كثيرًا ما وجه للحداثة نقد أساسي يتجلى في اعتبارها منظومة تتسم بقدر كبير من الإطلاقية، تشبه في رؤاها وأحكامها -على مستوى الخطاب خاصة- إطلاقية الدين التي يستمدها من إطلاقية مصدره العلوي المتسامي على الإنسان.
فالحداثة كرؤية فلسفية للكون والحياة والطبيعة والإنسان، وللعلاقة بين هذه العناصر، ربما تأسست على فكرة موغلة في القدم، تنتمي إلى عالم الأسطورة اليوناني، حيث يسرق “بروميثيوس” شعلة الحكمة -والمعرفة الخالدة بالتالي- من الآلهة ليضعها في يد الإنسان. تلك الفلسفة البروميثيوسية في الحقيقة، هي التي تجلت في أفكار الحداثة، وامتد ذلك التجلي عبر المراحل التاريخية لفلسفة الحداثة بدءًا من عصر النهضة الأوربي وأعماله الفكرية والأدبية والفنية الكبرى، مرورًا بفلسفة الأنوار، وما أحدثته من حركية في المجتمعات الأوربية وفي طليعتها المجتمع الفرنسي بثورته الملهمة، وصولا إلى التغيرات الأساسية التي حدثت على مستوى الدولة -والمجتمع بالتبع في الحالة الأوربية- خلال القرنين التاسع عشر والعشرين للميلاد.
فالحداثة وفق هذا السياق، سعي العقل الإنساني لتبوء منزلة الدين في تدبير العالم وضبط علاقات الاجتماع الإنساني، وعليه كان النقد الأساسي لفكرة الحداثة التي انطلقت من هذه السلطة العليا للعقل على الوجود، وبالتالي مركزية الإنسان فيه لقدرة الكائن البشري على التحكم في الكون، إن الحداثة استبدلت بسلطة الإله، سلطة العقل الذي أضحى إلهًا جديدًا، واستعاضت عن إطلاقية الدين كما حكمت به الكنيسة عبر قرون من الزمن، لتستحدث دينًا عقليًّا، يفصّل العالم وفق متتالية من القيم الفكرية والأحكام الفلسفية الصارمة، فيُحقّب تاريخه بشكل تطوري اعتمادًا على فكرة السيادة النهائية للعقل البشري على الطبيعة والإنسان والمجتمع، دون أي مصدر آخر للمعرفة والرشد، أو سلطة على الإنسان سواه.
هذا النقد الذي ووجهت به الحداثة، تجلي في اتجاهات منتفضة في وجه ذلك القانون الإطار للإنسان والعالم، ولعل أهم تلك الاتجاهات الكثيرة، التي اعتبرت إجمالا اتجاهات فوضوية لا تقدم بديلاً مقنعًا، هو اتجاه “ما بعد الحداثة”.
فإذا كانت الحداثة ابنة العقل وسلطته، فإن ما بعد الحداثة محاولة للتحلل من تلك السلطة، وإذا كانت الحداثة تعتبر المعرفة العقلية القاعدة المتينة لقانون التطور البشري، فإن ما بعد الحداثة تكفر بتلك المعرفة، لصالح الذات الإنسانية غير المنضبطة بضوابط معرفة عقلية ناجزة.
باختصار، إذا كانت الحداثة بناءً فكريًّا صارمًا سمته خطاب مطلق، فإن ما بعد الحداثة نسبية مطلقة باعتبار نسبية نتائج تفاعل الذات مع المحيط، وانفعالها به وفعلها فيه، وسمة ذلك التفاعل المستعصي على الثبات، ولأن النسبية في التعامل مع المنجز الفكري، بل مع المعرفة الطبيعية والإبداع نفسه، أمر يصعب -أو ربما يستحيل- تحققه، فقد كان أن سقطت المدرسة البديلة في حالة من العبثية حين أضاعت المعنى لصالح الرؤية الفردية، وأفرغت اللغة من رسالتها التواصلية، وجعلت الحقيقة الواحدة مهما كانت بسيطة حقائق متعددة، مختلفة باختلاف وجهات نظر الناظرين إليها، بل ليست إلا شيئًا متواضعًا على اعتبار أنه حقائق ذاتية هي بعدد أنفاس البشر.
