لا شك في أن الأغذية التي نتناولها يوميًّا وباستمرار، يكون لها تأثير كبير على طريقة تفكيرنا وشعورنا وشفائنا ونمونا. هذا، وقد أظهرت الدراسات أن العناصر الغذائية التي توجد في الأطعمة، يمكن أن تصبح -بشكل حرفي- جزءًا مهمًّا جدًّا في تشكُّل أدمغتنا. ومن العجيب أن الأغذية التي تتناولها تؤثر على “الخلايا العصبية”، وهي الخلايا الرئيسة بالدماغ. وعلى سبيل المثال، قد يؤدي اتباع نظام غذائي غير صحي غني بالدهون والسكريات، إلى التهاب الخلايا العصبية بالدماغ، ويمنع تكوين خلايا عصبية جديدة. ويمكن أن يؤثر ذلك أيضًا على طريقة عمل الأدمغة، بل ويساهم في وقوع اضطرابات بالدماغ مثل الاكتئاب والقلق.
الدماغ يستقبل الإشارات ويرسلها
منذ زمن طويل، كان هناك اشتباه في أن الوفرة النسبية لعناصر غذائية محددة، يمكن أن تؤثر على العمليات المعرفية والعواطف. وقد كشفت التأثيرات الموصوفة حديثًا للعوامل الغذائية على وظيفة الخلايا العصبية واللدونة التشابكية عن بعض الآليات الحيوية المسؤولة عن عمل النظام الغذائي على صحة الدماغ وعلى الوظيفة العقلية؛ لأن العديد من هرمونات الأمعاء التي يمكنها دخول الدماغ، أو التي يتم إنتاجها بالدماغ نفسه، تؤثر على القدرة الإدراكية. كما أن قدرة اللدونة التشابكية الراسخة، مثل عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ، يمكنها العمل كمعدلات استقلابية تستجيب للإشارات الطرفية مثل تناول الطعام.
ويُعد الدماغ هو العضو الأكثر تعقيدًا في جسم الإنسان؛ فهو يراقب طوال الحياة كل العمليات والأنشطة اليومية لصاحبه، كما أن الدماغ يتواصل مع بقية الأعضاء الأخرى، ويقوم أيضًا بتنسيق وظائفها. وخلايا الدماغ تسمى “الخلايا العصبية”، وكل تلك الخلايا تُعد اللبنة الأساسية لأنسجة الجهاز العصبي، ويمكنها استقبال ونقل الإشارات إلى أجزاء مختلفة من الجسم، حيث إن الخلية العصبية (العصبون) تتصل مع الخلايا الأخرى لنقل إشاراتها، وتنقل عادة الإشارات على شكل جزيئات كيميائية ونبضات كهربائية. وتحتوي الخلية العصبية على جسم خلية “سوما” وتشعبات ومحور عصبي، للتواصل مع بعضها البعض ومع الأعضاء الأخرى مثل العضلات.
كما تتواصل الخلايا العصبية أيضًا مع خلايا الدماغ الأخرى التي تسمى “الخلايا الدبقية”، وهي خلايا غير عصبية في الجهاز العصبي. وعلى عكس الخلايا العصبية، فإن الخلايا الدبقية لا تُنتج نبضات كهربائية؛ لأن وظائفها تتمثل في الحفاظ على التوازن في الجهاز العصبي، من خلال توفير الدعم والحماية للخلايا العصبية. وتنقسم الخلايا الدبقية إلى نوعين رئيسين: خلايا دبقية صغيرة، وخلايا نجمية. وتستطيع الخلايا النجمية المساعدة في توفير العناصر الغذائية للخلايا العصبية، في حين تتمثل الوظيفة الرئيسية للخلايا الدبقية الصغيرة، في القيام بتدمير الميكروبات التي تُصيب الجهاز العصبي وتدعم الخلايا العصبية. وتُعد الخلايا الدبقية الصغيرة هي الخلايا المناعية الرئيسة بالدماغ، وتساعد على حمايته من الالتهابات، بينما توفر الخلايا النجمية للخلايا العصبية، العناصر الغذائية التي قد يحتاجها الشخص للبقاء في صحة جيدة.
الإفراط في السعرات الحرارية
إن حقيقة أن العوامل الغذائية والجوانب الأخرى من نمط الحياة لها تأثير على نطاق زمني طويل الأجل، تسهم في التقليل من أهميتها للصحة العامة. لذلك، إن التدهور المعرفي البطيء وغير المحسوس الذي يميز الشيخوخة الطبيعية، يقع ضمن نطاق عمل “الأغذية الدماغية”، بحيث تكون الشيخوخة الطبيعية هدفًا يمكن تحقيقه في العلاجات الغذائية.
وقد يكون لقدرة النظام الغذائي على تعديل القدرات المعرفية، آثار طويلة المدى. وفي ضوء الدراسات الحديثة التي تشير -بصورة ضمنية- إلى أن التأثيرات الغذائية قد تنتقل عبر الأجيال، عبر التأثير على الأحداث اللاجينية.
