في المقال الافتتاحي لهذا العدد من “حراء” يصف الأستاذ “فتح الله كولن” الأجيال من عباقرة الآلام بقوله عنهم: “فكلما قاسوا ارتفعوا، ولكما ارتفعوا قاسوا”؛ فكأنه يريد أنْ يقول إن أصحاب النفوس العظيمة والأفكار السامية من أصحاب الدعوات، لا شيء يُغرْبلهم ويُصفّيهم ويكشف عن جوهرهم النقي غير الآلام، ولا شيء يرفعهم إلى عوالم الطهر والسموّ مثل المقاساة والمعاناة.
فهناك ارتباط جدلي بين الآلام والأحزان من جهة، وبين العلو والارتفاع من جهة آخرى، فكلما اشتدتْ وزادت اشتدّ العلو وارتفع السموّ. فهذا السموّ الحزين والأسى العلوي، يظلّ يأكل في الأجساد حتى تَنْحَلَ وقد تمرض، فهذا النحول والمرض إنما هو زكاة عبقرية صاحبها.
ومع ذلك فهذه الأجيال ماضية في طريقها، موفية بعهدها الذي قطعته على نفسها، تركبُ مَتْن الإرادات الجانحة التي لا تعرف التوقف أو النكوص، وماضية في استنهاض العزائم الفولاذية -التي يلين الفولاذ وهي لا تلين- للوصول إلى مبتغاهم وتحقيق آمالهم في إنسانٍ أفضل وعالَمٍ أطهر.
وأمتنا اليوم هي حليفة حزن، وخدينة آلام، وصاحبة فواجع دامية، ومآسٍ ساحقة، حتى لَيُظنّ أنّ هذا الذي هو عليها اليوم إنما هو قدَرها اللازب بين أقدار الأمم، وأنها لن تستطيع الخلاص منه أو الانفكاك عنه… ولكنّ تاريخها ودينها يقول غير ذلك، يقول: إن هذه الأمة قد تسحقها الآلام وتفريها الأحزان، لكنها لن تموت، بل هي تقوم في كل مرة من بين رماد زمانها وقَفْره وجَدْبه، فتنفض عنها الرماد وتزيح عنها اليأس والقنوط، وتعود الآمال تحفزها للقيام من جديد، ولأخذ زمام المبادرة والعودة لاستئناف حياة إيمانية جديدة ودورة حضارية جديدة.
فمن أجل انبعاث هذا الأمل يكتب “كولن” ويكتب كلُّ “كتَّاب حراء”… فمن أوجب ما أوجبت “حراء” على نفسها، هو ابتعاث هذا الأمل… فكل ما يُنشر على صفحاتها إنما هو في المحصلة النهائية بارقةُ أملٍ، وهِزّة انبعاث، ورفع لعلَم الرجاء في حومات اليأس والقنوط.
وقد عقدت هذه الأمة آمالها على شبابها الناهض، المفعم الحيوية، الطامح إلى العلاء، المتسامي فوق الآلام، الناذر نفسه لدينه وإيمانه، الضارب في الأرض، حاملاً رسالة الإيمان، حامي حمى الروح، والمبشر بالأخلاقية العالية، والناشر لقيم الحق والعدل والجمال، صاحب الروحانية العالية، والعقلانية الراشدة، العامل بصمت، لا جعجعة له من غير طحن، ولا ثرثرة من غير فكر، لا يلغو ولا يصخب، بفارغ الكلام لا يأبه، أبجديته “لا قول بلا عمل، ولا عمل من غير هدى”. وهذا هو ما تحتاجه الأمة في يومها هذا العصيب.