ولعل هذه الجدلية في الفلسفة بين حداثة مؤلهة للعقل على حساب أي مصدر آخر للمعرفة متعال على الإنسان وقادر بالتالي على رسم معالم الاهتداء لمساره في الزمن، وبين ما بعد الحداثة المنتفضة على ذلك التأليه لصالح نسبية مطلقة لأي معرفة، هي المسؤولة عن حالة الحيرة وغياب المعنى وانتصاب الأسئلة المقلقة و”المحيرة”، بعبارة الأستاذ محمد فتح الله كولن.
ولعل أخطر مستويات النظر التي برزت فيها تلك الأسئلة، هي المستوى الوجودي، حيث القضايا الكبرى للإنسان: قضايا المبتدأ والمآل، والجوهر والمعنى والرسالة، والجدوى من الحياة نفسها، والتي تجاذبت المسار العام للعقل الإنساني في أوربا وأمريكا بداية -حيث تجلت تلك الحداثة واتجاهاتها البديلة معًا، في نمط بناء الإنسان والمجتمع- ثم في غيرها من مناطق العالم بالتبع.
لقد كان ذلك الواقع ينادي باستمرار بالحاجة إلى معرفة الحقيقة، غير الخاضعة للتبسيط، سواء ذلك الذي يضيق من مصادر البحث عنها فيحصرها في داخل الإنسان نفسه، مستمدة من حواسه ومنتجة في عقله، فتكون إجابات الإنسان على رغبة البحث عن الحقيقة، وهمة التطلع إليها مسقوفة بحدود عقله المجرد، أو تبسيط الحقيقة بجعلها شيئًا مائعًا لا معالم له ولا هوية، وبالتالي لا أهمية.
إن الحقيقة بطبيعتها ليست بسيطة، بمعنى كونها جوابًا متسرعا على السؤال الإنساني، بل إن سمتها الأساس أنها مركبة، بمعنى العمق والدقة اللذين يحتاجهما إقناع العقل واطمئنان النفس، بحيث لا تقع الحقيقة في نهاية المطاف ضحية طرف كيفما كان، فيختزلها أو يحتكرها.
وإذا كانت الرؤية المعرفية للإنسان هي الصورة المتمثلة للحقيقة التي ينطلق منها لرؤية الواقع وقراءته، أو هي انعكاس للإدراك العقلي للموجد والموجودات على الكون، فإن الرؤية المعرفية للأستاذ محمد فتح الله كولن ربما صح وسمها بأنها رؤية تركيب صورة الحقيقة؛ إذ يرى من يتابع أعماله بعده الدائم عن اختزال الحقيقة في أجوبة بسيطة مهما بلغت درجة وثوقية تلك الحقيقة عنده، وكيفما كان مستوى تمكنه من الأدلة والبراهين العقلية التي تعززها في نظره، ولعل أجلى ما تتضح فيه تلك السمة: منظومته الاستدلالية المركبة، عل كل ما يعتقده من حقائق، وهو ما جعل أفكاره في هذا المجال تتسم بخاصّيتين أساسيتين هما:
أولا: تعليل الحقيقة الكلية من خلال بناء الحقائق الجزئية.
ثانيا: استخلاص الحقيقة بالتوفيق بين المتقابلات.
لقد لامست كتب ومقالات الأستاذ الذي اغترف من مصادر المعرفة الإسلامية الأساسية، سواء مصادر الوحي، أو التراث التفسيري والتأويلي له، أكثر موضوعات الفكر الإسلامي حساسية، بسبب إلحاح هذه الموضوعات في الحضور كقضايا تطبع راهن الإنسان المسلم، وتشكل صورته لدى غيره، أو لطبيعة المجالات الروحية والنفسية والعقلية التي يركز عليها في كتاباته، بوصفها عماد مشروعه في التربية والتعليم والفكر.