وتشير الأبحاث إلى أن الإفراط في تناول السعرات الحرارية، قد يقضي على الآثار الإيجابية لبعض الأنظمة الغذائية. وتشير نفس الأبحاث أيضًا، إلى وجود خط غير محدد بين وفرة الأغذية والصحة العصبية. ومن المفارقات، أنه إذا حكمنا من خلال المعدل المتزايد للسمنة بالدول الغربية، الذي يؤثر على صحة الفرد والاقتصاد ككل، فإن الإفراط في تناول الطعام بتلك الدول الغنية، يبدو ضارًّا بنفس القدر الذي يسببه نقصه بالدول الفقيرة.
ومن العجيب، أن العديد من الدول محدودة الموارد -مثل الهند- تعاني من انخفاض معدل انتشار الاضطرابات العصبية التي هي على ارتباط بالنظام الغذائي، مثل مرض “الزهايمر”. وهذا يثير القلق فيما يخص ما إذا كانت المجتمعات الصناعية تستهلك نظامًا غذائيًّا متوازنًا، يضع في اعتباره الأعداد المناسبة من السعرات الحرارية.
إضافة إلى العناصر الغذائية المناسبة، والمستويات الكافية من التمارين الرياضية، بجانب العديد من الأسئلة العملية التي تتعلق بتصميم الأنظمة الغذائية لتحسين وظائف المخ على وجه التحديد، مثل نوع وتكرار وكمية العناصر الغذائية التي تُشكل غذاءً صحيًّا للدماغ، لا تزال بحاجة إلى إجابة. لكنه تم البدء في الكشف عن المبادئ الأساسية التي تشارك في تصرفات الأطعمة على الدماغ. وبدمج تلك المعرفة في تصميم علاجات جديدة، يمكن أن يكون ذلك من الأمور الحيوية لمكافحة الأمراض العقلية ونقاط الضعف العصبية.
الغذاء الصحي والدماغ السعيد
يمكن أن نرى أن التواصل -سواء مع الخلايا الأخرى في الدماغ أو مع بقية الجسم- هو أهم وظيفة للدماغ، لأن الرسائل التي يرسلها الدماغ لا تسمح للشخص بأداء المهام الجسدية مثل التحرك فقط، بل تساعده أيضًا على أداء المهام المعرفية، وهي مهام تشمل العديد من الإجراءات، كالتفكير والتعلم والتذكر والحفظ والتخطيط والتخيل والتنظيم والتركيز، ما يعني أن المشكلة التي تؤثر على الدماغ، يمكن أن تغير التفكير أو العواطف أو السلوكيات. والتغذية السليمة الموجودة بالنظام الغذائي الصحي يمكن أن تحسن العديد من وظائف المخ، بينما النظام الغذائي السيئ يمكن أن يكون له تأثير سلبي على وظائف الإدراك، والنظام الغذائي الصحي هو أساس الدماغ السعيد.
وفي السياق نفسه، تقول الدكتورة “أوما نايدو” اختصاصية الطب النفسي الغذائي وعضو هيئة التدريس بكلية الطب بجامعة “هارفارد” الأمريكية، إنها عكفت على دراسة دور بكتيريا الأمعاء في تحفيز عمليات التمثيل الغذائي والتهاب الدماغ الذي يؤثر على الذاكرة، وأن الدراسات الحالية تشير إلى أن الإنسان قد يكون قادرًا على تقليل احتمالية إصابته بالخرف عن طريق تجنب الأطعمة التي يمكن أن تعرض بكتيريا الأمعاء للخطر وتُضعف الذاكرة والتركيز. وهناك بعض الأطعمة نصحت بها “نايدو”، يمكن تجنبها لمحاربة الالتهابات الدماغية، أو على الأقل الحد منها، وتعزيز صحة الدماغ والتفكير الحاد واتخاذ القرارات الجيدة. وهناك دراسات ربطت هذه الزيادة في جلوكوز الدماغ بحدوث ضعف بالذاكرة وقلة اللدونة في “الحُصين”، وهو الجزء من الدماغ المسؤول عن التحكم في الذاكرة.
كما أكدت “نايدو”، أن استهلاك الأغذية الصناعية غير الصحية كالمخبوزات والصودا -وهي منتجات عادة ما تُضاف إليها سكريات مكررة- يغمر الدماغ دومًا بالكثير من الجلوكوز، لذلك أوصت جمعية القلب الأمريكية (AHA) بألّا تستهلك النساء أكثر من 25 جم من السكر المضاف بشكل يومي، وبالنسبة للرجل فإن الحد الأقصى الموصى به هو 36 جم. وحول الأطعمة المقلية كالدجاج المقلي، والبطاطس، والسمبوسة، والتمبورا، والسمك، والشيبسي، والعديد من المقليات الأخرى وفقًا لما قالته الطبيبة “نايدو”، فمن المفيد لصحة الدماغ تقليل كمية تلك الأطعمة المقلية.
