كل الآيات القرآنية الداعية إلى التفكير في مخلوقات الله سبحانه وتعالى وحسن تدبيره في الكون، حجة على كل من يدّعي أن العلم يؤدي إلى البُعد عن الله سبحانه وتعالى، وأن إعمال العقل يُبعد عن الدين، وأن الباحث في العلوم الكونية بعيد عن الدين، وأن الدين يُبعد الموضوعية والعقلانية والتفكير العلمي عن الحياة.
إن حياة الإنسان كلها في الإسلام تمر عبر الدين بما في ذلك العلم. فقد جعل الإسلام الإيمان حافزًا ودافعًا هامًّا للإنسان لاكتشاف خالقه من خلال اكتشافه لعظمة خلقه. وهذا ما يعرف بدليل الأثر على وجود المؤثر. وهكذا فكلما ازداد الإنسان علمًا ازداد معرفة بالله، وكلما ازدادت معرفته ازداد تدينه وخشيته من الله سبحانه وتعالى، وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة: ﴿كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾(فاطر:28).
والناظر اليوم إلى تخبط المناهج العلمية في الغرب، يعرف مدى خسارة الغرب بإبعاده النموذج الإسلامي للتفكير العلمي، واستحداث مناهج أصبحت تتفلت وتنهار على نفسها. واليوم تكاد المعرفة الغربية الحداثية تستنفد طاقتها. فكل ما أنتجته الحداثة بات الآن ماضيًا في نسق معرفي ثابت، بحيث أصبح ثمة إدراك عميق لدى علماء العلوم الطبيعية الحديثة -كما يشير الدكتور عبد الوهاب المسيري- بأن المعرفة الكلية أو حتى شبه الكلية، مستحيلة، وأن رقعة المجهول تتزايد بنسبة أكبر من تزايد المعلوم، وأن معرفتنا العلمية المادية عن الواقع ليست يقينية، وإنما احتمالية إلى حد كبير… وذلك بسبب استحالة تفسير الواقع كليًّا اعتمادًا على التفسير المادي.
بين العلم والدين
من المعلوم أن المعرفة الغربية قد تأسست على موقف عدائي من “الدين” والمعرفة الدينية، بعكس الحضارة الإسلامية التي قامت على مصالحة وتسوية معها تجعل كل المقولات بين العلم والدين، المنقولة من السياق الغربي وتاريخه الديني، أمرًا لا معنى له في سياق الحضارة الإسلامية.
يقول البروفسور محجوب عبيد طه: “ليس هنالك تخوف على الدين من العلم، هذه هي عقيدة المسلم الصحيحة. كثير من الناس -من المسلمين وسواهم من أهل المعتقدات الغيبية- يظن أن في الأمر حرجًا أساسيًّا وتناقضًا واضحًا لا سبيل لمعالجته ويَحسن أن يغض عنه الطرف. وهذا في الحقيقة وهمٌ كبير، وفيه سوء ظن بالعقيدة أو بالعلوم الطبيعية أو بالإنسان وصدق تعامله معهما معًا ومع الكون والحياة بصفة عامة، ذلك أن الصدق وإخلاص النية وتطهير السريرة وتنقيتها، هي من صفات الإنسان السوي ومن الخصائص اللازمة للمؤمنين، ولا يتسق أبدًا أن يجمع المؤمن في عقيدته ومنهج حياته، بين متناقضات ينكر بعضها بعضًا”.
فالمنهج الإسلامي، يجعل الإنسان يتعامل مع الواقع تعاملاً معرفيًّا، ولكن باستخلاف الله له فيه، يقبل ما يقبل ويرفض ما يرفض بمفهوم العبادة الشاملة لله عز وجل. والحس والعقل معًا، محكومان في أداء دورهما العبادي في المعرفة بالمصدر الموثوق اليقيني والرباني وهو الوحي. ذلك أن الإنسان لا يمكنه الإيمان بالحس دون وجود عقل يحكم بصدق الإحساس، كما أن العقل -وإن كان يستند إلى الحس- فلا يمكن أن يكون الحس هو الذي يحكم عليه بمحدوديته. والحس والعقل -وهما ملك الإنسان المخلوق العاجز الذي يبتدئ علمه وينتهي ويفني- لا يمكن أن يكونا المصدر الوحيد للمعرفة، وإنما لابد من مصدر لا ينضب ولا يحكم عليه بالمحدودية والفناء، وهو المصدر الرباني عن طريق الوحي. ثم يأتي دور العلم والعقل في الحفاظ على العقيدة عبر النظر والتأمل في الكون، لالتماس الحجة العقلية التي تعضد عقائد الإيمان.