غير أنه وهو يلامس تلك الموضوعات بدقة، لم ينجر أبدًا إلى التبسيط في التعامل مع الحقائق إثباتًا أو نفيًا، ولا تخلى عن أسلوبه في بناء صورة الحقيقة لدى قارئه من أجزاء تتناسق وتترابط، معتمدًا على استخراج الحقيقة من بناء الحقائق المتقابلة التي يوفق بينها، فتكون دليلاً مؤكدًا لما يقول وحجة بليغة عليه.
الحقيقة المركبة من بناء أدلة الحقائق الجزئية
تُستمد الرؤية المعرفية لجوهر الحقيقة عند الأستاذ كولن من مصدرين أساسيين أولهما: القراءة الدائبة للوجود والسعي إلى تعرفه واستكناه جوهره، وثانيهما: العقل المسدد بعناصر التوجيه الكامنة في أعماق الإنسان والمتجلية في استجابات الروح لنداء الوحي، وهو في هذا المجال شديد التأثر برؤية الأستاذ بديع الزمان النورسي.
أما عن القراءة الدائبة للوجود، فإن فتح الله كولن يكاد يجمل جوهر العقل في وظيفة النظر المتأمل حين يقول مفسرًا نظرة النورسي في الموضوع: “العقل باعتبار أعماقه الكامنة، في رأي بديع الزمان النورسي والمفكرين المسلمين، عين تقرأ كتاب الكائنات. وأُذُنٌ داخلية منفتحة على اهتزازات واسعة ومتنوعة. فالعقل عنده ليس جزءًا من الطبيعة المادية، بل كينونة منفصلة، هدفها إعادة اكتشاف تلك الطبيعة ودوام قراءة حقائقها، وبقدر أداء العقل هذا الدور، بقدر امتداده من مجال المادة وصولا إلى ما بعد المادة، أو ما يجمله الأستاذ كولن في تعريفه العقل بأنه “جوهر” مجرد عن المادة، لكن ملاصق لها… وامتداد ضوئي من داخل الفيزياء إلى الميتافيزيقا… وهو من أهم الكليات (المدارس) للروح، وأضوأ نور لماهية الإنسان، فارق بين الحق والباطل، وتلك هي القاعدة التي ينبني عليها المصدر الثاني لرؤية كولن المعرفية للحقيقة، أي تسديد العقل بعناصر المعرفة الأخرى، إذ يقرر بداية أن “العقل بمعنى من معانيه هو حارس للروح، باعتباره موجها للإنسان إلى التفكير والإدراك والحجز عن القبائح والحث على المحاسن”. أي إن العقل ليس منفصلا عن مصدر القيم، بل هو مستمد منه بما يرقى به ليكون مستأمنًا على تمثل القيم، ومن هنا مهمته في “حراسة الروح” بعبارة الأستاذ كولن، “فهو المنشئ (المكون) بالتساند مع الوحي والإلهام والوجدان، وضده: العقل الضيق غير الملتفت إلى الملاحظات الميتافيزيقية، المنسلخ من العلائق السماوية”.
هذه العلاقة بين العقل ومصادر المعرفة الأخرى، هي في الواقع ما يؤسس التآلف في فكر فتح الله كولن، الذي يمنع أي صيغة من صيغ التنافر والتناقض بين الدين والعقل، أو القرآن والمنطق، فهو يرى أن “القرآن إذ يحيل المسائل كلها -ما عدا فيوضات أوامره التعبدية- إلى العقل والمنطق، لا يترك في توجيهاته ونداءاته فراغًا عقليًّا أو قلبيًّا أو روحيًّا البتة”. بمعنى أن الرؤية المعرفية التي يؤسسها القرآن، تعتمد على العقل في استنباط الحقائق، وذلك حتى تجيب على جميع أسئلة الإنسان، بتعدد مصادرها عقلاً وروحًا ونفسًا.
