خلق الله عز وجل البشر، واستخلفهم في الأرض، وأمرهم بإعمارها وإصلاحها والاستفادة من ثرواتها وخيراتها؛ باستخراج كنوزها، والتعرف على أسرارها بما يعود عليهم بالنفع في دنياهم وأخراهم، وكما أمرهم بعبادته سبحانه وتعالى صلاةً وصيامًا وزكاة وحجًّا.. أمرهم بإعمارها بالزراعة والصناعة والتجارة وسائر المهن والحرف، قال الله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)(هود:61)، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(الملك:15).
والسلامة في اللغة مأخوذة من مادة “سلم”، وهي أن يَسلم الإنسان من العاهة والأذى، وفي السلامة المهنية أن يتسلح العامل بثقافة الوعي والأمان لحماية نفسه من المخاطر والأذى، والمعدات من التلف.
والمهنة في اللغة مأخوذة من مادة “مهن”، يقال: امتهن الرجل مهنة، أيْ اتخذ له حرفة وصنعة، ويقال: خرج في ثياب مهنته، أيْ في ثياب يلبسها في عمله.
والمهن في الإسلام تتعدد وتتنوع، منها مهنة التعليم، والزراعة، والصناعة، والتجارة.. والمهن والحرف البسيطة، كالنجارة، والحدادة، والحياكة.. والمهن كلها محترمة، لا فرق بين مهنة وأخرى بقدر إتقانها والإخلاص فيها. والمتأمل في حياة الأنبياء عليهم السلام يجد أنهم يمتهنون المهن والحرف البسيطة، ولا يجدون حرجًا في ممارستها وامتهانها، والتي يظنها البعض أنها لا تمثل مكانة اجتماعية في دنيا الناس؛ فنبي الله آدم عليه السلام كان مزارعًا، ونبي الله نوح عليه السلام كان نجارًا، ونبي الله داود عليه السلام كان حدادًا، ونبي الله إدريس عليه السلام كان خياطًا.
وهذه المهن وأمثالها التي اشتغل بها الأنبياء عليهم السلام تتفاوت وتتباين، وكل مهنة تتطور بتطور الزمان. فمثلاً، مهنة الحدادة اشتغل بها نبي الله داود عليه السلام، قال الله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)(الأنبياء:80)، وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)(سبأ:10)، ومهنة الحدادة في زمانه ليست كما هي عليه الآن.
فالتقدم الحاصل في الثورة الصناعية وضع الحديد في مرتبة عالية؛ إذ يُستخدم في كثير من الصناعات والمعدات التي لا يستغني عنها الإنسان. وبما أن الآلة تعمل الآن بشكل عجيب وبقوة خارقة وسرعة هائلة، وإنتاجية عالية غير ما كانت عليه في الماضي، تعيَّن على المتعامل معها أن يتعرف عليها، حتى ينجو من أخطارها التي قد تودي بحياته.
المخاطر في بيئة العمل
1- المخاطر الميكانيكية: يتعرض العامل للمخاطر أثناء تعامله مع الآلة، ومن هذه المخاطر:
– وصول شظايا متطايرة تخترق جسم العامل نتيجة استخدام الآلة في عمليات التقطيع بالصاروخ.
– كما يمكن أن يتعرض العامل لصدمات ببعض الأجزاء المتحركة، ومن الممكن عند الصدمة أن ينحشر ثوبه بالآلة، مما يتسبب في إصابات بالغة.
ومن ثم يجب الأخذ بالأسباب لتفادي أخطار الآلة، وذلك من خلال صيانة الآلة والتعرف على طبيعة عملها، والتدريب المستمر لتحديد المخاطر التي من الممكن أن تنتج عند التعامل مع الآلة.
كما يجب استخدام أدوات الوقاية الشخصية، ومنها الخوذة، والنظارة، والقناع الواقي، والحذاء الواقي، وغير ذلك مما يلعب دورًا مهمًّا في وقاية العامل من الأخطار في بيئة العمل.
2- المخاطر الكيميائية: وهي أحد المخاطر التي تتضمن التعرض للمواد الكيميائية، فقد يسبب التعرض لها في أماكن العمل تأثيرات صحية حادة أو طويلة المدى على صحة العاملين.
والمخاطر التي يتعرض لها العامل، هي أتربة المواد الكيميائية الأكالة، مثل الأحماض، والقلويات، والأتربة المعدنية التي تسبب حالات تسمُّم نتيجة امتصاص الجسم لها، كأتربة الرصاص والمنجنيز. فالوقاية من تلك الملوثات والمخاطر يتأتى بالاغتسال والاستحمام، مع توفير مهمات الوقاية الشخصية التي تتناسب مع طبيعة العاملين وظروف العمل.
