تُعد اللغة أهم مقوّم ترتكز عليه ثقافات الأمم، كما تُعد وجهًا عاكسًا لمستوى تطوّر الشعوب، ووسيلة التواصل الأكثر قدرة على جمع ما فرّقته السياسة والتاريخ والجغرافيا، ومن ثم فهي الركن المركزي للهويات المعاصرة. ولا شك أن كل لغة تواجه مصاعب وتحديات، ولا سيما في عصرنا الحالي. وقد واجهت اللغة العربية عبر تاريخها الكثير من المصاعب، وتغلّبت عليها بفضل قدرتها الفائقة على الاشتقاق والتطوّر، إلى جانب مرونتها في التعريب والترجمة. ومن الشواهد التاريخية أن من بين غير العرب من كتب بالعربية، مثل الإمبراطور فريدريك الثاني في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي.
واليوم يُبدي بعضهم تخوّفه من احتمال انقراض اللغة العربية، وهو أمر لن يحدث مطلقًا، لحفظ الله تعالى لها، ولأنها لغة يتحدث بها ما يقرب من خمسمائة مليون عربي، فضلاً عن كونها المرجعية الدينية لأكثر من مليار ونصف مليار مسلم حول العالم. كما أن كثيرًا من الدول الإسلامية ما تزال تكتب بالحرف العربي الذي نُسمّيه “الحرف الشريف”. ولا نغفل ما قدّمه شعراء المهجر في الأمريكتين من دور كبير في حفظ العربية ونشرها عبر “العصبة الأندلسية” و”الرابطة القلمية”. هذا إضافة إلى اهتمام الأكاديميات الغربية بتعلّم العربية، إذ بات تعلم اللغات اليوم داخل إطار يسّرته الثورة الاتصالية التي سهّلت الحصول على المعلومة وسرّعت نشرها.
وإذا كان تعلمُ اللغة يجري عادة داخل الأطر الأكاديمية، فإن الملابسات الحضارية التي تمر بها الشعوب تُفرز اهتمامًا بلغة الآخر، غالبًا في سياق علاقة قاهر ومقهور، أو غالب ومغلوب؛ فاللغة في هذه السياقات مؤشر دقيق على أوضاع الأمم. وكما حدث في الماضي حين استقدم الأوروبيون معلمين من الأندلس – بعد سقوط غرناطة – للاستفادة من علوم العرب، فإن الإقبال الأمريكي اليوم على العربية يُعد معيارًا مهمًّا في تقدير مكانتها. ولعل من المفيد الإشارة إلى أن تعلّم لغة ما لا يعني بالضرورة احترامَ أهلها؛ فعندما دخل الاتحاد السوفييتي عالم الأقمار الصناعية عام 1957، ظهر تحدٍّ جديد في خضم الحرب الباردة، فارتفع اهتمام الولايات المتحدة بتعلم الروسية، ثم تكرّر الأمر مع العربية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، إذ ارتفع الطلب على تعلّمها بنسبة 46% مقارنة بعام 2006.
وبالعودة إلى من يخشون على العربية من الانقراض أو يشككون في قدرتها على البقاء، يمكن القول إن السؤال الذي يفرض نفسه في إطار الصراع اللغوي العالمي هو: هل توجد حقًّا “حروب لغوية”؟ لقد صار الحديث عن مستقبل اللغات هاجسًا علميًّا من منظور إنساني وتقني، وواجبًا قوميًّا من منظور حضاري وثقافي. وظهر بالفعل تيار بحثي يعالج مفهوم “الحروب اللغوية” المرتبط بظاهرة موت اللغات. ووفقًا لليونسكو تموت لغة كل أربعة عشر يومًا، وقد أشارت المنظمة إلى أن اللغة التي يتحدث بها أقل من مئة ألف نسمة مهددة بالاندثار، ومن ثَم فالعربية بعيدة كل البعد عن هذا المصير.
وقد لا تتضح الصورة الحقيقية إلا حين تُجمَع أجزاؤها كاملة؛ لذلك فإن الحكم على واقع العربية اليوم بنظرة أحادية غير شاملة، يؤدي إلى وصفها بما لا يليق بها. فهناك جهود كثيرة إذا ما جُمعت وتناولناها بموضوعية، سنرى صورة مشرفة للغتنا التي تعيش اليوم حقًّا أزهى عصورها. وهناك أدلة كثيرة، لا يعترف بها إلا من تخلّى عن النظرة التشاؤمية، من أبرزها:
• تنصيص معظم الدساتير العربية صراحة على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية.
• إدراك رؤساء وملوك الدول العربية أن العربية هي الحصن الذي يجمعهم، فجاءت مقررات القمم العربية في دمشق (2007) والرياض (2008) وقطر (2009) داعمة للغتنا. كما فشلت محاولات إسرائيل داخل الأمم المتحدة لإلغاء العربية من بين لغاتها الرسمية، وفشلت أيضًا مساعي الكنيست لفرضها على الفلسطينيين.
• تصريح الكاتب الإسباني كاميلو خوسيه سيلا بأن العربية ستبقى إلى جانب الإنجليزية والإسبانية والصينية.
• التقدير الكبير من منظمة اليونسكو للغة العربية، بدءًا من اعتبارها لغة عمل رسمية في مؤتمر لبنان 1948 إلى جانب الإنجليزية والفرنسية، مرورًا بالتأكيد في مؤتمرات 1960 على أهمية نشر الوثائق بالعربية، ودعم خدمات الترجمة والطباعة والنشر (1964)، والارتقاء بالعربية إلى مستوى لغات العمل الرسمية باليونسكو (1966)، ووصفها بأنها “أداة تعبير ووسيلة لحفظ حضارة الإنسان” (1968)، ثم إدراجها لغة عمل في دورات المجلس التنفيذي (1974)، وصولاً إلى اعتماد يوم 18 ديسمبر يومًا عالميًّا للغة العربية (2012).
• مشروعات مجمع اللغة العربية بالقاهرة مثل تحديث المعجم الوسيط، وإصدار معجم الشعر العربي، والسعي لإنجاز معجم مصور للأطفال، وإصدار معجم تراجم أعلام الثقافة العربية (2016)، وما أكده د. حسن الشافعي من أن العربية لا تتدهور، بل الذي يتدهور هو أداؤها على ألسنة الناشئة.
• مشروعات مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز الدولي لخدمة اللغة العربية، ليكون مرجعًا عالميًّا منذ 1429هـ وحتى الآن.
• جهود الجامعة العربية، ومنها استضافة المؤتمرات الدولية السنوية لجمعية لسان العرب من 1994 حتى 2010، وتكريم من خدموا اللغة، وعقد ثلاثة منتديات للنهوض باللغة العربية بين 2015 و2017، بمشاركة المجامع اللغوية والجمعيات اللغوية والجامعات العربية، لوضع استراتيجية موحدة للنهوض باللغة، وإطار عربي موحّد لاختبار الكفاءة اللغوية للناطقين وغير الناطقين.
• اهتمام دول أوروبية كفرنسا وإنجلترا وألمانيا، ودول آسيوية كاليابان، بتعليم العربية وترجمة الأدب العربي، وتنظيم أسابيع ثقافية لشخصيات مثل طه حسين ونجيب محفوظ.
• وجود 246 لغة كُتبت بالحرف العربي أو ما تزال تكتب به.
هذه أمثلة من كثير، وجزء من كل، أفلا يدفعكم ذلك إلى القول معي إن اللغة العربية تعيش حقًّا أزهى عصورها؟