غير أن النظر المتدبر والعقل المفكر في رؤية الأستاذ كولن -على أهميتهما- إنما يمثلان الوسائل المؤدية للحقيقة، ومعالم الطريق الموصلة لها، إذ هي في المحصلة نتاج بناء من الحقائق الجزئية المتحصلة من مصدري القلب والعقل معًا، بل إنه يقدم رؤية لمسار التاريخ نفسه، قائمة على ذلك البناء إذ يقول: “إن التقدم والتراجع في التكرر الدائم للتاريخ، هو تناوب بين مراحل الفتور إزاء الوحي وإهمال “العقلي”، ومراحل ضمور التنور السماوي والنشاط العقلي. فمتى ما استضاءت القلوب وتنورت العقول بالأنوار التي ينشرها الأنبياء، وانكمشت الجسمانية والمادة في زاويتها، واستقرت الفيزيائية والميتافيزيقية في مكانهما، وتقدم “العقل السماوي” (بتعبير مولانا جلال الدين الرومي) و”عقل المعاد” (بتعبير الإمام الغزالي) على “عقل المعاش” و”العقل الترابي”، فقد تحقق -حينئذ- تمازج جديد للقلب والعقل”.
وعندئذ تولد الحقيقة ببناء نواتها وهي “الميلاد الجديد” بعبارته، أي “ميلاد ربط الوجود بمالكه الحقيقي في وعي و”إدراك” العصر مرة أخرى، بتفسير الوجود من جديد، وميلاد خلاص الإنسان من التناقضات الداخلية”.
وبناء على الشروط اللازمة لتلمس الحقيقة في الكون، والتي تمكن الإنسان من الاستثمار الأمثل للعقل، يذكر الأستاذ كولن وصف رجل الحقيقة بأنه “رجل يستطيع:
1- مجابهة ومقاومة كل الدواهي.
2- فكره وعقله مزج في بوتقة واحدة معارف ومفاهيم عصره بالحقيقة الأزلية وصهرهما معا.
3- ملكاته الروحية والقلبية هي بنفس نكهة القابليات والملكات، التي سحت من أمثال مولانا جلال الدين الرومي (1207-1273)، ويونس أَمْرَه (1238-1320) إلى بوتقة واحدة انصهرت فيه ونضجت”.
ومن هنا نرى كيف بيّن الأستاذ كولن، تلك الحقيقة المعللة بشروطها المؤسسة وخصائصها المميزة وأثرها في التاريخ، ليس في صلاح عالم “إنسان الحقيقة” فحسب، بل وحياة من يشاركه العيش فيه من أبناء الإنسانية كذلك، لأنه “في النهاية، قلب ناضج عارف، بينما يرى نفسه إنسانًا وفردًا عاديًا بين الناس. فإنه يستطيع أن ينسى، بل يضحي بلذاته وحظوظه من أجل خير وسعادة الآخرين”.
ولعل هذه الرؤية التي تبحث في مصدرية الحقيقة ومنهج التوصل إليها، تقدم اقتراحًا في هذا المستوى يجلي تنازع النظر إليها بين الارتدادات المختلفة لتأثيرات العقلانية في أكثر من اتجاه، وهي الاتجاهات التي تتقاسم الموقف من الحقيقة ومصدرها، إما على سبيل الاعتقاد الكامل أو الإلغاء الكامل.