3- المخاطر البيولوجية: وتشمل العضيات الدقيقة، والسموم الناتجة عن العضيات الحية، وقد تسبب مشكلات صحية للعاملين، مثل الأنفلونزا المعدية.
وفي أماكن العمل، مثل المستشفيات، والمختبرات، ومعامل تربية المواشي، وصوامع الحبوب، والمرافق المعنية بصيانة الصرف الصحي والنفايات، يمكن أن يتعرض العمال للمخاطر البيولوجية، منها البكتيريا، والفيروسات، والطفيليات، والفطريات، ومواد الحمض النووي، وسوائل الجسم، وما إلى ذلك مما يمثل خطرًا على صحة العاملين في بيئة العمل.
فهذه المخاطر تسبب أمراضًا عديدة، منها الحساسية، ومن ثم يجب وقاية العمال في بيئة العمل منها بالاحتياطات اللازمة، فهي أحد المخاطر البيولوجية التي تؤثر على شريحة كبيرة من العاملين.
4- المخاطر النفسية والاجتماعية: وهي تلك المخاطر الناتجة عن الخلافات العائلية والأسرية، واضطرابات العمل؛ فالمضايقات، والشعور بعدم تقدير الذات، يدفع إلى التوتر والانفعالات، وتعكير المزاج يؤدي بالضرورة إلى عدم التركيز في العمل، مما يتسبب في وقوع الحوادث في بيئة العمل.
لذا يُنصح بحل المشكلات الاجتماعية والنفسية قبل نزول ميدان العمل، حتى لا يتعرض العامل إلى مخاطر قد تودي بحياته، خاصة إذا كان يمارس أعمالاً شاقة ويتعامل مع المعدات والآلات.
5- المخاطر الفيزيائية: وهي تلك المخاطر التي يتعرض لها العمال نتيجة طبيعة العمل في تعرضهم للحرارة الشديدة أو البرد، كما هو الحال فيمن يعملون في مناطق باردة، أو مناجم الحديد، أو تحت درجة حرارة عالية.
فالاحتياطات اللازمة للوقاية من مخاطر الحر الشديد والبرد باتباع الإجراءات الوقائية، أمرٌ مطلوب نتعبد الله به، قال الله تعالى: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)(النحل:81).
وفي وقاية العين من الضوء الشديد، قال الله تعالى: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة:20)، وكذلك الوقاية من الضوضاء، قال الله تعالى: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ)(البقرة:19).
ترتبط معظم أعمال الصناعة بالحرارة؛ فعند إدخال الوقود إلى الآلات والمعدات، ينتج عن حركتها درجة حرارة، لذا فإن الحرارة أكثر ما يتعرض له العمال في مكان العمل، مما ينتج عنها تأثيرات نفسية وصحية تبدأ باضطرابات نفسية تنعكس سلبًا على الصحة العامة، لذا فإنه يجب أخذ الاحتياطات اللازمة لتفادي الحرارة والتخلص من أضرارها على الصحة والإنتاج.
وإذا كانت آثار الحرارة سيئة على صحة العامل والإنتاج، فإن للبرودة أيضًا آثارها السيئة على الإنتاج والصحة العامة للعامل. وكما أن البرد الشديد له أضراره على العمل والإنتاج وصحة العاملين، كذلك الإضاءة الشديدة والمنخفضة، وكما أن الإضاءة الشديدة تؤثر على شبكة العين، كذلك الإضاءة المنخفضة تُجهد العين وتؤثر على كفاءتها على المدى البعيد، مما يصيبها بالأمراض. كذلك الضوضاء، فالضوضاء تؤثر سلبًا على صحة العامل؛ فالتلوث السمعي لا يقل ضررًا عن التلوث المادي المتمثل في النفايات ومخلفات المصانع والأطعمة، حيث تؤثر في نشاط العاملين وقدراتهم الإنتاجية، بالإضافة إلى ما تُحدثه على المدى الطويل بشكل تدريجي في قوة السمع، وربما انتهت إلى صمم كامل.
ومن ثم، فالحفاظ على النفس والمال، من ضرورات الشريعة الإسلامية ومقاصدها العليا. فالحفاظ على النفس في مقدمة الحفاظ على المال، يقول الغزالي: “مقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة”.
