منذ اللحظات الأولى لدعوة الإسلام جاءت التأكيدات القرآنية على عالمية هذا الدين وعدم اقتصاره على العرب: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء:107)، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)(سبأ:28).
لقد فتح الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابتُه الكرام -رضي الله عنهم- صدورَهم لكل المنتمين للدين الجديد، وتبوّأ رجالٌ من أمثال “صهيب الرومي” و”سلمان الفارسي” و”بلال الحبشي” وغيرهم من غير العرب، مواقع متقدمة في حركة الدعوة الإسلامية، ولقوا كل ترحيب وتكريم.
ولمّا قامت حركة الفتوحات وانتشر المسلمون في الأرض وأصبحت الدولة الإسلامية دولة عالمية، وجد العرب الفاتحون أنفسهم يتعايشون مع شعوب شتى انتمى الكثير منها إلى الإسلام، وظلت شرائح أخرى على أديانها تمارس حقوقها الدينية والمدنية بحرية تامة.
فها نحن ذا إزاء ما يمكن تسميته بـ”الأممية الإسلامية” التي أكدها القرآن الكريم في الآية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات:13)؛ أي ليتميز بعضكم عن بعض، وفي الآية الكريمة: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(هود:118-119).
أممية تعترف بالتمايز بين الجماعات والشعوب والأمم، ولكنها تسعى لأن تجمعها في الوقت نفسه على صعيد الإنسانية: “كلّكم لآدم وآدم من تراب”. وهي محاولة تختلف في أساسها عن الأممية الشيوعية التي سعت -ابتداءً وبحكم قوانين التنظير الصارمة- إلى إلغاء التنوّع ومصادرته، وإلى تحقيق وحدة قسرية ما لبثت أنْ تأكد زيفُها وعدم القدرة على تنفيذها تاريخيًّا بمجرد إلقاء نظرة على خارطة الاتحاد السوفياتي (المنحلّ) حتى قبل حركة “البرسترويكا”، والرفض المتصاعد الذي جوبهت به الأممية الشيوعية من قبل حشود الأقوام والشعوب التي تنتمي إلى بيئات ثقافية متنوعة. كما حدثتنا الخبيرة الفرنسية في شؤون الاتحاد السوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي “هيلين كارير دانكوس” في كتابها “القوميات والدولة السوفياتية”، الأمر الذي كان أحد الأسباب الرئيسية لانهيار التجربة السوفياتية.
إننا بمقارنة هذا بما شهده التاريخ الإسلامي من تبلور كيانات ثقافية إقليمية متغايرة في إطار وحدة الثقافة الإسلامية وثوابتها وأسسها وأهدافها المشتركة، يتبين مدى مصداقية المعالجة الإسلامية لهذه الثنائية (أي ثنائية الوحدة والتنوع) كواحدة من حشود الثنائيات التي عولجت بنفس القدر من الواقعية في الرؤية والمرونة في العمل.
لقد شهد عالم الإسلام أنشطة معرفية متميزة، وثقافاتٍ شتى على مستوى الأعراق التي صاغتها عربيةٌ وتركية وفارسية وكُردية وهندية وصينية ومغولية وزنجية وإسبانية… كما شهدت أنماطًا ثقافية على مستوى البيئات والأقاليم؛ عراقية وشامية ومصرية ومغربية وتركستانية وصينية وهندية وإفريقية وأوربية وشرقية وتركية وإسبانية وبحر متوسطية… وكانت كل جماعة ثقافية تمارس نشاطها المعرفي بحرية، وتعبّر من خلاله عن خصائصها وتؤكد ذاتها، ولكن في إطار الأسس والثوابت الإسلامية بدءًا من قضية اللغة والأدب، وانتهاء بالعادات والتقاليد، مرورًا بصيغ النشاط الفكري والثقافي بأنماطه المختلفة، ولم يقل أحدٌ أن هذا خروج عن مطالب الإسلام التوحيدية، كما أن أحدًا لم يسعَ إلى مصادرة حرية التغاير هذه. وفي المقابل فإن أيًّا من هذه المتغيرات، لم تتحول -إلا في حالات شاذة- إلى أداة مضادة لهدم التوجهات الوحدوية الأساسية لهذا الدين.
