المجتمع الإسلامي أو المجتمع المسلم، هو الذي تتمثل فيه كلمة “لا إله إلا الله محمد رسول الله” كقاعدة أساس بكل مقتضياتها، إذ إنه من غير تمثّل هذه القاعدة ومقتضياتها فيه، لا يكون مسلمًا. وبناء على ذلك فإن هذه القاعدة تصبح المرتكز الأساسي لمنهجٍ كامل تقوم عليه حياة الأمة المسلمة بحذافيره، فلا تقوم هذه الحياة قبل أن تقوم هذه القاعدة، كما أنها لا تكون حياةً إسلامية إذا قامت على غير هذه القاعدة، أو قامت على قاعدة أخرى معها، أو عدة قواعد أجنبية عنها.
من حيث إن ثقافة هذا المجتمع تكون مرجعتيها إلى تلك القاعدة دون اختلاط بمرجعيّات ثقافية أخرى أيًّا كانت، وهذا لا ينفي عملية الاحتكاك الثقافي ولا الانفتاح والتفاعل الثقافي مع ثقافات أخرى وأخْذ الملائم لهذه المرجعية، وذلك يتمثل في قول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: “الكلمةُ الحِكْمَةُ ضالةُ المؤمن فحيث وجدها فهو أحقُّ بها” (رواه الترمذي). ولكن لا يعني هذا أخْذ هذه السّمات الثقافية وربطها بمرجعيات مخالفة لتلك القاعدة، والتي هي قاعدة العبودية لله وحده في كل الأمور، وهي التي تمثلها وتكيّفها شهادةُ أن “لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله”، وتتمثل هذه العبودية في التصور الاعتقادي، كما تتمثل في الشعائر التعبدية وفي الشرائع القانونية ونظم الحكم.
تسود هذه القاعدة عمومًا كلَّ النظم الاجتماعية القائم عليها هذا المجتمع، فليس عبدًا لله وحده من لا يعتقد في وحدانية الله سبحانه وتنزيل هذه الوحدانية على حياته الاجتماعية كلها، قال تعالى: (وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ)(النحل:51-52)، وقال تعالى: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)(يوسف:40). وعليه فالمجتمع المسلم هو الذي تتمثل فيه العبودية لله وحده في معتقدات أفراده وتصوراتهم، كما تتمثل في نظامهم الاجتماعي وتشريعاتهم، وأيُّما جانب تخلّف من هذه الجوانب يؤدي إلى تخلف الجوانب الأخرى.
والتصور الاعتقادي الإسلامي، هو التصور الذي ينشأ في الإدراك البشري من تلقيه لحقائق العقيدة من مصدرها الربّاني، والذي يتكيف به الإنسان في إدراكه لحقيقة ربه ولحقيقة الكون الذي يعيش فيه غيبِه وشهوده، ولحقيقة الحياة التي ينتسب إليها غيبِها وشهودها، ولحقيقة نفسه؛ أي لحقيقة الإنسان ذاته… ثم يكيِّف على أساسه تعاملَه مع هذه الحقائق جميعًا. وعليه يصبح تعاملُه مع ربه تعاملاً تتمثل فيه عبوديته لله وحده، وتعامله مع الكون ونواميسه، ومع الأحياء وعواملها ومع أفراد الجنس البشري وتشكيلاته، تعاملاً يستمد أصوله من دين الله كما بلّغه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحقيقًا لعبوديته لله وحده في هذا التعامل وهو بهذه الصورة يشمل نشاط الحياة كلّها(1).
والمجتمع المسلم أو المجتمع الإسلامي، لا ينشأ حتى تقوم جماعة من الناس تقرّر أن عبوديتها الكاملة لله وحده، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله في الاعتقاد، والتصور، وفي العبادات، والشعائر، وفي النظام الاجتماعي، والشرائع اللاحقة له، ثم تأخذ في تنظيم حياتها وفقًا لهذه العبودية الخاصة. “فالمجتمع المسلم ينشأ من انتقال أفراد ومجموعات من الناس من العبودية لغير الله -معه أو من دونه- إلى العبودية لله وحده بلا شريك، ثم تقرير هذه المجموعات أن تقيم نظامها الحياتي والاجتماعي على أساس هذه العبودية، وعندها يتم ميلاد مجتمع جديد مشتق من المجتمع القديم مواجه له بعقيدة جديدة ونظام للحياة جديد، يقوم على أساس هذه العقيدة وتتمثل فيه قاعدة الإسلام الأولى بشطريها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله”(2).
