أشكرك يا رب أن خلقتني في أحسن تقويم وأنعمت عليّ نعمًا لا تعد ولا تحصى… فمنذ سنوات وأنا أستمع بدقة إلى الأعضاء التي وهبتني إياها، حيث كانت تحدثني عن مهامها ووظائفها التي كلّفتَها بها، لتكشف لي أسرار قدرتك وعظمتك. أحمدك اللهم على منحك لي فرصةً أدركتُ من خلالها أني أحمل بضاعة لا تقدر بثمن ولا تزان بميزان.
كلما أمرُّ من أمام إحدى المستشفيات، تتراءى أمامي صور الذين ينتظرون نقل كلية أو كبد… ترتسم أمامي صور المربوطين إلى الأجهزة التي تقوم بدور الأعضاء التي فقدوها.. فأسألك اللهم أن تمن عليهم بالشفاء وأن ترزقني الصحة والعافية الدائمة مدى الحياة…
مركز الكائنات
لقد أدركت عند إنصاتي إلى الأعضاء التي أودعتها داخلي حقيقةَ أنك أوجدت الحياة في مركز الكائنات، ثم سخرت كل شيء لخدمتها، فأمرتَ جميع المخلوقات بأن تؤدي دورها ضمن دائرتها لاستمرارية هذه الحياة… فالجسيمات الذرية وما نجهله من عوالم العدم، تحتل مكانة في أوسع هذه الدوائر لتأتي بعدها الذرات والجزيئات التي تتشكل منها العناصر، وهي بدورها تشكل الجزيئات الماكروية ومنها العوالم العضوية ثم النباتات فالحيوانات… فكل دائرة تسعى -في خدمتها للحياة- إلى إعداد الدائرة التي تليها. هذا وقد تحتل الجزيئات الضخمة؛ كالبروتينات والأمينوسيتات والهيدروكربونات والدهون، دائرة المواد التي تكوّن الخلايا لتتكون بعدها دائرة الخلايا، ثم تأتي مجموعة الخلايا التي ندعوها بـ”النسيج”، وكلما نقترب من المركز، تظهر أمامنا وبكل وضوح الحياةُ المعجزة التي تحتوي على أنظمة خارقة مذهلة؛ وكلما تعمقتُ في عالم هذه الدوائر، أدركتُ عظمةَ الإبداع وروعة الكمال، فليست هناك دائرة أقَلّ من غيرها أهمية ومكانة، فكل واحدة منها تؤازر الأخرى وتقوم بخدمتها، فلا تفوّق بين الذرات البسيطة الشكل المفعمة بالأسرار المحكمة، وبين سائر الأعضاء. إذ إن جميع هذه الدوائر بمثابة العضو الواحد إذا اختلت دائرة منها اختلّت سائر الدوائر ومن ثم تدهورت الحياة.
لقد وضعتَ الحياة -يا إلهي- في مركز الكائنات، وأمرت الكائنات بخدمة الحياة لتكوّن الأرضية التي تتجلى فيها أسماؤك الحسنى وصفاتك العليا. فلولا الحياة لما عرفنا اسمك “الرزاق” لأن الرزق لا يحتاجه سوى الأحياء.. ولولا الحياة لما أدركنا اسمك “الجميل” لأن الجمال يختص بالأحياء.. ولولا الحياة لما ذكرنا اسمك “الشافي” لأن الأحياء فقط يمرضون ويستشفون ويصحون.. فكل أسمائك الحسنى تتجلى في الحياة التي خلقتها في دواخلنا.. لقد جعلتَ الكائنات الحية كلها تجليًا لاسمك “الحي”، ووضعتنا نحن البشر على رأس هذه الكائنات، فنحمدك اللهم على كرمك وجودك الذي لا ينفد… ربما يؤدي كل عضو من أعضائي شكره لك بما يبديه من أحواله الفطرية وخصوصياته التي قدرتها فيه ومكنتها منه، غير أن تزويدك لي بالعقل والشعور والإرادة واللطائف القلبية العديدة -وقد خصصتني بها من بين الكائنات- يوجب علي نمطًا آخر من العبودية الإرادية الروحية المدرِكة. فامنحني إلهي مزيدًا من التفكر بآياتك والتأمل بجمال صنعك، وامنحني آفاقًا من المعرفة تجعلني ساجدًا لك مدى الحياة، وامنحني -يا إلهي- من القدرة والقوة أن أستخدم بها أعضائي التي استنطقتها بعلم جزئي بسيط منحتنيه بلا حول مني ولا قوة، في سبيل الخير والأعمال الصالحة.