إننا إذا استعرضنا في الذهن منظومة الكيانات السياسية في التاريخ الإسلامي، أو ما أطلق عليه اسم “الدويلات الإسلامية” التي تجاوزت في عددها العشرات، فإننا سنجد من وراء التنوّع السياسي أو بموازاته تغايرًا في التعبير الثقافي ولكن في دائرة الإسلام، وسنجد كذلك حماسًا لم يفتر عما كان عليه أيام وحدة الدولة الإسلامية، لتحقيق المزيد من المكاسب لهذا الدين وعالمه، نشرًا للإسلام في بيئات جديدة، وجهادًا للكفار فيما وراء الحدود، وتوسيعًا للسلطة الإسلامية فيما وراء الثغور، وتعزيزًا وإغناءً للقيم الحضارية الإسلامية التي تلتقي على المبدأ الواحد والمصير المشترك، أي باختصار وكما أطلق عليها المستشرق المعروف “فون غرونباوم” في كتاب أشرف على تحريره بالعنوان نفسه “حضارة الوحدة والتنوّع”.
كل الشعوب التي انضوت تحت الدول الإسلامية مُنحت فرصتَها للتحقق والتعبير عن الذات، وبقي المجال مفتوحًا حتى للعبيد والمماليك كي يشكلوا دولاً، ولغير المسلمين أن يتمتعوا بحقوقهم الدينية والمدنية كاملة وأن يتبوّؤا مواقع متقدمة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. لقد انطوى عالم الإسلام على كل أشكال التعددية العرقية والدينية واللونية والمذهبية والطبقية.
الأتراك احتلوا مساحة كبيرة في خارطة “الأمميّة الإسلامية”، ومارسوا دورًا متشعبًا، وقدموا إنجازات كبيرة على المستويين السياسي والدعوي، وكان عالم التركستان في أواسط آسيا مَنجمًا خصبًا من الطاقات البشرية الخام التي كانت تغذّي عالم الإسلام بطاقات إسلامية شابة بين الحين والحين، وفي صيغة موجات متعاقبة كانت تنتمي للإسلام بإخلاص بالغ، وتبدأ مشاركتها الفاعلة في مصائره الدينية والسياسية والحضارية. ولسوف نقف باختصار وبرؤية طائرٍ “View of Bird”، عند اثنتين من هذه الهجرات: السلاجقة والقوى التركية التي جاءت بمعيّتهم، والعثمانيون، للتأشير على المعطيات الأساسية التي قدموها للأمة الإسلامية.
مضى السلاجقة بإستراتيجيتهم العالمية إلى العمق الأناضولي، وتمكّن سلطانهم الثاني “أَلْبْ أَرْسْلاَن” (455-465هـ/1033-1072م) من تدمير البنية العسكرية للبيزنطيين في معركة “مَلاذْكِرْد” عام 463هـ/1071م، واضطرارهم إلى الدفاع بعد قرون متطاولة من الهجوم على الأرض الإسلامية، ثم ما لبث العثمانيون أن جاؤوا لكي يُتمّوا المهمّة ويخرجوا البيزنطيين من التاريخ في أعقاب فتح القسطنطينية على يد القائد العثماني الشاب السلطان محمد الفاتح (857هـ/1453م).
