ينطوي مفهوم الفكر على شيء من الغموض، لأنه استُعمل في معانٍ متنوعة -بل ومختلفة- تراكمت بمرور الزمن حتى أصبح إطلاقه دون تحديدٍ موقِعًا لِلّبس، وكذلك مسمى الفكر الإسلامي، ولا سيما أن هناك استعمالات عدة له منها ما وسع دائرة الفكر الإسلامي، حتى أدخِلت فيه الفلسفات الغريبة عن الإسلام والتيارات المنحرفة عن صراطه المستقيم، لأن تلك الفلسفات والتيارات، ذات أصول هندية ومجوسية وثقافات يهودية ونصرانية، مثل الغنوصية والهرمسية ونحوهما… ثم يحسب ذلك على الفكر الإسلامي.
ولا يخفى ما تهدف إليه مثل هذه الاستعمالات للفكر الإسلامي، من إيحاءات بأن الإسلام وفكره ملفّق من تلك الأصول الفلسفية والثقافية الأجنبية، وأنه ثمرة طبيعية للتراث اليهودي دون أدنى احترام للمنهج العلمي في النظر والبحث والمقارنة. لذلك ولكون الفكر بعامة والفكر الإسلامي بخاصة له أصالته ووجوده في المصادر العربية الإسلامية، فإنه ينبغي تأصيل هذا اللفظ في اللغة والاصطلاح، وتجليته كمفهوم وصولاً إلى تحديده كمصطلح في العصر الراهن.
وسيجري المقال في النقطتين الآتيتين: المدلول العام للفكر، ومفهوم الفكر الإسلامي.
المدلول العام للفكر
أ-المعنى اللغوي: فَكَّرَ (بالتشديد) يُفَكِّرُ تفكيرًا، ويقال: فَكَرَ (بالتخفيف) يَفكُرُ فِكرًا أو فَكرًا على وزن: ضَرَبَ يَضرِبُ ضربًا، ويقال: أفكَرُ في الأمر: فَكَرَ فيه فهو مُفْكِر، ويقال: فَكَّرَ في الأمر مبالغة في فَكَرَ، وهو أشيع في الاستعمال منه من فَكَرَ، ويقال: لي في الأمر فِكرٌ: أي نظر ورويّة، ويقال: ليس لي في هذا الأمر فَكرٌ: أي لا أحتاج إليه ولا أبالي به.
والفِكرَة: من الفِكر، وهي الصورة الذهنية لأمر ما، وجمعها فِكَرٌ. وقيل: الفِكرُ مقلوبٌ عن الفرك، لكن يستعمل الفِكرُ في الأمور المعنوية وهو فركُ الأمور وبحثها للوصول إلى حقيقتها. وجاء عند ابن فارس: “فكَرَ: الفاء والكاف والراء، تردُّد القلب في الشيء، يقال: تفكَّر: إذا رَدَّدَ قلبه معتبرًا، ورجل فِكِّيرٌ: كثير الفكر”.
وقد وردت مادة (فَكَرَ) في القرآن الكريم في نحو عشرين موضعًا، ولكنها بصيغة الفعل ولم ترد بصيغة الإسم أو المصدر، قال تعالى:(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ)(المدثر:18)، وقال تعالى:(أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ)(الأنعام50)، وقال تعالى:(لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(الحشر:21). ففي الآية الأولى وردت بصيغة الماضي “فَكَّر”، وفي الثانية وردت بصيغة المضارع المخاطب “تتفكرون”، وفي الثالثة بصيغة المضارع الغائب “يتفكرون”.
وعلى الرغم من كونها وردت في القرآن الكريم بصيغة الفعل ولم ترد بصيغة الاسم أو المصدر (فِكر)، إلا أن الفعل في اللغة العربية يدل على الحدث ذاته، وعلى من قام به وهو هنا المفكر. وقد انتزع بعض الباحثين من ذلك أن الله -عز وجل- أبان ولفت أنظار عباده إلى أن هذا العمل الذهني مرتبط بذات، وأنه لا يكون فيما لا طائل من ورائه.
بـ-المفهوم الاصطلاحي للفكر: عُرِّفَ الفكر بتعريفات كثيرة منها: “إعمال الخاطر في الشيء”، وإعمال العقل في الشيء، وترتيب ما يُعلم ليصل به إلى مجهول”، “وإعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة مجهول”، و”قوة مُطرقة للعلم إلى معلوم”، و”جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يمكن أن يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب”، و”جملة النشاط الذهني من تفكير وإرادة ووجدان وعاطفة شاملاً ما يتم به التفكير من أفعال ذهنية تبلغ أسمى صورها في التحليل والتركيب والتنسيق، وهو بهذا خاصية إنسانية”، و”اسم لعملية تَردُّد القوى العاقلة المفكرة في الإنسان، سواء أكانت قلبًا أو روحًا أو ذهنًا بالنظر والتدبر لطلب المعاني المجهولة من الأمور المعلومة أو الوصول إلى الأحكام أو النسب بين الأشياء”.
