يشكِّل الطعام الذي نأكله حجر الأساس لصحتنا الجسدية والعقلية. وتُظهر الدراسات أن النظام الغذائي لا يقتصر تأثيره على نمو الجسم وحيويته، بل يشمل الوقاية من الأمراض وعلاجها. فمن خلال اختيار الأطعمة المغذية والمتوازنة، يمكننا تعزيز المناعة، وتقوية القلب، والحفاظ على الوزن المثالي. وفي المقابل، فإن العادات الغذائية السيئة قد توفر الراحة والمتعة الفورية، إلا أنها غالبًا ما تؤدي إلى زيادة خطر الإصابة بأمراض مزمنة مثل السكري، والسمنة، وأمراض القلب.
وتُعد العلاقة بين الغذاء والسلوك الإنساني موضوعًا مثيرًا للجدل والدراسة في العديد من المجالات، بما في ذلك العلوم النفسية والاجتماعية. فالغذاء لا يقتصر فقط على دوره في توفير الطاقة والبقاء، بل يمكن أن يؤثر بشكل عميق على الحالة النفسية والعاطفية والسلوكية للفرد. والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا الصدد هو: هل يمكن أن يكون لطعامنا دور خفي في تشكيل سلوكياتنا اليومية، أو دفعِ البعض إلى التصرف بطرق مخالفة للقانون؟ هذا ما سنتناوله بالتحليل في هذا المقال، مستندين إلى الأدلة العلمية والدراسات الميدانية.
السلوك العدواني والغذاء
أثارت العلاقة بين الغذاء والسلوك العدواني اهتمام الباحثين في مجالات علم الاجتماع، وعلم النفس الجنائي، والتغذية. وتشير الدراسات إلى أن نوعية الغذاء تؤثر على السلوك البشري، بما في ذلك السلوك العدواني والإجرامي. فقد أظهرت دراسة أن انخفاض مستوى المنجنيز يؤثر على العاطفة، وأن نقص فيتامينات “بي” يؤدي إلى اختلال الاتزان الانفعالي وسرعة الغضب. كما أن نقص السكر السريع الناتج عن زيادة الأنسولين في الجسم، يسبب شعورًا بالجوع، مما قد يؤدي إلى سلوكيات عدوانية.
وتوضح العديد من الدراسات الصلةَ بين النظام الغذائي ومشاكل السلوك، مثل فرط النشاط لدى الأطفال؛ فقد تبيّن أن نقص السكر، والفيتامينات، وتلوث الرصاص، والمواد المضافة إلى الأطعمة، والحساسية الغذائية، قد تحول الدماغ الطبيعي إلى عقل إجرامي. وقد أظهرت تجارب السجون الأخيرة أن تغيير النظام الغذائي أو برامج التثقيف الغذائي، نجحت في الحد من المشاكل التأديبية وتحسين الروح المعنوية. كما أظهرت الدراسات التي أُجريت على مدمني الكحول ومدمني الهيروين، وجودَ صلة بين عادات الأكل السيئة والمشاكل النفسية، وذلك لأنهم يتناولون كميات كبيرة من السكر والأطعمة المصنّعة والمكررة والوجبات السريعة.
وعلى هذا، فإن مجموعة كبيرة من الأدلة تشير إلى أن النظام الغذائي، والمعادن السامة، والمواد المضافة إلى الأطعمة، ونقص العناصر الغذائية، وحساسية الطعام، كلها عوامل تساهم في السلوك الإجرامي. وتتزايد الأدلة على أن النظام الغذائي الجيد، يُحدث فرقًا إيجابيًّا عند العمل مع بعض المجرمين. لذلك يُوصى بفحص النظام الغذائي والتمثيل الغذائي للمجرم قبل اختيار العلاج، وخاصة بالنسبة للمجرمين الأحداث الذين ارتكبوا جرائمهم لأول مرة.
وفي دراسة مثيرة للجدل حول دور الغذاء في الإجرام، قال الدكتور “أدريان راين” أستاذ علم الجريمة في جامعة بنسلفانيا، في مؤتمر “المخ والسلوك”: “إن أحماض أوميغا-3 الدهنية، تُظهر تحسينات في وظائف المخ، وتُقلل من السلوك العنيف”. وتشير مجموعة كبيرة من الأدلة إلى أن النظام الغذائي، والمعادن السامة، والإضافات الغذائية، وعدم كفاية العناصر الغذائية، والحساسية الغذائية، وعدم ممارسة الرياضة، وسوء الإضاءة، يمكن أن تساهم جميعها في السلوك الإجرامي. وتتزايد الأدلة على أن اتباع نظام غذائي جيد، يُحدث فرقًا إيجابيًّا عند العمل مع بعض المجرمين. كما يمكن أن يؤثر سوء التغذية على التركيز والتعلُّم، وقد يؤدي إلى نوبات من السلوك العنيف أو العدواني. وفي السجن يمكن أن يساهم النظام الغذائي السيئ أيضًا في زيادة معدلات سوء الصحة العقلية والجسدية.