الشكر على الرزق
ربّ وإلهي! أدركتُ -أيضًا- خلال إصغائي لحديث أعضائي أمرًا هو؛ أنك جعلت الرزق في مركز الحياة وجعلت الحياة في مركز الكائنات… فكل المخلوقات تسعى لاستيفاء الرزق وتحصيله.. حتى إن أعضائي خُلقتْ وفقًا لهذا الرزق بتسلسل وبترتيب إلهي فريد. ومن المثير أن المعدة والأمعاء تتشكل أثناء تطور المضغة التي هي مجموعة من الخلايا، كما أن تشكُّل الجهاز الهضمي والشروع بالتغذية قبل أن يتشكل أي عضو من الأعضاء أمر مدهش للغاية… وبالتالي فإن تناول الكتب الفيزيولوجيا، موضوع فيزيولوجيا الجهاز الهضمي ثم الجهاز التنفسي والدورة الدموية وعلم وظائف الأعضاء المفرغة، تبيّن بجلاء مدى أهمية الحياة وضرورتها. فأنشطة الكائنات الحية جميعها -بقصر فهمي- تدور حول الرزق، وأنت -إلهي- تمنح بفضلك كل الكائنات ما يناسبها من الغذاء؛ بدءًا من وحيدات الخلية إلى الحيتان العظيمة، وتدفعها للسعي من أجل أرزاقها.. ولولم يكن هذا السعي، لما كانت هناك حاجة لنشاطها وحركتها، ولولا هذا السعي لما كانت للمدنيات والحضارات قائمة، وما كان للعلوم أن تتطور… يبذل الناس جهودهم ليكونوا في الحياة أصحاب حِرَف وأعمال لتأمين رزقهم. فلو لم نشعر بالجوع لما دعت الضرورة إلى الاكتشافات والاختراعات والتعمق في فضاءات العلم. والحكمة من سعي الكائنات، تكمن في الطاقة التي نجهل ماهيتها وندركها بآثارها والتي أودعتَها في تلك الأرزاق. ولذلك كانت الفعاليات الحياتية وعمليات الاستقلاب جميعها، تدخل في دورتها للعمل فقط، بسبب القيمة الطاقية التي تغذيها… ولولا الطاقة المخزنة في مادة الغذاء، لما عمل أي نظام. لهذا نسعى لكسب أقواتنا ونتناول طعامنا (الجهاز الهضمي)، ثم نحرق ما تناولناه بالأوكسجين (جهاز التنفس)، وننقله إلى الخلايا (جهاز الدوران)، ثم نطرح الفضلات التي تنتج من الاحتراق إلى الخارج (جهاز طرح الفضلات)… هذه الأنظمة جميعها مُنحت لنا للمحافظة على حياتنا من خلال عملها بالطاقة اللازمة.
الشكر على أجهزة الحركة
ومن أجل ألا تضيع الطاقة هباءً، ومن أجل أن يتم استثمارها في أعمال مفيدة، جهّزتَنا بأجهزة الحركة والحواس والنظام العصبي، وهذا ما يميزنا عن النباتات. ثم منحتَنا لسانًا وقدرة على الكلام، وهذا ما يميزنا عن سائر الحيوانات، ووهبتَنا -بإحسانك وفضلك- عقلاً ومشاعر لا تملكها الحيوانات كذلك، ومتّعتنا بميزات قلبية وروحية، ولطائف نجهل خفاياها، وثقافة وجدان لنسابق بها الروحانيين… إلهي! لقد وضعتَ الرزق في مركز الحياة لتتجلى كل هذه اللطائف والإحسانات التي ذكرناها… أما الرزق، فسخرته لنا من اللحوم والخضروات والفواكه والأشربة المتنوعة بطعمها وألوانها.
لم تمنح النبات نظامًا عصبيًّا ولا حركيًّا، لذلك قدّمت لها رزقها جاهزًا مجهّزًا فغذيتها بالشمس من فوقها وبالماء والتراب من تحتها. ولكن الحيوانات التي منحتها نعمة الحواس والقدرة على الحركة تسعى وراء ما أنعمتَ عليها لتعبّر عن شكرها لك، كما أعطيتَ بعض الحيوانات القدرة على تحويل ما تأكله، إلى لحم ولبن من أجلنا.. نعم، خلقتَ النباتات والحيوانات وسخرتها لتأمين رزقنا… هذا وقد خُلق الكون والكائنات بتوازن عجيب؛ فولادتها، وتكاثرها، ومواتها مبرمج حسب إعاشة بعضها البعض… فلم تعط -يا ربنا- أيًّا من الأحياء تكاثرًا وانتشارًا بلا حدود، فكل حي مرتبط في وجوده بالأحياء الأخرى في توازن بيئي عجيب يقوم على أساس الرزق.