وخلصت إحدى الدراسات التي شارك بها نحو 18 ألف شخص، إلى أن اتباع نظام غذائي غني بالأطعمة المقلية، كان ذا صلة بانخفاض درجات التعلم والذاكرة. وزادت “نايدو” في حديثها، بأن السبب المحتمل هو أن هذه الأطعمة اللذيذة ربما تسبب الالتهاب، الذي بدوره يمكن أن يتلف الأوعية الدموية التي تغذي الدماغ بالدم، وأن الأشخاص الذين يتناولون الكثير من الأطعمة المقلية كانوا أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب من غيرهم. ونصحت “نايدو” الأشخاص الذين يتناولون هذه الأطعمة بشكل يومي، بتحويلها إلى نظام أسبوعي، ومن اعتاد عليها كل أسبوع، من الممكن أن يجعلها نظامًا شهريًّا فقط، حيث قالت: “إن من لا يتناولون هذا النوع من الطعام، في طريقهم إلى أوقات أكثر سعادة”.
أغذية ترفع التركيز الذهني
لا شك في أن قلة التركيز أو النسيان، أو حتى الصعوبة في استرجاع بعض المعلومات المخزنة في الدماغ، هي أمور نتعرض لها يوميًّا. وقد نتساءل: كيف يمكننا السيطرة على هذه الأعراض السيئة؟ لذلك وُجدت بعض النصائح التي قد تسهم في رفع التركيز الذهني، وبعض النصائح التي يمكن اتباعها في التغذية لرفع مستوى التركيز.
كما يمكن القول بأن الماء يدخل في تكوين المخ بنسبة 75 بالمائة، ما يعني أن قلة شرب الماء قد تسبب جفاف خلايا المخ، ما يؤثر على أدائه. لذا ينصح الخبراء دومًا بشرب لترين أو ثلاثة لترات يوميًّا، وضرورة مراعاة شرب كميات أكثر من الماء عند ممارسة الرياضة، التي يكون لها أيضًا تأثير إيجابي على المخ.
علمًا بأن قلة شرب الماء، تؤدي إلى انكماش “الزوائد الشجرية” الموجودة بالمخ، وهي التي تستقبل المعلومات. بالإضافة إلى الأسماك، لاحتوائها على الأحماض الدهنية الأوميغا-3، تحتوي المكسرات على العديد من هذه الأحماض الدهنية المهمة للجسم، وهي تمد خلايا المخ بما تحتاجه، ما يعزز عملية التواصل لدى الإنسان. إضافة إلى ذلك، فإن الأحماض الدهنية تنشط الذاكرة في المخ، وعملية إيجاد الحلول، وتقوي استقبال الإنسان للمعلومات وعملية التعلم لديه.
كما أن أنواع التوت المختلفة، من الأغذية المهمة والحيوية للمخ، لاحتوائها على مادة “أنثوسيان”، وهي مادة عضوية لونية تقوي عملية التفكير، لونها أزرق داكن أو أسود.
وهناك أنواع أخرى من الفواكه، لها أثر إيجابي على زيادة تركيز الإنسان، كالبطيخ، والأناناس، والبرتقال، والكيوي، والبرقوق، والخوخ، والتفاح، والعنب.. وكذلك يحتوي “الأفوكادو” على نسبة عالية من الدهون غير المشبعة، التي تقوي القدرات الفكرية عبر تحفيز سريان الدم بخلايا المخ، بجانب عملها على حماية تلك الخلايا من الاحتراق.
ينصح خبراء التغذية بتناول القرنبيط، والبروكولي، لكونهما من الخضروات التي تساهم في توازن نسبة السكر بالدم، ما يؤدي تباعًا لرفع نسبة تركيز الإنسان. وتلك الخضروات ثبت أنها تقوي الذاكرة، وذلك أثبته الخبراء بالعديد من التجارب التي أتت نتائجها، لتؤكد أن الأشخاص الذين يتناولون الخضروات بكثرة، كانت نتائج اختبار ذاكرتهم من أحسن النتائج.
(*) كاتب وباحث مصري.
المراجع
(1) التغذية والإدراك، ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
(٢) أغذية تنشط خلايا المخ وترفع القدرة على التركيز، موقع DW الألماني، 29/8/2015م.
(٣) أطعمة شائعة تدمر الذاكرة والتركيز وتسبب الخرف، موقع سبوتنيك عربي، 5/12/2021م.
(٤) الطعام في العالم القديم، جون إم ويلكنز، وشون هيل، تعريب: إيمان جمال الدين، مؤسسة هنداوي، القاهرة 2017م.
(٥) جمعية القلب الأمريكية توصي بـأربعة أطعمة تحتوي على دهون مفيدة لتحسين صحتك، اليوم السابع، 30/10/2023م.


