يا عبد تأمل!.. إن لحياتك معنى غير المعنى الذي يظهر لك، وإن للوجود حقيقة وظلالا، فالتمس الحقيقة، ولا تكن من الذين ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾. يسير التائه في البيداء فيشتد به الظمأ ويمسه اللغوب، فيرى جناتٍ وأنهارًا، ويتوهم عصًا منتصبة في الصحراء، يطمع في أن يلقي عليها ثيابه ليقيل، فإذا هي حية تلتهم كل طائر يأوي إليها ليرتاح من وهج الظهيرة، ويقلب الطرف فإذا الجنات سراب بقيعة.. يشتد بك الظمأ، فترى الهلاك رأْي العين.. وتتبين أن ما كنت تظنه جنات تمنحك اللذة، ليس غير أوهام وقبض ريح.. وما اللذة؟ شتان ما بين لذة تورث غصة، ولذة تفتح لك باب السماء.. للمعصية مرارة هي أشد مرارة من العلقم، لا تجدها في لسانك فحسب، بل هي تسري إلى مسامك، وتنغص عليك كل لذة.. وللطاعة حلاوة لا تقاس بها حلاوة.. كلما كابدت عرفت.. انظر إلى ذلك المتسلق جبال الهملايا بحثًا عن قمة إفرست، كم من العناء يكابد، وكم من الوخز يصيبه، وكم يتردد بصره بين السماء والأرض، حتى إذا أدرك القمة تنفس قائلا: يا ألله! لا شيء هو أعلى.
فأي لذة يدركها آنذاك بعد طول عناء؟ فكذلك السائر في طريق النور.. تعترض طريقه الأشواك فتدميه، وتريد مخالب الشهوة العابرة أن تتخطفه فيصبر.. حتى إذا نظر إليك ربك بعين المرحمة امتدت يد إليك تهديك إلى برد وظلال.
قال بعض من رأى: “ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك”. وقال: “متى فتح باب الفهم في المنع عاد المنع عين العطاء”.
المنع عطاء…
تأمل تجده عطاء ما بعده من عطاء. يستعجل الإنسان بدعاء الخير، فإذا تخلف ما أراد إذا هو من القانطين، وما يدري لعل الله ادخر له خيرًا مما سأل، وأعطاه أفضل مما أراد.
هل اطلع أحدنا على الغيب؟ لو اطلعتم على الغيب لوجدتم ما فعل ربكم خيرًا.. هكذا يقول الحبيب. ولو فقُهتَ يا عبد لتبيّن لك، وذلك معنى ما تجده في الحِكم العطائية:
“العطاء من الخلق حرمان، والمنع من الله إحسان”
“كفى من جزائه إياك على الطاعة أن رضيك لها أهلاً”
“إنما يؤلمك المنع، لعدم فهمك عن الله فيه”
“متى أعطاك أشهدك بره، ومتى منعك أشهدك قهره، فهو في كل ذلك متعرف إليك ومقبل بوجود لطفه عليك”.
المنع عطاء…
“ها أنت تشكو السقم، وترى أن جسمك قد رابك بعد صحة.. وحسبك داء أن تصح وتسلما”.. تظن الداء منعًا.. منعًا من متاع الصحة.. منعًا من الحركة التي تعودتها.. منعًا من فعل طمحت نفسك إليه.. وما يدريك؟ لعله منع من فعل تظنه خيرًا وهو ليس كذلك.. أما أبصرت العطايا التي فاضت من الداء؟ لقد فتح لك المرض أبوابًا من العطاء، لو تدبرت، ما كانت لتفتح لولاه.. فمن تلك الأبواب باب الصبر.. فاحذر أن تضيعه، وتذكر قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.. ونعمة الصبر كنعمة الشكر، لا يقدّرها إلا أولو الألباب..
ومن تلك الأبواب باب التضرع.. ولنستمع إلى شاعر أدركه الداء فاستحضر حال أيوب عليه السلام، فتوجه إلى الله متضرعًا:
شهور طوال وهذي الجراح
تمزّق جنبي مثل المدى
ولا يهدأ الداء عند الصباح
ولا يمسح اللّيل أوجاعه بالردى
ولكنّ أيوب إن صاح صاح:
“لك الحمد، إن الرزايا ندى،
وإنّ الجراح هدايا الحبيب
أضمّ إلى الصّدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب،
هداياك مقبولة هاتها”..
أشد جراحي وأهتف بالعائدين:
“ألا فانظروا واحسدوني،
فهذي هدايا حبيبي”.
ومن أين لك أن تعرف هذا الباب الوافر العطاء لولا المنع؟ تقف متضرعًا على باب الباري، فتنفتح لك خزائن ما كانت تحلم بها. وإن الغفلة التي قد تكون قرينة السعة، قد تحجب عنك ذلك الباب. فإذا ضاقت اتسع لك الباب لتلج وتغرف من خيرات ظل ممدود، وماء مسكوب..
والباب الثالث هو باب الموعظة. وها أنت تصغي لأيوب وهو يقول: “رب إني ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾”.. فتعرف أن الأنبياء وهم أمثل الخلق وأزكاهم وأطهرهم، هم أشد الناس بلاء، والداء بلاء. فتتعلم كيف تجعل من المنع عطاء، ومن الضيق سعة، وكيف تستل النور من الظلمات، والورد من الأشواك، وتدرك من ذلك موعظة نفيسة ما كنت لتدركها لولا المنع.
يمنع عنك ليعطيك. فسبح بحمده بكرة وعشيًّا.