لقد بدأتُ -يا إلهي- بالحديث عن الأعضاء حتى بلغتُ التوازن البيئي، فكل شيء خلقته ينظر إلى الآخر… فكان قد طلب مني أستاذي أن أمضغ قطعة الحلوة بتريّث حتى أتيح لنفسي فرصة التفكير والتأمل بهذه النعمة مليًّا وأعرف مدى أهمية الشكر لك، وفي أثناء ذلك كانت أشعة الشمس تنساب من بين أوراق الشجر لتلامس رأسي برفق.. فابتدر إلى مخيلتي فجأة أني أتناول -في حقيقة الأمر- الشمس والهواء والتراب في قطعة الحلوة هذه، ثم تعلق بصري بالأشجار فرأيتُ أن اللقمة التي أمضغها ما هي -في الحقيقة- إلا تحوّل الشمس إلى شكل نبات… حيث إن السكر الذي تشكّل من أشعة الشمس المجبولة بالماء والتراب بعد طََهْيها بالغاز الكثيف الموجود في الهواء، يتحوّل إلى الدقيق والدهن أولاً، ثم إلى حلوة لذيذة صنعتْها يد الإنسان الماهرة. أما اللسان الذي جعلتَه بابًا لكل هذه النعم ومتّعتَه بتمييز اللذائذ عن بعضها البعض، ما هو إلا حافز لإدراك حزائن رحمتك المديدة، ودفعٌ على الشكر لنعمائك اللامتناهية، حيث جعلتَ -يا رب- دوام الرزق بالشكر عليه.. وإذا جعلت تعطُّش الحيوانات للرزق والسعي وراءه نوعًا من الشكر الفطري، فإنك طلبتَ منّا أن نقوم بالشكر المنبعث من الشعور الإرادي الخالص.
نعمة الشكر
يا سلطاني، ويا صاحب القدرة والرحمة اللامتناهية! الآن أدركتُ أن الشكر من أعظم النعم! نسألك اللهم ألا تؤاخذنا عن عجزنا بشكر يليق بكرمك! إذ لم نع معنى العبودية لك، ولم ندرك معنى الشكر على نعمك التي أنعمتها علينا من خزائن رحمتك.. لم نعرف استخدام عقولنا التي سخرتها لنا لتزيح لنا أستار الحق والحقيقة، ولم نعرف استخدام بصرنا في سبيل الكشف عن جمالك، ولم نعرف -كذلك- استخدام ألسنتنا في سبيل تسبيحك وتقديسك.. أشكرك اللهم على نعمك التي لا تعد ولا تحصى ألف مرة ومرة.
إلهي! في كل نبضة من قلبي، وفي كل نفَس يخرج مني، وفي كل خطوة أخطوها بقدمي، وكل شربةِ ماءٍ ترويني، وكل لقمة أتقوّى بها، وكل طرفةِ عين، وكل صدى صوت في سمعي، وكل تحريكةِ مفصل، وكل حبةِ عرَقٍ تتدحرج على جلدي، وكل عبق يتسلل إلى أنفي، وكل جوعة وكل شبع، وكل كلمة تصدر من حلقي، وكل عمل تقوم به جوارحي وما ينتج عنه من آثار… إلهي! لا تحرمنّي إدراك أن ذلك كله بأمرٍ وإرادةٍ كلية منك… فلا يرفّ جناح لذبابة ولا ورقة في شجرة بلا علم أو إرادة منك… فهل يمكن أن تتحرك شعرة في رأس إنسان جعلته خليفة في أرضك إلا بعلمك وإرادتك؟! لكننا في معظم الأحيان نغفل عن ذلك وننساك، وربما لا يذكر النعمة من يتذكر، إلا بعد أن تستردّ منه ما وهبتَه… فاجعلنا إلهي من الذاكرين لنعمك والشاكرين لك.
مرضاة الله
إلهي! ألهمني أن أستعمل أعضائي السليمة -التي وهبتنيها- في مرضاتك… اللهم أرغب إليك أن تأخذ أماناتك عن أن أعيش عيشة الغفلة عنك، فأكون في منأى عن خصومة هذه الأعضاء التي لا تقدّر بثمن. لقد حدثني دماغي عن قابليته وقدراته الكثيرة عند بيانه عن نفسه وعن خصائص تكوينه، غير أني لم أستعمله كما ينبغي… اللهم إني أسألك علمًا نافعًا أؤدي به وظيفة دماغي، فيعمل على اكتشاف أصول وقواعد جديدة تزيدني معرفة بك. وامنحني -يا الله- إرادة أغمض بها عيني عن المفاسد فلا أرى إلا الخير ولا أقرأ إلا كتاب الكائنات. وأعنّي -يا رب- على السير إليك، واجعل لساني يلهج بذكرك، وأذناي تسمع الواردات من بيانك، وقلبي ينبض باسمك، وأنفاسي لأنفقها من أجلك، ومعدتي لأملأها من رزقك الحلال، ونفسي حتى تجد طمأنينتها في السعي في مرضاتك، والرغبات المشروعة من أمرِك، وأعنّي -يا الله- ليكون ذلك خلُقًا عندي أنال به رضاك… إلهي! نحن عبيدك الضعفاء العاجزون، المُلكُ ملكك تتصرف فيه كما تشاء، فتبتلي بعض عبيدك باسترداد بعض ما وهبتهم… فامنحهم إلهي الصبر، ولا تمتحنّا بما لا نقدر عليه، وارزقنا التعرف على نعمك علينا قبل زوالها، وارزقنا الشكر عليها يا أرحم الراحيم.
ـــــــ
(*) الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.