمومة تسيطر على بعضهم، فإذا ما جاء ذكر الأبناء في مجلس ما، انتهزوا الفرصة لكي يتحدثوا عن أبنائهم. كذلك نرى من يتحين الفرص للحديث عن مهاراته في الكتابة وبراعته في الخطابة. وهذا سلوك سيء لا يليق بإنسان ناضج يقظٍ أبدا. فالأحرى بنا أن نترقب الفرصة بعد الأخرى لكي نتحدث عن الله سبحانه. فإذا جاء ذكر الوفاء مثلا، ينبغي أن نخترق الكلام فنقول “ومن أعظمُ من الله وفاء؟! إن الله أوفى الأوفياء!..” ثم نسترسل في الحديث عن وفاء الله عز وجل لعباده. وإذا ما تَطرّقَ أحدُهم إلى مفهوم الحق وإحقاقه لأهله مثلا، علينا أن نسرع فنقول: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾(الزمر:67)، فقد أخرجَنا من العدم ووهبنا لباس الوجود، ولم يتركنا جمادا، بل منحَنا الحياة، ولم يكتفِ بنفخ الروح في أبداننا، بل كرّمنا ورفعنا إلى مقام الإنسانية، ثم شرّفنا بالإيمان، ولم ينقطع فضله عند هذا الحد، بل أكرمنا بأن أدخلنا رحاب خدمة الإيمان والقرآن”. نعم، علينا أن نؤكد ذلك، ونبدي غيرة -في هذا الشأن- منقطعة النظير.
فما بالنا ندور بالحديث حول هذا الأمر أو ذاك الشخص، في حينِ أن هناك واحدا أحدا جديرا بأن تدور كل الأحاديث حوله ليل نهار. بل إذا سمعْنا أحدَهم يقول “لقد ألقيتُ كلمة في حفل كذا، فتأثر الناس من كلامي وسالت دموعهم، وقالوا عن كلمتي كذا وكذا…” فينبغي أن يبلغ بنا الاستياء إلى حد المرض والتألم فنقول “ما بال هذا الرجل يطيل الحديث عن نفسه، وينسب الخير إليها، في حين أن الله تعالى هو صاحب المواهب والمنن كلها، وهو المستحق الوحيد للحديث عنه”.
اُنظرْ حيث أقمتَه
إذا أردتَ أن تعرف عند الله مقامك، فانظر حيث أقمتَه من نفسك. ما مدى حبك له؟ ما نوعية الصلة التي أقمتها بينك وبينه؟ عليك أن تراقب سلوكك إزاء هذا الأمر دائما، وتظل يقظا ومتحفزا باستمرار. فإذا كانت علاقتنا به وثيقة متينة، فسوف نستغلّ كل سانحة للوصول إليه وللحديث عنه، وبالتالي سيكون وحده هو المعروف، هو المذكور، هو المشكور، وسوف يخفق قلبنا بمعيته في قيامنا وقعودنا، وسوف نَرَى أثره على الكائنات في كل طرفة عين، وسوف نغلق أبواب تأملاتنا على ما سواه.
سر التوفيق
إن أعظم وسيلة لجلب العون الإلهي والتوفيق الرباني تأسيس التوافق وتحقيق التوحد بين أفراد المجتمع. فغنيمة التوفيق لها غُرمُها. وغُرمُها هو ترسيخ الوعي الجماعي، والحفاظ على سر التوافق وروح الاتفاق، والابتعاد عن كل نزاع وشقاق. فإذا أصبحنا كيانا متوحدا وكلاًّ متوافقا، فسوف تتنزل علينا من الألطاف ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وسوف نمتلك القدرة على رفع أحمالٍ أثقلَ من جبل قاف. أما إذا زال التوافقُ وتبخّر الاتفاقُ، ولم يبق سوى بضعة رجال ضعافٍ من حولنا، فلن يأتي المدد الإلهي حتى لو بذلنا قصارى جهودنا. فإننا إن قطعنا حبل الاتفاق فيما بيننا انتَسفتْ مناجمُ قوتنا ومنابعُ طاقتنا، وكنا سببا في انقطاع غُيوث الرحمة علينا والعون لنا. لذا، يجب أن نركز جهودنا كلها لكي نبقى متماسكين تماسك الفولاذ ومشدودين إلى بعضنا كالبنيان المرصوص. وها هو القرآن يعلن عن مرسومه الخالد بقوله: ﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾(الفتح:10)، ومن هنا فإن اللطف والسند الذي ينزل على الأفراد لن يداني حجمَ اللطف والسند الذي ينزل على الجماعة المتوحدة أبدا، حتى وإن كان هؤلاء الأفراد عمالقة في العلم والعرفان، جبالا في الزهد والتقوى، وحيدي أزمانهم في مواهبهم الذاتية وإقبال الناس عليهم وتقربهم من الله جل وعلا.