وأجرت مؤسسة “العدالة الطبيعية” الخيرية بالتعاون مع وزارة الداخلية البريطانية دراسةً تجريبية لاختبار ما إذا كان سوء التغذية سببًا للسلوك المعادي للمجتمع. شملت الدراسة 231 متطوعًا من السجناء، حيث تم تزويدهم إما بمكمّلات غذائية تحتوي على الفيتامينات والمعادن والأحماض الدهنية الأساسية، أو بعلاج وهمي. وأظهرت النتائج أن السجناء الذين تلقوا المكملات الغذائية، ارتكبوا جرائم أقل بنسبة 26.3% مقارنة بالمجموعة التي تلقت العلاج الوهمي، مما يشير إلى تأثير إيجابي للتغذية المتوازنة على تقليل السلوك العدواني.
وأشارت دراسة نُشرت في مجلة “مدار”، إلى أن تحسين غذاء السجناء يمكن أن يقلل من حوادث العنف بنسبة تصل إلى 30%. وتؤكد هذه الدراسة على أهمية التغذية السليمة في تحسين الصحة النفسية والسلوك، وتدعو إلى إعادة النظر في نوعية الغذاء المُقدّم في المؤسسات الإصلاحية كوسيلة للحد من السلوك العدواني.
وأجرت جامعة “أكسفورد” دراسة تشير إلى أن التغذية الجيدة لنزلاء السجون، تُقلل من السلوك الإجرامي لديهم. كما نصحت الدراسة جميع السجون في العالم، بالاهتمام بتقديم وجبات غذائية متوازنة للسجناء، كوسيلة للحد من السلوك العدواني وتحسين الصحة العامة.
ولقد كشفت دراسة حديثة أن الأطفال الذين لا يتناولون طعامًا صحيًّا، يكونون أكثر عرضة للسلوك العنيف وغير الاجتماعي. كما تشير هذه الدراسة إلى أن التغذية غير المتوازنة قد تؤثر سلبًا على سلوك الأطفال، مما يستدعي الاهتمام بتوفير نظام غذائي صحي لهم.
وأشارت دراسة نُشرت في “The Journal of Pediatrics” إلى وجود علاقة بين سوء التغذية المبكر والسلوك العدواني لدى الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين ٥-٦ سنوات. ووجدت الدراسة أيضًا، أن الأطفال الذين تناولوا كميات منخفضة من الأحماض الدهنية، كانوا أكثر عرضة لإظهار سلوكيات عدوانية مثل الاعتداء الجسدي والتخريب، مما يُسلّط الضوء على أهمية التغذية السليمة في المراحل المبكرة من الحياة، للوقاية من السلوكيات المعادية للمجتمع في المستقبل.
الاكتئاب والتغذية
وجدت الدراسات أن الأطعمة الغنية بأوميغا-3، مثل الأسماك الدهنية وبذور الكتان، تساعد في تنظيم النواقل العصبية، مثل السيروتونين والدوبامين، مما يقلل من خطر الاكتئاب. كما أن تناول الفواكه والخضروات والحبوب الكاملة، يمد الجسم بالفيتامينات والمعادن الأساسية، مثل فيتامين “د” وحمض الفوليك، التي تعزز الصحة النفسية. علاوة على ذلك، تسهم الألياف الغذائية في تحسين المزاج وتقليل القلق.
وتناولت دراسة نُشرت في مجلة “علم التغذية العصبية” عام 2019م بعنوان “الدهون الغذائية والوظائف الإدراكية: دور الأحماض الدهنية أوميغا-3 في الصحة النفسية”، وأشارت بأدلة قوية إلى تأثيرها الإيجابي في تقليل الالتهابات العصبية وتعزيز المزاج.
الغذاء والصحة النفسية
يلعب الغذاء المتوازن دورًا هامًّا في تحفيز نشاط الدماغ وتعزيز الصحة النفسية؛ فقد أظهرت بعض الأبحاث -مثل دراسة نُشرت في مجلة الطب النفسي- أن الأشخاص الذين يتبعون نظامًا غذائيًّا صحيًّا ومتوازنًا، يعانون بشكل أقل من القلق والاكتئاب والتوتر، مقارنةً بالأشخاص الذين يتناولون نظامًا غذائيًّا غير صحي.