التوفيق بين المتقابلات مصدرًا لاستخلاص الحقيقة
إذا كان الجدل قد اعتبر -على امتداد قرون من “زمن الغرب”، وعند أكثر من واحد من الفلاسفة ومؤرخي الأفكار من لدن أفلاطون إلى كارل ماركس مرورًا بهيغل- مبدأ مولدًا للعناصر اللازمة لتطور الفكر وبالتالي الحياة الاجتماعية للإنسان، وذلك انطلاقًا من وجود مبدأين نقيضين دائمي التفاعل، وبالتالي عاملين على إنتاج مبدأ ثالث؛ فإن الرؤية المعرفية عند فتح الله كولن، والتي لا تستعمل هذه الأداة التفسيرية في فهم الظواهر وتحليلها، تعتمد بالمقابل -كأساس لها- على مبدأ متواتر في كتاباته للنظر إلى القضايا والأفكار، واستخلاص الحقائق الجزئية، وهو مبدأ التوفيق بين القيم والمبادئ المتقابلة في محاولة بناء الحقيقة الكلية أمام قارئه.
ولعل الأستاذ فتح الله كولن يتخذ ذلك الأسلوب مقتربًا لما يبحث من قضايا لسببين:
أولهما: دقة الموضوعات التربوية والأخلاقية التي يلامسها، والتي يعي أهمية التعاطي معها من أكثر من جانب، تجنبًا للاختزال الذي يطبع آراء كثير ممن يستسهلون النقل غير الواعي، للمقولات والأفكار الجاهزة، ويعيدونها دون تبصّر ونظر فاحص.
ثانيهما: أن اشتغال كولن الفكري، الذي ينصبّ حول قضايا تتصل بالتربية الروحية والأخلاقية انطلاقًا من مصدر القرآن، يجعله يستصحب تجارب الرؤية الأحادية للحقيقة الدينية التي سقط فيها غيره فيتجنبها، ومن هنا يتيح لقارئه النظر إلى جوهره الحقيقة الواحدة من زاويتين مختلفتين، أو يساعده في تمثل الحقيقة الكلية من خلال التوفيق بين الحقيقتين المتقابلتين، إذ الحقيقة كما هي دومًا، تتأبى على التبسيط -بالمعنى المذكور سالفًا- فيرتبط مستوى إدراكها بالقدرة على مشاهدة الصورة المركبة بأبعادها وأجزائها الكاملة.
ولعل واحدًا من أبدع تلك الأمثلة التوفيقية بين الحقائق الجزئية المتقابلة، هو ذلك الذي يظهر في حديث فتح الله كولن عن الموت بوصفه حقيقة وجودية هامة، تستوقف الإنسان باستمرار، حين يتحدث عن “الوجه الآخر للموت” فيرى “أن الموت يعني بالنسبة لنا دومًا، مكانًا ذا أبعاد عديدة، وزمانًا ذا أعماق يتجول فيها الروح”.
ثم يمضي في تجلية جوانب الحقائق الجزئية فيه إلى أن يصل إلى نتيجة أنه “خليق بنا -حتى من الناحية المادية والجسدية- ألا نبكي ونحزن، بل نفرح للموت”. والأمثلة من هذا الطراز متعددة في كتاباته، بحيث يمكن الوقوف عند بعضها، ومن ذلك حديثه -على سبيل المثال- عن تقابلية القبض والبسط.
يبدأ الأستاذ وفقًا لمنهجه الثابت في منظومته الاستدلالية بوضع المفهومين، بوصفها حقائق جزئية في سياقها ضمن الحقيقة الكلية النهائية فيقول: “القبض والبسط” يدخلان في مدار حياة أي إنسان وفي أي مستوى كان، وبأبعاد مختلفة ويستحوذان عليه، يتعلقان بكل فرد يحيى بشعور مستشعرًا بالحياة”.
ثم يعرف المفهومين بتفصيل، ويؤكد بعد ذلك على تلك التقابلية ودورها بالقول: “أما القبض والبسط، فهما معاملة ذات أسرار في الحدود النهائية بعيدًا عن بعض الأسباب الإرادية، فإما يقطعان السبيل على سالك الحق أو يرفعانه ويلحقان به”.
وسيرًا على نفس المنهج، يبيّن الأستاذ كولن الجوانب غير المرئية في كلتا الحقيقتين المتقابلتين، فيحدثنا عما “يفيده القبض”: “لمن يجولون في ربوع المعرفة، يفيده الخوف للذين ما يزالون في الطريق”. كما يبيّن أن “البسط ربما يكون سببًا للانخداع والضياع لقسم من الأرواح الهزيلة، التي لم تتفتح بعدُ لمشاهدة الغيوب، ولم تغير أجهزتها وفق الحياة الأخروية”.
