طاب بَرْدُك أيها الإنسان!.. وكأني أسمعك تقول: وهل يمكن أن يجلب البردُ طيبًا.. فأين ظلت الأيام الدافئة إذن؟! معك كل الحق، فأنتم بنو البشر لا تحبون البرد؛ لأن المهندس العظيم للكائنات خلَقكم وفقًا للبيئة التي تعيشون على أرضها، وهيأ لكم أعضاءكم فيزيولوجيًّا لتتمكنوا بها من القيام بأعمالكم في المناطق المدارية والاستوائية، في يُسْر وسهولة… وزوَّدكم بالعقل لتجدوا الحلول التي تسهل لكم العيش والحياة.. فصنعتم -مثلا- الملابس السميكة لتقيكم من البرد حتى في المناطق القطبية، وأنشأتم البيوت لتعيشوا فيها، واخترعتم الأسلحة لتصطادوا بها وتقتاتوا… أما نحن معشر طيورِ البطريق، فلسنا سوى حيوانات لا تملك عقولاً كعقولكم ولا تتمتع بقدرة على اختراعات مثلكم… ولكن إياكم أن تظنوا ذلك احتجاجًا منا على أقدارنا أو شكوى، بل هو ما جرى به اللسان واقتضاه المقام، لأنه سبحانه لا يترك أحدًا من خلقه إلا ويرزقه، وبالتالي يجهزه بأدوات تساعده على العيش في هذه الحياة الدنيا.
والحمد لله.. وإنْ لم يجعل لنا عقولاً كعقولكم ولا مشاعر كمشاعركم، إلا أننا نعيش حياتنا في يُسْر ومن غير حَرَج، وقد منحنا كل ما نحتاجه وجهّزنا بأحسن صورة. ولو لم يكن كذلك، فمن يقدِر على تحمُّل هذا البرْد الشديد!
فأنتم لا تستطيعون القدوم إلى البلاد التي نعيش فيها، والقلائل الذين وصلوا إلى هذا القطب البارد، إنما وصلوا بوسائل ومعدات كثيرة باهظة ولمدة قصيرة… بينما خُلقنا في هذا القطب الجنوبي ببنية نستطيع أن نتحمل بها بردَه القارس. وإياكم أن تصدقوا من يقول: “إننا نحن معاشر البطريق خُلقْنا صدْفةً ونَمونا نتيجة طَفْراتٍ وراثيةٍ إلى هذه الهيئة التي نستطيع بها تحمّل البرد خلال هروبنا الطويل من حرّ البلدان الدافئة”… فليس هناك من يتخلى عن عشه الدافئ ويهجره إلى البرد، ولا يمكن لحيوان أن يكتسب بالطفرات الوراثية التصادفية جسمًا رائعًا متكاملاً كأجسامنا. ولقد خلقنا بارئنا فزوَّدنا بما نحتاجه من الخصائص لنتمكن من العيش في برد القطب الجنوبي، ولا يمكن لمجهول كالصدفة، أو الطبيعة، أن تزوّدنا بهذه الخصائص قط.
لقد خلق ربنا كل حيوان بإتقان، وإن هذا الإتقان إنما يكتسب قيمته بتناغمه وانسجامه وتكيفه مع البيئة المحيطة به. وما الضب الذي يعيش في الصحراء إلا أثر من صنعة الله المُتْقَنة، وهذا الإتقان إنما يأتي من الخصائص التي زوده بها لينسجم مع شروط الصحراء القاحلة، في حين لا يستطيع أن يعيش في المناطق الباردة ويتحمّل بردها القارس في القطب الجنوبي. ونحن كذلك، لو رحلنا إلى الصحارى القاحلة لأصابتنا العاقبة ذاتها وكان مصيرنا الهلاك. والأسرار القليلة التي توصلتم إلى فك رموزها من خلال علومكم البيولوجية والبيئية، تستند في حقيقتها إلى علم الله المطلق، وبعلمه سبحانه خَلق كل شيء فأحسن خَلقه. ومن العيب أن يقال إن عُضْوايَ الأماميين القويين اللذين يشبهان المجاديف، ويوفران لي السباحة السريعة في الماء؛ هما جناحا طائر، ولو كانا كذلك لما نفعاني بشيء. لكنهما مجدافان رائعان وعضوان مَصيريان بالنسبة لي، ولا يوجد طائر يجيد السباحة مثلي، رغم أن أجنحتهم رائعة تمكّنهم من الطيران.