ولا يعني بحال تقرير جماعة من الناس أو انتقال هذه الجماعة، أن هذا البنيان الجديد أو البناء الاجتماعي لهذا المجتمع، قد نشأ عبر تطور حضاري أو ثقافي لهذه الجماعة، أو لتغيرات حدثت في نظامها الاجتماعي بصور تلقائية حتمية، وإنما يعني أن هذه الجماعة قد ارتضت ومن ثم انصاعت لرسالة السماء عبر الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو المحبين لهذه القواعد من بعده من حيث إيمانهم بها ودخولهم في هذا الدين، بمعنى أن المجتمع الإسلامي يستوعب في داخله كل داخل في هذا الدين عاملاً بمقتضياته على مر العصور سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو مجتمعات بأكملها، وهذا ما يشكل الطبيعة الدينامية لهذا المجتمع من حيث استيعاب الجماعات الجديدة وإستاتيكية من حيث قواعد الانتماء حيث إن المحدد للدخول في هذا المجتمع هو الانتماء لهذا الدين.
وعليه لا يُفهم الأمر على أنه مجتمع تقوم فيه العلاقات والكيانات على أساس من العرق أو اللغة أو أي من أشكال العلاقات الأخرى، بل يمكن القول أنه انتماء أيديولوجي قائم على معتقد واحد غير متعدد، وتصبح خصائصه مبنية على قوة الاعتقاد والتصور، وقوة البناء النفسي، وقوة التنظيم والبناء الاجتماعي النابعة من التصور الاعتقادي الإسلامي، أي أن الواقع البشري في هذا المجتمع يتشكل عبر هذا التصور الاعتقادي الإسلامي من حيث إن هذا الواقع هو الذي ينشئه هذا الدين نفسُه وفق منهجه، والذي يكون بالضرورة منطبقًا على الفطرة البشرية في سَوائها ومحققًا للحاجات الإنسانية الحقيقية في شمولها، هذه الحاجات التي يقررها الذي خلق ويعلم من خلق: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الملك:14).
وعلى هذا فالدين الإسلامي يواجه الواقع البشري الموجود ويزنه بميزانه -من حيث القواعد السالف ذكرها- فيقر منها ما يقر ويلغي منها ما يلغي ويعدل منها ما هو في حاجة إلى تعديل، وينشئ واقعًا كاملاً متكاملاً قائمًا على أصوله، أي إن الإسلام والمجتمع المسلم في تعامله مع الواقع البشري، يتعامل بأسلوب نقدي بنائي معياري، فهو لا يهدم ولا يلغي كل ما هو موجود، كما لا يقبل بكل ما هو موجود على عِلاّته، ولا ينتقي من هذا وذاك، إنما منهجه قائم على هضم هذا الواقع البشري وإنشائه على منهجه القائم على التصور الاعتقادي الإسلامي.
وهذا يدل على أن مصالح البشر هي المحدّد للواقع البشري في المجتمع المسلم، إذ إن هذا المجتمع القائم على العبودية الحقة لله تعالى يعي جيدًا قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(الحشر:7). مما يدل على أن شريعة الله تعالى تتضمن المصالح الكلية للبشر والتي تتفرع عنها كافة المصالح والحاجات الإنسانية الأخرى. وعليه فالمصالح الخارجة عليها إنما تدخل في مجال آخر مما يمكن إجماله بـ”الهوى”، والله تعالى يقول في ذلك: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى)(النجم:23-25).
والمجتمع المسلم يقوم بناؤه الفلسفي على التصور الإسلامي الذي يقوم بدوره على أساس أن هذا الوجود كله من خلق الله، اتجهت إرادة الله إلى كونه فكان، وأودعه قوانينَه التي يتحرك بها والتي تتناسب بها حركةُ أجزائه فيما بينها، كما تتسق بها حركته الكلية. وعليه فإن شريعته لتنظيم حياة البشر هي شريعة كونية، بمعنى أنها متصلة بناموس الكون العام ومتناسقة معه، ومن ثم فالالتزام بها ناشئ من ضرورة تحقيق التناسق بين القوانين التي تحكم الفطرة المضمرة والقوانين التي تحكم حياتهم الظاهرة، مدركًا ضرورة الالتئام بين الشخصية المضمرة والشخصية الظاهرة للإنسان(3).