يقول أينشتاين “دين بلا علم أعرج، وعلم بلا دين أعمى”. لهذا يمكننا تبنّي وجهة النظر القائلة إن الاعتقاد بصحة العلم الطبيعي جزء من الدين. لأن العلم الطبيعي يتعلق بالظاهر، وتصديق الظاهر دليل العقل والحكمة، ومن لا يقف عند الظاهر ويتأمله ويربط بين أحواله بالتسبيب والتعليل، لا ينتظر منه أن يحسن الاعتقاد بوجود الغيبيات وبحقيقة تأثيرها في الحياة. ولذلك فليس واردًا أن نسحب الثقة من العلم الطبيعي، لأن الإيمان بالثابت من العلم الطبيعي، هو مقتضى العقل وجزء من الإيمان بصدق الدين. بل إن صريح القرآن الكريم، حث على تدبر الكون والكائنات، وعلى تأمل خلق الله وإدراك سننه في سلوك المخلوقات، وفضل العالمين بهذا على من جهلوه، وهو من جوهر العلم الطبيعي ويتم بوسائله ويحقق أهدافه.
وفي هذا السياق يقول “موريس بوكاي” في مقدمة كتابه: “إن القرآن يذكر أنواعًا كثيرة من الظاهرات الطبيعية، ولكن معرفتي كانت وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنص العربي، استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أي مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث (…) ولا عجب في هذا إذ إن الإسلام قد اعتبر دائمًا أن الدين والعلم توأمان متلازمان. فمنذ البداية كانت العناية بالعلم جزءًا لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام. وأن تطبيق هذا الأمر، هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية. تلك التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوروبا”.
العلم التجريبي والأمن الفكري
بهذا يمكن القول، إن العلم التجريبي أداة فعالة جدًّا في تحقيق الأمن الفكري والعقدي لدى الفرد المسلم، وهذه التربية القرآنية الداعية للتفكر والتدبر العقلي بقصد الاستدلال على مسبب الأسباب والخالق الفعلي للأكوان، إنما يضع لها الوحي النبوي -المبيّن للكتاب- ضابطًا مهمًّا، وهو عدم تجاوز هذا التفكر العقلي والتأمل ليصل إلى إعمال العقل والتفكر في الذات الإلهية وماهيتها لابتغاء معرفة كنهها.
لقد حوى القرآن فيما حوى، تصوُّرًا لجانب من علم الله الشامل، ليهتدي العقل البشري به فيرتاد آفاق العالم المعلوم منها والمجهول، فتتَّسِع المدارك، ويسطع نور الإيمان المطلق بوحدانية الله سبحانه وتعالى؛ الذي بيده مفاتيح العلوم كلها. ففي الوقت الذي كانت دراسة العلوم الكونية والطبيعية في نظر بعض الشرائع السماوية، أمرًا محرَّمًا في العصور الماضية، جاء الإسلام ليكون أجرأ مَنْ كشف الحجب عن العقل البشري- ذلك الكنز الهائل الذي يحمله الإنسان في رأسه- فأمره بالبحث والدراسة في البرّ والبحر، والتفكر في النفس البشرية لإدراك عظمة الكون التي تنمُّ عن عظمة خالقه، وليستفيد من بديع صنع الله عز وجل وينتفع به.
مما سبق، يتبيّن لنا أن النتيجة النهائية للإعجاز العلمي هي الأمن العقدي والفكري: (قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة:259)، (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(البقرة:260).