بالله عليكم قولوا لي، ما الحاجة إلى تكوير أجنحة طائر يطير لتأخذ شكل مجاديف تساعده على السباحة؟! إذا كنتُ أستطيع الطيران فعلاً، فلماذا أعطل أجنحتي وأتخلى عن الطيران إذن؟ أو لماذا أكور أجنحتي كالمجاديف وأجبر نفسي على العيش في هذه المناطق الباردة؟! ألم يكن يكفيني أن أعيش مع الطيور التي تعيش في البلاد الدافئة؟ غير أن الأمر لا يقف عند حدود أجنحتي المؤهلة للسباحة فقط دون الطيران، فإني مزوّد أيضًا بخصائص كثيرة وأعضاء عديدة أستطيع العيش من خلالها في جبال الجليد التي تغطي القطب الجنوبي.. فقد خلقني ربي مصمِّم هذا الكون، بشكل يتناسب مع هذه المناطق، ولا أستطيع العيش في البلاد الحارة.
فالريش الصلبة المنتصبة والتي تغطي جسمي، فضلاً عن أنها تعمل كدفة السفينة التي تمكنني على الدوران السريع المفاجئ أثناء صيد السمك، تعينني أيضًا على الوقوف على السطوح الجليدية الزلقة. أما جسمي فقد صمم على شكل توربيد مقاوم على الضغوط العالية في أعماق الماء، وهو ما يتحدث عنه مهندسو الطيران والمشتغلون في مجال الرياضيات، ولا أدعي ذلك من تلقاء نفسي. فهل يمكن لي أن أكتسب هذه البنية النموذجية الرائعة التي أغوص بها تحت المحيطات وأسبح بسهولة، وأطوّرها من تلقاء نفسي؟!
جسمي يحتفظ بالحرارة ويختزنها
أجسامكم الجافة في الطقس البارد لن تبرد كثيرًا، غير أنه ما إن يلحق البلل أجسامكم فستتعرضون عندها لبرد حارق شديد، ولذلك فإن قدرة العالم الخبير غلفت الزغبات الغليظة التي تحافظ على حرارة جسمي، بزغبات دهنية وكأنها سقف قرميدي يحميني من البلل.
منقاري القوي هو سلاحي الوحيد الذي أحصل به على غذائي، وأتمكن من خلاله من الإمساك بفرائسي من سمك الجليد وما أصادفه من غذاء. وهو صغير بالنسبة لجسمي ليكون فقدان الحرارة في حده الأدنى، وكذلك قدَماي صغيرتان لنفس السبب، لأن العضو الأجرد كلما اتسع سطحه كلما كان فقدانه للحرارة أكبر.
إن ما تطرحونه من الحرارة وثاني أوكسيد الكربون عند الزفير ترونه على شكل بخار الماء في الهواء المتكاثف في الشتاء ويسبب الغباش في نظاراتكم، وبذلك تفقدون مقدارًا من الماء وكمية من الحرارة. أما فتحات تنفسي فقد صممت بشكل متاهات معقدة لتحفظ الحرارة داخلها دون أن تطرحها مع الزفير، فالهواء الساخن الرطب الذي ترسله رئتاي يلقي ما تحمله من الرطوبة والحرارة في تلك المتاهات، لتعود إلى الدورة الدموية والاستخدام من جديد، ولا يخرج في الزفير إلا الهواء البارد المحمل بغاز ثاني أوكسيد الكربون. وحتى تكون العملية منتجة، لابد أن تكون مجرى الدماء في السطوح الداخلية لفتحات أنفي، معاكسًا لمجرى الهواء، وهذا ما تسمونه أنتم البشر بالنظام الترموديناميكي أي بـ”الدورة العكسية”. ولقد خُلق الريش الأسود على ظهري والأبيض على بطني، بشكل يتناسب مع مبادئ الحرارة الفيزيائية والبصرية… فأنَّى لعقل طائر عاجز مثلي أن يدرك هذا الإتقان؟! نعم، فبينما يلعب سواد ظهري دور لاقطات الطاقة الشمسية في أسطح منازلكم، يلعب البياض في بطني دور التمويه في بياض الثلوج الجليدية، فنحن ندير صدورنا نحو العدو فلا يستطيع تمييزنا.
الوحدة قوة
إن التجمع الكثيف من أفضل طرق حفظ الحرارة، ولذلك نعيش في جماعات كبيرة العدد قد يصل إلى المليون، وليس من المعقول أن تدعوا أننا نحن (البطارق) مَن اكتشفنا هذه الصيغة التي تحمينا من التجمد في العواصف الثلجية. فعندما نجتمع على شكل دوائر، فإن الحرارة تتزايد كلما اقتربنا من المركز، ولذلك نضع ضعافنا في المركز، بينما يتوزع الأقوياء حولهم ويديرون ظهورهم نحو الخارج، ويتناوبون فيما بينهم على الحلقات الخارجية، لينال الجميع قسطهم من الدفئ والحرارة. وبهذه التضحيات وهذا التعاون في مجتمعاتنا المتراصة، ينخفض الفاقد من الحرارة بنسبة (50%). وهذا النوع من التصرفات المثيرة، لا يمكن حل ألغازها بنظريات ساذجة كالقول بأنها “غريزة”… وكم يليق بكم أن تقولوا: إن هذه التصرفات، إنما هي توجيه إلهي نابع من الرحمة والشفقة الإلهية لنا بغير إرادة منا… تمامًا كالوحي الإلهي إلى النحل في أنماط حياتها وممالكها وتعاونها… وعندها تدركون الحِكمة التي تختفي وراء الحوادث بشكل أفضل، وتنجون بأنفسكم من إضفاء صفة الألوهية على الطبيعة، وتنقذونها من الشرك بالله الخالق الأحد.