وقد ورد في بعض المعاجم تعريف مادي إلحادي للفكر تحت مسمَّى “الفكر الحر”، جاء فيه:” الفكر الحر هو النزعة في التفكير التي تبتعد عن المفهوم الديني لتفسير العالم ووضع قواعد الأخلاق في الحياة، مع الالتزام أصلاً برد القواعد الأخلاقية إلى ما يمليه العقل والتجارب”.
مفهوم الفكر الإسلامي
توافر كثيرٌ من العلماء والباحثين لتحديد تعريف أو أكثر للفكر الإسلامي، ومن أبرز هذه التعريفات هو “كل ما أنتج فكر المسلمين منذ مبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى اليوم، في المعارف الكونية المتصلة بالله -عز وجل- والعالَم والإنسان الذي يعبر عن اجتهادات العقل الإنساني لتفسير تلك المعارف العامة في إطار المبادئ الإسلامية عقيدة وشريعة وسلوكًا”، أو “كل ما ألَّفه علماء المسلمين في شتى العلوم الشرعية وغير الشرعية بغض النظر عن الحكم على مدى ارتباط هذا النتاج الفكري بأصل العقيدة الإسلامية. أو نتاج الفكر الذي تصدى للفلسفات والنظريات الغربية ناقدًا لها وواضعًا البديل الإسلامي محلها”، أو “كل نتاج للعقل البشري الموافق لمنهج الإسلام”، أو “كل ما هو غير تجريببي من مقومات الحضارة الإسلامية سواء كان تشريعًا أو علم كلام أو ما شابه ذلك”. وبعبارة أخرى هو “الجانب الفكري التصوري البحت الذي يقوم من كل حضارة مقام الخارطة الهندسية المصممة للبناء”، أو “هو فقه الوحي وفهمُ رجال هذا الفكر له، ثم شروحهم عليه”، أو “الحكم على الواقع من وجهة نظر الإسلام”، أو “المنهج الذي يفكر به المسلمون أو الذي ينبغي أن يفكروا به”.
بالنظر في هذه التعريفات وما سبقها من تعريفات للفكر مجردًا عن الوصف أو الإضافة نلحظ الآتي:
1- أن الفكر إما أن يراد به الكيفية التي يدرك بها الإنسان حقائق الأمور التي أعمل فيها عقله، فيكون الفكر عندئذ بمثابة الأداة أو الآلية في عملية التفكير وما يلحق بها من طاقات وقوى وملكات عقلية ونفسية، وإما أن يراد به ما نتج عن ذلك “من خلال تلك العملية” من تصورات وأحكام ورؤى حول القضايا المطروحة.
ثم تتسع دائرة مفهوم الفكر أو تضيق تبعًا لمنطلقات المحدِّد لمفهوم الفكر؛ فإذا اتسع مفهومه اشتمل على الموروث الفكري للإنسان في جميع ميادين المعرفة والعلوم على الصعيد النظري. على أن هناك من يدخِل العلوم التجريبية والتطبيقية داخل مفهوم الفكر، فيشتمل على النشاط الإنساني بعامة بما يخرج مفهوم الفكر عن الفكر ليشتمل على مفهوم الثقافة بل الحضارة أيضًا، وربما تطرقت بعض التعريفات لتشتمل على ما هو أبعد من ذلك فتُدخل الوحي في مفهوم الفكر. وقد تضيق دائرة مفهوم الفكر حتى تنحصر في مجرد النظر العقلي في أمر ما، فيكون الفكر عندئذ منسوبًا إلى مبدأ أو مذهب أو طائفة أو أمة أو عصر.
2- عندما يضاف الفكر إلى الإسلام أو يوصف الفكر بأنه إسلامي، فإن المفهوم يتأثر كذلك بالمنطلقات المشار إليها سابقًا، فإما أن يراد به كيفية عمل العقل وما يلحق به من القوى المدركة لدى الإنسان في ضوء الإسلام، ولذلك عرفه بعضهم بأنه “المنهج الذي يفكر به المسلمون أو الذي ينبغي أن يفكروا به”، وقد لحظ صاحب هذا التعريف بأن هذا المعنى الكيفي للفكر المتمثل في حركة الذهن للانتقال من المعلوم إلى المجهول ونحو ذلك من التعبيرات المختلفة التي تؤدي المعنى نفسه، هو ما استخدمه الأقدمون مثل “ابن سينا” و”الرازي” و”ابن خلدون”… ولخصها “الجرجاني” في تعريفاته بقوله: “الفكر ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول”، وهذا التعريف يربط بين الفكر والمنهج، ويلزم معه الإلمام بمدلول المنهج لغة واصطلاحًا.