من هنا، تهدف السلامة المهنية إلى حماية العامل، وعناصر الإنتاج الأساسية، وحماية المعدات من الإتلاف؛ فالحفاظ على العنصر البشري حفاظ على الآلة، والخطأ في التعامل مع الآلة يؤدي إلى إلحاق الضرر بالعامل وبالآلة معًا.
وحفظ النفس والمال يقتضي بالإجراءات الوقائية للسلامة من الأخطار، وهو لا يتنافى مع التوكل على الله، أما من يُهمل في الأخذ بالأسباب فهو متواكل وليس متوكلاً، فالأول يستريح قلبه ويتعب بدنه، والثاني يستريح بدنه ويتعب قلبه، والمعوّل عليه راحة القلب. وفي الأخذ بالأسباب وقاية من الأخطار والأضرار، قال الله تعالى: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا)(الكهف:92)، وفي الحديث عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أأُرسل ناقتي وأتوكل؟ قال: “اعقلها وتوكل” (رواه الترمذي).
وباختلاف المهن في دنيا الناس تختلف الإجراءات الوقائية المتبعة في بيئة العمل؛ فالزارع في مزرعته، والمعلم في مدرسته، والطبيب في مستشفاه، والصانع في مصنعه، والتاجر في متجره، وكلٌّ في حرفته ومهنته، واتباع الإجراءات الوقائية أمر مهم لتفادي الأخطار والحوادث المهلكة والمميتة في كثير من الأحيان. لأجل هذا، فإن الإسلام وضع ضوابط وإجراءات وقائية لتفادي الأخطار والحوادث في بيئة العمل.
الإجراءات الوقائية في بيئة العمل
- الافتقار إلى الراحة؛ فزيادة درجات التعب والإجهاد، قد تؤدي إلى الأخطار في بيئة العمل.
- عدم تسرب الأمراض الأخلاقية داخل بيئة العمل، مما يؤدي إلى وقوع كوارث وسرقات، خاصة فيما يتعلق بتناول الكحوليات والمخدرات.
- تجنب العمل في أوقات المحن والشدائد والخلافات الأسرية والعائلية حتى حلها ورجوع الحياة إلى طبيعتها من الهدوء والاستقرار الأسري والعائلي؛ فالإحباط والقلق والتوتر يجعل العامل أكثر عرضة للانفصال، وعدم القدرة على السيطرة على أعصابه وانفعالاته، مما يكون سببًا في تعرضه لحادث.
- العدالة في توزيع المكافآت والدرجات الوظيفية دون محاباة أو مجاملة؛ فشعور العامل بالرضا الوظيفي يدفعه إلى الجدية في العمل والتفاني فيه، مما ينعكس بشكل إيجابي على أمنه وسلامته ووفرة الإنتاج.
- بث روح التعاون والترابط الوظيفي دون إحداث حالات تدفع إلى الكراهية والتحاقد؛ فالتحاقد والتحاسد شر على بيئة العمل، إذ ثبت أن الحقد والحسد يضران بالصحة العامة، ومن ثم وقوع حوادث وأخطار، قال صلى الله عليه وسلم: “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” (رواه البخاري).
- عدم تضارب الأوامر الإدارية التي من شأنها أن تضع العمال في قلق واضطراب وظيفي.
- عدم إهمال عمليات الصيانة بصفة دورية ومستمرة، ووجود أجهزة ونُظم إنذار متقدمة، وتدريب العمال على كيفية التعامل معها، والتعرف على توقع مفاجآت غير سارة في موقع العمل؛ وقايةً للعاملين من الأخطار المحتملة.
- إعطاء محاضرات وندوات تثقيفية وترفيهية من حين لآخر للتذكير والتوعية بالإجراءات الوقائية من الأخطار والحوادث في بيئة العمل، مع غرس ثقافة حب الوطن وفقه الانتماء.
- حرية ممارسة الشعائر الدينية للعاملين من الصلوات والذكر، مما يشحنهم روحيًّا ويقوي عزائمهم.
إذن، الأخذ بالإجراءات الوقائية لتفادي الحوادث والأخطار أمر لا بد منه، أما الإهمال واللامبالاة في الالتزام بالإجراءات الوقائية، والذي يتسبب في وقوع الأضرار البشرية والمادية في بيئة العمل، تواكل، وهو ما نهينا عنه، قال الله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(البقرة:195).
(*) إمام وخطيب ومدرس بالأوقاف المصرية / مصر.