يجب أن أعمل من أجل البقاء
يأتي عملي الكبير بالغوص في أعماق البحار في سبيل تأمين غذائي، على رأس أولويات نشاطي بعد المميزات الفيزيولوجية الفطرية التي مُنحتْ لي لأتمكن من الحياة في القطب الجنوبي. فأنا أستطيع السباحة بسرعة تصل إلى (30) كم في الساعة بفضل الشكل الإنسيابي لجسمي وجناحي الضامرة القوية… ويمكنني البقاء تحت سطح الماء (18) دقيقة، وأغوص إلى (260) مترًا في أعماق البحر وأصطاد. إن كميات الطاقة التي أصرفها، تزداد مع البرد، ولذلك يتوجب عليَّ أن أتناول كميات كبيرة من السمك المكتنز بالدهون والقريدس والمخلوقات البحرية الأخرى، فأسماك البحار الباردة تكتنز كميات كبيرة من الدهون. أغوص في مياه البحر ساعيًا وراء صيد الأسماك حتى ينفد الهواء المحتبس في الرئتين، تتحرك جناحي بقوة تؤمن لي السرعة في السباحة، بينما يؤمّن ذيلي المناورات والدوران المفاجئ. وإذا ما فوجئت بعدو يطاردني؛ فسُرعان ما أصعد إلى سطح الماء وأقفز إلى ارتفاع يبلغ مترين إلى البر أو إلى جزيرة جليدية عائمة.
نتكاثر عن طريق البيض، فتبيض بعض أنواعنا بيضتين في العام، وتبيض أنواع أخرى بيضة واحدة. وحفظ هذه البيض دافئة في أعشاشها والعناية بالفراخ وحمايتها، قضية مهمة هي الأخرى في ذلك البرد القارس. فالعالِم الخبير، خلق لنا كل التدابير اللازمة لتأمين احتياجاتنا الطبيعية. تتعاون الأزواج على رعاية البيض داخل الأعشاش التي نصنعها من الحجارة والنباتات اليابسة. تترك الإناث البيض بعد إباضتها للذكور ليعتنوا بها، وتتوجه إلى البحار المفتوحة لتأمين الطعام الذي تحتاجه، حيث يكون الذكور قد نالوا من الغذاء ما يكفيهم واكتنزوا في أجسامهم الكثير من الدهون قبل استلام البيضة التي سيحتضنونها. يبقى الذكر طاويًا على الجوع وصابرًا لعدة أسابيع يصرف الطاقة التي يحتاجها مما اكتنزه جسمه من الدهون قبل أن يتوجه نحو البحث عن الطعام. فالبيضة لو تُركتْ قليلاً بلا رعاية، فإن نُموها سيضطرب. يحمل الذكر البيض فوق قدميه ويغطيه بالريش الذي يغطي بطنه حماية لها من البرد، حتى تعود أنثاه بعد أن يكتنز جسمها بالدهون من الغذاء الذي تناولته طيلة أسابيع، وتستلم عن زوجها مهمة رعاية البيضة، ويتوجه الزوج بدوره نحو البحار المفتوحة باحثًا عن طعامه وتخزين الدهون. يبقى الفرخ بعد خروجه من البيضة، في جيب دافئ من جلد البطن حتى يتم أسبوعه الثامن وكأنه في غطاء من لحاف يحميه من البرد. ثم تسعى الأنثى لإبقاء الفرخ في مركز مجتمع البطارقة.
وهكذا نحن البطارقة مزوّدون بالفِطْرة بشكل كامل لنعيش في القطب الجنوبي. فهل يمكنكم أن تدعوا بأن كل هذه التدابير المتخَذة والعناية الفائقة، كانت نتيجة تصادف أعمى أو أنها تكوّنتْ عبر سلسلة من التجارب والخطأ والصواب؟!
لقد شرحت لكم موجزًا بعض النعم التي لا تعد ولا تحصى مما وهبنا إياها خالقنا الخبير بعلمه المحيط بكل شيء… وهذا كل ما لدي، فلا تنتظروا من بطريق مثلي أكثر من ذلك. ولابد لي الآن أن أغوص في البحر حتى لا أتجمد من البرد، وأسعى لالتقاط الأسماك وتأمين رزقي، فزوجي يطوي على الجوع منذ شهر يرعى بيضتنا، وعليَّ الآن أن أعود لأستلم نوبتي منها… أستودعكم الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: مصطفى حمزة.