وعليه تكون روح الإسلام هي التي تسود هذا المجتمع، وهي التي تشكل الأساس الثقافي لهذا المجتمع، إذ إن هذا المجتمع وفي بدايات تكوينه الأولى، لم يكن يسير فقط تبعًا لقوانين الإسلام وتعاليمه، بل تبعًا للروح المبثوثة في هذه القوانين والتعاليم أيضًا، حيث كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- باعثَ هذه الروح ومركزَ إشعاعها، والتي تدل عليها الآية الكريمة في قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة:128). هذه هي الروح التي تتولد عن حب الله وحب الخير، وحب المسلمين بعضهم بعضًا في الله، هذا الحب الذي يكون بين الإنسان وربه هو الذي ينمي عبادة الإنسان بإخلاص وحرص على تقوية صلته به، وهو الذي يجعل للنظم وقعها الذاتي في نفس الإنسان حيث تكون لذة ومتعة هذا الإنسان في فعل الخيرات والإيثار، وهذه الروح هي التي تسود هذه التعاليم والنظم الإسلامية، وهي التي يمكن أن نعتبرها الإطار الإسلامي الكلي، والذي يجب أن تدور فيه كل الحاجات والقواعد السلوكية المنظمة لها داخل المجتمع الإسلامي، والتي تميز هذا المجتمع عما دونه من المجتمعات المختلفة من حيث تكوينه البنائي الداخلي، والذي يرتكز على تلك الأسس السالف ذكرها، والتي تسودها هذه الروح، والتي تزودها بالجانب النفسي الداعم لها.
وقد حوت وثيقة المدينة المحددات العامة لتنظيم المجتمع الإسلامي داخليًّا من حيث تنظيم الروابط بين المسلمين بعضهم البعض، والتي كانت ترتكز على المؤاخاة كفلسفة روحية عميقة ترسخ معاني روح الإسلام التي تسود نظمه، كما أنها حوت تنظيم علاقاته الخارجية ووضعت الأسس النظرية وتكيفاتها العملية لقيام مثل هذه العلاقات بين المجتمع الإسلامي والمجتمعات الأخرى، وبين المسلمين وغير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي والمجتمعات الأخرى، وبين المسلمين وغير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، ولا مجال هنا للخوض في معالجة أمر غير المسلمين داخل جسم المجتمع الإسلامي وإن كان يعنينا ما يجري عليهم من قواعد سلوكية يصوغها ويحتمها عليهم وجودهم داخل هذا المجتمع.
وعليه فإن المجتمع الإسلامي أو المجتمع المسلم، مجتمع تسوده روح الإسلام وتعاليمه ونظمه، ويقوم على مبدأ العبودية الكاملة لله، وعلى هذا تقوم نظمه وبناءاته، على تلك الروح التي تُعَد الإطار الأشمل الذي يقوم عليه البناء الاجتماعي في هذا المجتمع.
والذي هو في صورته المثالية -أو المجتمع الذي استدمج كليًّا تعاليم الإسلام ونظمه- يبدو وكأنه ذو إطار واحد وبشكل واحد، أو ما يمكن أن نطلق عليه إجمالاً “مفهوم الأمة”، وإن كان هذا لا ينفي أن هذا المجتمع لا سيما عند اتساع رقعة الإسلام، تكون به بعض الفروقات خصوصًا عند تعدد الجماعات المنتمية للإسلام والتي قد تشكل مجتمعات متعددة، ولكن هذه الفروقات لا تمس بصورة أو أخرى الأصول التي يرتكز عليها المجتمع الإسلامي في عمومه، وإن بدت مثل هذه الفروقات إنما تكون في تمثيل العام، أو في درجة الاستجابة الفعلية للصورة المثالية، أو في درجة تنزيل هذه الأصول على الواقع.
والذي يسعى إليه المجتمع المسلم وأفراده، هو تحقيق الصورة المثالية للإسلام، والتي هي قابلة للتطبيق الواقعي، وجهد المسلمين يتجه إلى تحقيقها في أرض الواقع.
(*) كلية اللغة العربية والدراسات الاجتماعية، جامعة القصيم / السودان.
الهوامش
(1) الإسلام، لسعيد حوى، ص:57.
(2) الإسلام، لسعيد حوى، ص:59.
(3) معالم في الطريق، لسيد قطب، ص:16.