هذا إلى أن السلاجقة تَولّوا أكبر مقاومة للغزاة الصليبيين في الجزيرة الفراتية والشام وفلسطين، بعد أن تلقوا صدمتهم المبكرة في الحملة الصليبية الأولى (489-543هـ/1095-1099م) على ديار الإسلام. ولقد تمثل الردّ السلجوقي والقوى التركية الإسلامية التي جاءت بمعية السلاجقة، بقيادات ثلاث مارست دورًا خطيرًا، ليس فقط في وقف الزحف الصليبي وإنما في تدمير بنيته العسكرية والسياسية، وفتح الطريق لـ”الناصر صلاح الدين” وللمماليك من بعده للإجهاز عليهم وتحرير البلاد منهم.
فأما أولى تلك القيادات فتمثلت بوُلاة السلاجقة في الموصل (489-521هـ/1095-1127م)، حيث برز رجال من أمثال “قوّام الدولة كربوقا” و”شمس الدولة جكرمش” و”مودود بن ألتون تكين” و”جيوش بك” و”آق سنقر البرسقي”، ألحقوا بالصليبيين هزائم قاسية في الجزيرة الفراتية والشام وفلسطين.
والقيادة الأخرى تمثلت بـ”أراتقة ديار بكر” الذين قدِموا مع السلاجقة واستقرّوا في الإقليم المذكور، حيث شكلوا شبكة من الإمارات في “ماردين”، و”ديار بكر”، و”حصن كيفا” ظلت تحكم هناك لأكثر من ثلاثة قرون (465-812هـ/1072-1409م)، ومارس مؤسسوها الأوائل “سقمان بن أرتق” و”إيلْغازي” و”بلك بن بهرام” دورًا خطيرًا في مقاومة الغزاة الصليبيين وإلحاق الخسائر المتتالية بهم.
وأما القيادة الثالثة فتمثلت بأتابكة الموصل وحلب الأتراك “عماد الدين زنكي” (521-541هـ/1127-1147هـ) وابنه “نور الدين محمود” (541-569هـ /1127-1173م)، وقد استطاع أولهما أن يوحد الإمارات الإسلامية الممزقة في المنطقة ويلحق بالصليبيين هزائم قاسية، كما تمكّن ابنه “نور الدين محمود” الذي اتخذ حلب قاعدة له، أن يواصل الطريق وأن يدخل دمشق ويوحّد الشام ومصر، ويُسقط بواسطة ضابطه الشاب “الناصر صلاح الدين” الخلافةَ الفاطمية، التي فقدت دورها التاريخي ومدت أيديها للصليبيين الغزاة تعرض عليهم اقتسام الشام وفلسطين بين الطرفين.
والذي مكّن “نور الدين محمود” من تحقيق هذه الإنجازات الكبرى وتمهيد الطريق لتحرير القدس، أنه أنشأ دولة إسلامية تحكم بشرع الله في كل مفاصلها وحلقاتها، وكان هو شخصيًّا النموذج الحيّ للقيادة الإسلامية الصالحة التي تذكرنا بعصر الراشدين والتي تجيء مصداقًا تاريخيًّا للآية الكريمة: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(النور:55)، ولذا عُدّ “نور الدين” بإجماع المؤرخين، الخليفة الراشد السادس بعد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99-101هـ/717-720م).
هذا إلى أن أتراك ديار بكر من الأراتقة تلقوا بشجاعة فائقة الصدمة المغولية في موجتيها الأولى والثانية، وأبلوا بلاءً حسنًا في مقاومتها.
على مستوى الداخل الإسلامي قدّم السلاجقة الأوائل للأمة الإسلامية خدمات لا تقل أهمية، فقد أنقذوا العراق من عبث البويهيين وتسلطهم على مقدرات الخلافة العباسية (547هـ)، وتمكّن سلطانهم الأول “طغرل بك” من سحق محاولة البساسيري الانقلابية عام (450هـ) والتي استهدفت تسليم مقدرات الخلافة العباسية للفاطميين في مصر، وأنشؤوا شبكة من المدارس الفقهية في مدى عالم الإسلام لتعميق الوعي بمفاهيم هذا الدين وحماية ثوابته العقدية والتشريعية من التحوير والتزييف، وقام مهندسهم الفكري الوزير “نظام الملك” -الذي اغتيل على أيدي الباطنية- بالإشراف على بناء هذه الشبكة، ووضع كتابه المعروف “سياسة نامة” برنامج عمل في مجال الفكر السياسي. هذا فضلاً عن قيام السلاجقة بتأسيس جملة من الإمارات والممالك، كان لها -كما ذكرنا- الدور الكبير في مصائر ومقدرات الأمة الإسلامية.