3- وإما أن يراد بالفكر الإسلامي ما أنتجه الفكر في ضوء الإسلام. ثم تختلف المنطلقات والغايات حول تحديد الفكر الإسلامي؛ فبعضهم يطلق مسمّى الفكر الإسلامي ويريد به كل ما أنتجه فكر علماء الأمة وباحثيها في ضوء مبادئ الإسلام وأحكامه وضوابطه، ولا يدّعي العصمة لهذا الفكر ولا يدخِل فيه الوحي “الكتاب والسنة”، وإنما يدخِل فيه ما خرج عنهما أو انبثق منهما.
وبالجملة فهو يفرق بين الإسلام وبين الفكر الإسلامي ويحترز من الخلط بينهما، ولكن يؤخذ على هذا التعريف أنه ربما أدخل بعض المذاهب المنحرفة أو التفسيرات الخاطئة لبعض عقائد الإسلام وشرائعه.
وهناك بعض التعريفات التي تتفق مع هذا التعريف في السعة والشمول لكل ما أنتجه الفكر المنسوب للإسلام، ويكفي فيه أن ينتسب أصحابه إلى الإسلام. وهذا التعريف لا يتقيد بما تقيد به التعريف السابق من كون الفكر لا يحسب على الإسلام إلا إذا وافق عقيدة الإسلام وشريعته وهديه. ولا شك أن هذا التعريف قريب من تعريفات بعض المستشرقين الذين يدخلون في الفكر الإسلامي الفلسفاتِ الدخيلةَ والعقائد الفاسدة، لكنه لم ينص على الوحي الإلهي، بل يظهر منه استثناء الوحي الإلهي من مسمّى الفكر.
4- تنفرد بعض التعريفات، بالنظر في نتاج العقل نظرة موضوعية، بغض النظر عن المفكر فما وافق الإسلام من تراث الفكر الإسلامي أو أنتجه فكر المسلمين في ضوء الإسلام، فإنه يسمى فكرًا إسلاميًّا.
وبعدُ، فإنه يمكن أن يعرف الفكر الإسلامي في ضوء الخصائص الآتية:
• الجمع بين عمل الفكر كأداة وبين ما ينتجه الفكر من ثمار.
• أن ينصَبَّ الفكر الإسلامي على الناحية التنظيرية دون العملية.
• أن يعرَّف الفكر الإسلامي بأنه فكرٌ موجه أو بعبارة أنسب ملتزم ولكن في ضوء تعاليم الإسلام، فلا يتوافر الفكر في ظل الإسلام على الخوض فيما نهى عنه الشارع، ولا يتحرر من الضوابط الشرعية والأخلاقية، ولا يدخل فيما ثبت عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما أجمعت عليه الأمة، وإنما يدافع عن ذلك ويُظهر حكمة الشارع فيه، ويلتمس العلل والمقاصد والبراهين والمسوغات لذلك في الحدود المشروعة، بمنهج نقدي مؤصل ينفي ما علق بالفكر الإسلامي من مغالات المغالين وتفريط المفرطين.
• لا ينطوي التعريف على منع البحث في المعارف والعلوم التي تقوم عليها حياة الإنسان على الاكتشاف والابتكار وإعمال العقل فيما خلِق له، وهذا ما حققه الفكر الإسلامي، فقد أسهم بقسط وافر في تأصيل كثير من النظم والقوانين الحضارية التي أصبحت بمثابة الأسس للحضارة الحديثة.
• لا يخلع التعريف المقترح على الفكر الإسلامي العصمة، ولا يوهم بأن الوحي جزء منه، بل ينصب على بذل الجهد واستفراغ الطاقة العقلية والنفسية فيما أفسحه الشارع الحكيم -عز وجل-، وقد يطابق الصواب نتيجة التزامه بالقواعد المنهجية واتصافه بالنزاهة والموضوعية، وقد يحتمل الخطأ وفقًا لما أُثر عن علماء الأمة ومجتهديها من قولهم: “مذهبنا راجح يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا مرجوح يحتمل الصواب”.
(*) كلية الشريعة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية / المملكة العربية السعودية.