ومن بين الأطعمة التي تعزز الصحة النفسية، يمكن ذكر الأسماك الدهنية، التي تحتوي على الأحماض الدهنية الأساسية مثل أوميغا-3، والبروتينات، والفواكه، والخضروات الملونة، التي تُعد مفيدة للغاية للعقل والصحة النفسية، كما أنها تعزز الحالة المزاجية، وتحسن الذاكرة والتركيز.
بينما تساعد الأغذية المتخمرة -مثل الزبادي والمخللات- على تقليل التهاب الأعصاب المصاحب للعديد من الاضطرابات العقلية. ولخّص مقال حديث في مجلة “الطب النفسي اليوم” الأمر كما يلي:
“إن فكرة الطعام السليم أو ما يحتويه من كيميائيات عصبية طبيعية، قد تعزز القدرات العقلية وتساعد على التركيز، وتعمل على ضبط المهارات العصبية العضلية، وتجعلك فاعلاً، وتنمّي الذاكرة، وتسرّع من ردّة الفعل، وتشتّت القلق، بل وربما تمنع المخ من أن يشيخ، ليست مجرد توقعات خاملة. فعلم الأعصاب المتعلق بالتغذية ما زال في مهده، إلا أن نتائجه قد لفتت الانتباه”.
الخلاصة
تعكس جودة الطعام الذي نتناوله حالة صحتنا العامة، فمن خلال اختيار الأطعمة المناسبة يمكننا تعزيز مناعتنا، وتحسين طاقتنا، والوقاية من العديد من الأمراض.
فإذا كانت صحتك النفسية تهمك، فإن اتباع نظام غذائي متوازن وصحي، هو الخطوة الأولى نحو تحسين حالتك المزاجية وصحتك العقلية.
فقط اخترْ مجموعة متنوعة من الأطعمة المفيدة للدماغ، وضمِّنها في نظامك الغذائي، وتجنب تناول الأطعمة ذات التأثيرات السلبية بشكل مفرط.
وتَذكّر أن تغييرات بسيطة في عاداتك الغذائية، قد تؤدي إلى تحسين كبير في حالتك المزاجية وصحتك النفسية. وتَذكّر دائمًا أن اختيارك للطعام، يعكس اهتمامك بجسدك وروحك، فهو حقًّا عنوان لصحتك.
بالطبع، ليس النظام الغذائي هو العامل الوحيد المساهم في ذلك، فإن الاستجابة للتوتر أو التهديدات، هي أيضًا سمة من سمات علاقة الأبوة والأمومة، والقدرة اللغوية، وأنماط التعلّق، لكن بالرغم من ذلك يمكننا فصل تأثير التغذية عن هذه السمات الأخرى.
فقد وجد تقييم شمل أربعة آلاف طفل هولندي صغير، أن السلوكيات السيئة لدى الأطفال انخفضت عندما تناولت الأمهات حمض الفوليك خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل.
وأخيرًا، بالرغم مما تطرّقنا له من حقائق في هذا الموضوع، إلا أننا نجد أنفسنا أمام سؤال عميق، وهو: لماذا لم تلقَ هذه النظرية صدى واهتمامًا ورواجًا بالرغم من وجود بعض الدراسات التي تشير إلى الارتباط بين الغذاء والسلوك الإجرامي؟ خاصة وإن مسألة الغذاء والتغذية ليست بالحديثة، فهي موجودة منذ قرون. إن هذا الموضوع معقد ومحير، وما زال يتطلب المزيد من البحث والتحليل لفهم تأثيرات التغذية بشكل أعمق.
صحيح، قد يكون لتحسين نمط الحياة وتناول غذاء صحي، دور في الحد من احتمالية الانخراط في السلوك الإجرامي، ولكن هذا يجب أن يُنظر إليه كجزء من نهج شامل للوقاية من الجريمة، وتحسين الظروف الاجتماعية والنفسية.
(*) استشاري طب وجراحة العيون / مصر.
المراجع
(1) النظام الغذائي والجريمة والانحراف، المكتبة الافتراضية للمجلس الوطني لبحوث الشباب.
(٢) مجلة الطب النفسي.
(٣) دراسات جامعة أكسفورد ومؤسسة العدالة الطبيعية.
(٤) The Journal of Nutritional Neuroscience.