ولابد هنا من التأشير على الخطوط العريضة للدور المركزي الذي تبّوأه العثمانيون ولمكانتهم القيادية لمدى قرون عديدة.
فالعثمانيون هم الذين فتحوا القسطنطينية (1453م) وحققوا نبوءة الرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام، وهم الذين أخرجوا البيزنطيين من التاريخ بعد أن كان هؤلاء شوكة تحزّ جنب الأمة الإسلامية وكيانها السياسي لمدى قرون متطاولة. والعثمانيون هم الذين نقلوا الإسلام إلى الجانب الأوربي من العالم القديم، وأَوْغلوا في فتوحاتهم حتى اجتازوا بولندة شمالاً، ودقوا أبواب فيينا غربًا، ونشروا الإسلام في مساحات شاسعة من أوربا الشرقية. وهم الذين أعدوا العدة في وقت مبكر لمجابهة تحديات حركة الاسترداد الإسباني (الريكونكويستا) ضد الوجود الإسلامي في الأندلس، وإنقاذ ما تبقى للمسلمين هناك، ولكن التحديات والمشاكل التي جابهتهم صدّتهم عن تحقيق هدفهم الكبير هذا. وهم الذين امتصوا زخم الهجمة المغولية الثانية بقيادة “تيمورلنك” وكسروا حدّتها رغم التضحيات البالغة التي قدموها. وهم الذين غلبوا الصفويين في معركة “جالْديران” (1514م)، وكان هؤلاء قد حدّوا سكاكينهم لطعن العثمانيين في الظهر ووقف اندفاعهم في العمق الأوربي. وهم الذين لاحقوا الأسبان والبرتغاليين في محاولات الالتفاف المعروفة على الوجود الإسلامي في إفريقيا والخليج العربي، وقاتلوهم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا، وحررّوا الكثير من الديار من قبضتهم. وهم الذين تصدّوا لمؤامرات القوى الغربية الكبرى على عالم الإسلام وبخاصة بريطانيا وفرنسا وروسيا، زمن العنفوان الاستعماري الذي مضى لالتهام ديار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
والعثمانيون هم الذين حَموا فلسطين من محاولات الاختراق الاستيطاني الصهيوني، واستَعلوا على إغراءات هرتزل، وضحّوا بعرشهم من أجل هذا الهدف النبيل. هذا إلى أن الأتراك المسلمين هم الذين تولّوا العبء الأكبر في التصدّي للمحاولات الشيوعية الشرسة والمبكرة لافتراس الأرض والشعوب الإسلامية في آسيا الشمالية.
والعثمانيون أخيرًا وليس آخرًا، هم الذين قاموا بدور مؤكد في حماية عالم الإسلام من مخاطر التمزّق الداخلي، وتوحيد أقاليمه المبعثرة لقرون عديدة، وتمكينها من استعادة فاعليتها في مجابهة التحديات، بل إنهم حتى لحظات الأفول الأخيرة، رفعوا شعار “الجامعة الإسلامية” ودعَوا إليه بحماس منقطع النظير؛ وهو الشعار الذي لقي تجاوبًا مدهشًا من لدن الشعوب الإسلامية كافة، من الهند شرقًا وحتى المغرب الأقصى غربًا، ولكنه أُجهض بالمؤامرات الشرسة للدول الاستعمارية الكبرى، وبخروج الدولة العثمانية منهزمة في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتفتيت أملاكها في كل مكان.
(*) كلية الآداب، جامعة الموصل / العراق.