ونصل معه إلى أن “القبض الذي يريدنا نتيجة تقصيرنا وغفلاتنا، قد يكون مقدمة لبسط آت، والبسط الذي يؤدي إلى الشطحات والتراخي، ربما يكون سببًا لقسم من أنواع القبض المهلك”.
فيرى أن تسليط الضوء على الجانب المظلم من عناصر الفكرة الواحدة، مع التوفيق بين المتقابل من أجزائها، يبني فكرة متجددة عن ذات الحقائق التي يراها العقل وتدركها الروح، لكن بطريقة تمنع التناقض وتؤلف بين الوحدات البسيطة لبناء الحقيقة الواحدة المركبة.
والمنهج الذي يقارب به كولن الحقائق من عالم دقيق العناصر كعالم التربية الروحية، هو نفسه الذي يسير عليه مع غير ذلك من حقائق الإنسان، وحياته الفردية والاجتماعية في تقابلية أخرى مثل تقابلية الفقر والغنى، حين ينبهنا إلى أن “الفقر باب الغنى”.
غير أن أحد أهم جوانب هذا المنهج في التعارض مع الحقائق الماثلة أمام العقل، هو استعماله في محاولة الإجابة على الأسئلة التي تبدو مستعصية أمام العقل والمشكلات، التي ترى مستغلقة أمام نظره، من قبيل:
• العلاقة بين المجال الجغرافي لظهور النبوات ومسؤوليات الناس جميعًا في غيره من المجالات تجاه عقيدة تلك النبوات، والعمل بمقتضى رسالتها.
• التوفيق بين الإرادة الكلية للخالق، والإرادة الجزئية للإنسان، التوفيق بين هداية الله سبحانه وتعالى ومشيئة الإنسان، العلاقة بين منح الدنيا للإنسان ومحبة المانح العلي له… وغير ذلك من القضايا المتصلة بكثير من الحقائق، التي تواجه الإنسان على أكثر من مستوى، والتي يفصل في كل واحدة منها بمنهجه الثابت، بما لا يتسع المجال للتفصيل فيه.
إن الرؤية المعرفية للأستاذ فتح الله كولن -وهي تؤسس لمنهج بناء الحقيقة المركبة من الحقائق الجزئية، وتسعى إلى حل إشكالية العلاقة بين الأجزاء المتقابلة في تلك الحقيقة- تساهم في الواقع في تقديم أسلوب يتجاوز كثيرًا من سلبيات التعامل الجزئي مع الحقيقة، إما انطلاقًا من مصدرها، أو من خلال النظر إليها كوحدة صماء تتأبى على التفكيك والتحليل، أو بالاعتماد على أداة وحيدة للمعرفة دون غيرها، للوصول إلى جوهر الحقيقة الماثلة أمام الإنسان وقوانينها الحاكمة، وربما كانت تلك إحدى أهم خصائص هذه الرؤية المعرفية التي تتجاوز إطلاقية الرؤية المعرفية للحداثة وفلسفتها، دون أن تقع في عبثية النسبية المطلقة، بل هي تأسيس لمنهج يكتسب عمقه وتميزه من النظر إلى الحقيقة دون تبسيط يغفل خاصيتها الخالدة؛ وهي أن كل حقيقة إنما هي -بالضرورة- حقيقة مركبة في مبناها ومعناها على السواء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
(1) أسئلة العصر المحيرة، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(2) ونحن نبني حضارتنا، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: عوني عمر لطفي أوغلو، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(3) الموازين أو أضواء على الطريق، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(4) ترانيم روح وأشجان قلب، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.
(5) التلال الزمردية نحو حياة للقلب والروح، للأستاذ فتح الله كولن، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة.