خلق الله -عز وجل- كل شيء بمقدار وميزان لكي يتلاءم مع مكانه وزمانه، قال تعالى: ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾(الحجر: 19).
إن خطورة اختلال التوازن البيئي قضية من أهم قضايا العصر، وتكمن أهميتها في ضرورة خلق الوعي البيئي الإسلامي ضد سوء استغلال البيئة والإخلال بتوازنها، مما يهدد حياة البشرية.
والتوازن البيئي هو توازن التفاعل الديناميكي بين المكونات البيئية المختلفة التي تحيط بالإنسان من صخور وماء وتربة وهواء، في صورة منظومة بيئية متزنة دون تدخل الإنسان بإفسادها. ولما كانت عناصر المكونات البيئية المختلفة تتفاعل مع بعضها البعض وفق نظام دقيق، فإن حدوث أي خلل يؤدي إلى اضطراب هذا النظام البيئي، وهو ما يُعرف بـ (اختلال التوازن البيئي)، وما يصاحبه من ظهور مشكلات بيئية عديدة باتت تهدد حياة الإنسان في العصر الحاضر.
لقد استمتع الإنسان بهذا التوازن البيئي فترة طويلة من الزمن حتى ظهور ما يُعرف بـ “الرجل الصناعي”، الذي تسبب في حدوث تفاعل ديناميكي بين الإنسان وبيئته، فحدث اختلال كبير في هذا التوازن الدقيق، أو ما يمكن تسميته “بيئة من صنع الإنسان”، تحمل من كل جوانبها بصمات يده.
المكونات البيئية المختلفة وأهميتها
العوامل اللاحيوية في النظام البيئي هي جميع المكونات غير الحية التي تشكل البيئة، وتشمل الضوء، والحرارة، والماء، والهواء، والتربة، والمعادن، ونسبة الرطوبة. وهذه العوامل الفيزيائية والكيميائية تؤثر تأثيرًا كبيرًا على الكائنات الحية (العوامل الحيوية) وقدرتها على البقاء والتكاثر، وتختلف مكوناتها تبعًا لنوع النظام البيئي، سواء أكان أرضيًّا أم مائيًّا.
ومن أمثلة بعض العوامل اللاحيوية التي تؤثر في المكونات البيئية ما يلي:
الهواء: يتكون الهواء الجوي النقي (غير الملوث) من خليط من الغازات بنسب متوازنة من أجل الحياة على سطح الأرض، وهي:
النيتروجين بنسبة 78%، والأكسجين بنسبة 21%، والهيدروجين والأرجون ومجموعة أخرى من الغازات تمثل حوالي 0.79% من حجم الهواء، وثاني أكسيد الكربون بنسبة 0.03%.
ومن آيات الله -سبحانه وتعالى- أن نسبة غاز النيتروجين العالية (الغاز الخامل غير المساعد على الاشتعال) مقدّرة تقديرًا دقيقًا من قبل الخالق العليم الخبير، إذ لو كانت نسبته أقل من هذه النسبة المقدّرة، وحدث أن سقطت شرارة كهربائية من الفضاء الخارجي نحو الأرض لاحترق كل شيءٍ على سطحها.
ومن عجيب صنع الله أن نجد عنصر الأكسجين -النشط كيميائيًّا- بنسبة محددة بدقة. فلو زادت نسبته في الجو إلى 50% مثلاً أو أكثر، لأصبحت جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم عرضةً للاشتعال، حتى إن أي شرارة برق تصيب شجرة كانت لتلهب الغابة كلها. ولو قلت نسبة الأكسجين إلى 10% تقريبًا، لاختنقت كل أشكال الحياة على سطح الأرض.
أما نسبة ثاني أكسيد الكربون فهي بهذه الدرجة الضئيلة تمتص الموجات الحرارية الأرضية (الأشعة تحت الحمراء) وتحتفظ بها في الغلاف الجوي، مما يمنحه درجة الحرارة المناسبة لوجود الحياة. وإذا زادت نسبته، فإن الفائض يذوب في البحار والمحيطات ويتفاعل مع أملاح الكالسيوم مكوِّنًا كربونات الكالسيوم، وبذلك تحتفظ الطبيعة بتوازنها الذاتي.
الماء: هو أصل الحياة، ولا يمكن الاستغناء عنه، وصدق الحق -عز وجل- حين قال في محكم كتابه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾(الأنبياء: 30).
ويتكون الماء من أجسامٍ متناهية الصغر تسمى “جزيئات”، وتحتوي قطرة الماء الواحدة على الملايين منها. ويتكون كل جزيء من ثلاث ذرات: ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، ترتبطان برابطة تساهمية وتشكلان زاوية مقدارها 105 درجات. وتركيبه الكيميائي المعروف هو (H₂O).
ومن بديع صنع الله الخالق -سبحانه وتعالى- وروائع حكمته أن جعل لهذا البناء الجزيئي الفريد خصائص متميزة، من أهمها قطبيته الكهربائية التي جعلت منه أقوى مذيب على سطح الأرض، وجعلت لجزيئاته قوة تلاصق وتماسك عالية جدًّا نتيجة الترابط الهيدروجيني بينها.
كما أن من فضل الله على عباده ورحمته بهم أنه يُنزل ماء المطر من السماء خاليًا من الشوائب، نقيًّا في غاية الصفاء عند تكوّنه، ويظل كذلك حتى يصل إلى سطح الأرض، كما قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾(الفرقان: 48).
ومن خصائص الماء أنه سائل لا لون له ولا طعم ولا رائحة إذا كان نقيًّا، وهو متعادل (ليس بحمضي ولا قلوي) في حالته النقية، إذ تبلغ قيمة مقياس الرقم الهيدروجيني له 7.
أما إذا تدخل الإنسان وغيّر هذه الخصائص، فإنه يتحول من حالته المتعادلة إلى الحمضية أو القاعدية، مما يسبب مشكلات بيئية خطيرة.
التربة: تُعَد موردًا حيويًّا هامًّا بالنسبة للإنسان لا غنى عنه. وإذا كان مظهرها يبدو ساكنًا، فإنها في حقيقة الأمر كائن حيٌّ يتفاعل مع ما يحيط به.
فالتربة هي الطبقة السطحية الهشة التي تغطي صخور القشرة الأرضية في المواضع التي تعرضت لتغييراتٍ كيميائية وفيزيائية من خلال تفاعل مستمر بين الحياة العضوية (نباتات وحيوانات) من جانب، والمكونات غير الحية (معادن وماء وغازات) من جانب آخر.
وهي ملتقى للأغلفة الأربعة: الغلاف الغازي، والبيولوجي، والليثولوجي، والهيدرولوجي، والتي تقوم بينها علاقة ديناميكية متبادلة تجعل من التربة بيئة للنشاط البيولوجي وموطنًا للعديد من الكائنات العضوية وغير العضوية.
لقد تدخل الإنسان في القوانين البيئية التي سنّها الخالق -عز وجل-، وخاصة بعد الثورة الصناعية، مما تسبب في اختلال التوازن البيئي نتيجة الإخلال بتوازن عناصرها ومكوناتها. فأصبحت ضارة بالإنسان والحيوان والنبات، وتدهورت مقومات الحياة في كل من الهواء والماء والتربة والغذاء.
لقد أصبحت مشكلة التلوث البيئي من أخطر مشكلات العصر وأكثرها تعقيدًا وأصعبها حلًّا، فهي مشكلة ذات أبعاد صحية واجتماعية واقتصادية.
ويسبب التلوث البيئي نشوء مشكلات تتعلق بصحة الإنسان وسلامته، حيث تزداد نسبة الأمراض التي تُعرف باسم أمراض التلوث البيئي، ومنها:
التلوث البيئي البيولوجي
يُعرَّف التسمم الغذائي بأنه حالة مرضية مفاجئة تظهر أعراضها خلال فترة زمنية قصيرة على شخص أو عدة أشخاص بعد تناولهم غذاء غير سليمٍ صحيًّا.
وتظهر أعراض التسمم الغذائي على هيئة غثيان وإسهال وتقلصات في المعدة والأمعاء، وفي بعض الحالات قد تظهر الأعراض على هيئة شلل في الجهاز العصبي بجانب الاضطرابات المعوية.
وتختلف أعراض الإصابة وارتفاع الحرارة وشدتها والفترة الزمنية اللازمة لظهور الأعراض المرضية حسب مسببات التسمم وكمية الغذاء التي تناولها الإنسان.
ومن أنواع البكتيريا التي تسبب التسمم الغذائي: ستافيلوكوكس، الباسيلس، الكوليرا، البروسيللا، السالمونيلا، الكلوستريديوم. وتكمن خطورة بعض هذه الميكروبات في إفرازها سمومًا مقاومة للحرارة لا يقضى عليها إلا بالتسخين لمدة طويلة.
أما الفطريات فيعيش بعضها على الألبان والفول السوداني والحبوب، وتفرز سمومًا خطيرة تسمى السموم الفطرية (الميكوتوكسين)، ومن أخطرها سموم تُعرف بـ الأفلاتوكسين، التي ثبتت علاقتها بالإصابة بالسرطان.
التلوث البيئي الكيميائي
يُعد التلوث الكيميائي من أخطر أنواع التلوث التي تهدد حياة الإنسان وسائر الكائنات، إذ يتسلل إلى الجسد عن طريق امتصاص المعادن السامة كالكادميوم والرصاص والزنك، أو نتيجة لتدخل الإنسان في تركيب الأغذية وتحويل طبيعتها، فيجعل منها مصدرًا للتسمم والأمراض القاتلة.
ومن أبرز مظاهر هذا التلوث:
– التسمم بالمعادن: كحالات تخزين العصائر الحمضية في أوعية مطلية بالرصاص أو الزنك أو الكادميوم، مما يسبب انتقالها إلى الغذاء.
– التسمم بالمبيدات: نتيجة تناول خضروات أو فواكه رُشّت بالمبيدات دون غسلٍ كافٍ، أو بسبب سوء استخدام المبيدات المنزلية.
– التسمم بالمنظفات الصناعية: نتيجة استعمال تركيزات عالية في تنظيف خطوط الإنتاج أو عدم غسلها جيدًا.
– مكسبات الطعم والرائحة والمواد الحافظة: استعمالها بنسب مفرطة يحوّلها إلى مواد سامة تُحدث اضطرابات خطيرة في أقل من ساعة.
– عوادم السيارات: ينبعث منها أول أكسيد الكربون والرصاص، وهما من أخطر الملوثات التي تسبب أمراض الجهاز العصبي والعظمي والأنيميا، كما تؤدي الأبخرة المنبعثة منها إلى الإصابة بالربو.
– الأسمدة الكيميائية: إذ تمتص النباتات العناصر السامة المتولدة عنها كالنترات والنيتريت والكادميوم، فتتراكم في الثمار والجذور، وتؤثر بدورها في صحة الإنسان والحيوان.
– مخلفات المصانع: وهي من أخطر مصادر التلوث، لما تحتويه من معادن ثقيلة كالزئبق والزرنيخ والرصاص، التي تلوّث الماء والتربة وتدمّر صحة الإنسان. وقد ثبت تلوّث أنواع من الأسماك في بعض البحار بهذه المعادن إلى درجة عدم صلاحيتها للاستهلاك البشري.
ولأن التلوث الكيميائي هو الأخطر، وجب تقليل انبعاث الغازات الصناعية وعوادم السيارات، وترشيد استخدام المبيدات والأسمدة، واعتماد البدائل الآمنة، ومنع استيراد المبيدات المحظورة عالميًّا. كما تشمل الملوثات الكيميائية الأخرى بعض المضادات الحيوية والهرمونات ومكسبات اللون والطعم التي أُثبتت علاقتها بالسرطان، ومنعتها دول كثيرة حمايةً للإنسان.
– الحرب الكيميائية وآثارها المدمرة: إذ استُخدمت مبيدات الأعشاب لأغراض عسكرية في بعض الحروب، مسببة دمارًا بيئيًّا واسعًا كما حدث في لاوس وكمبوديا، حيث أُتلفت مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وأبيدت الحياة في مناطق بأكملها.
التلوث البيئي الإشعاعي
تنتقل المواد المشعة إلى الإنسان عبر الغذاء والماء والنبات، مسببة أمراضًا خطيرة كالسرطان والتشوهات الوراثية وأمراض الدم والجلد، كما تؤدي الكوارث النووية إلى آثار تمتد لأجيال، مثل حادثة تشيرنوبل التي خلّفت عاهات خلقية وإصابات مروعة في مناطق واسعة.
خطورة التلوث على المكونات البيئية
يُعَد تلوث الهواء من أكثر القضايا البيئية إلحاحًا، إذ تتطلب معالجته جهودًا علمية وصناعية متكاملة. ويُعد تلوث مياه الأمطار مثالاً واضحًا على تدخل الإنسان، فالماء الذي أنزله الله طهورًا نقيًّا، أصبح يحمل الأكاسيد والغازات السامة المتصاعدة من المصانع والسيارات، فتُمتصّ هذه السموم في النبات وتنتقل إلى الإنسان والحيوان.
وتتجلى المخلفات الصناعية في مصانع الأغذية والكيماويات والألياف الصناعية، حيث تلوّث الأنهار بالدهون والمعادن الثقيلة كالزئبق والرصاص. كما تُحدث المفاعلات النووية تلوثًا حراريًّا وإشعاعيًّا مدمّرًا كما حدث في تشيرنوبل. أما المبيدات الحشرية فتهلك الأسماك والحيوانات، وتسرب البترول من الناقلات والمصافي فيدمّر الحياة البحرية ويقتل آلاف الكائنات الحية.
وإذا كانت الحضارة الحديثة قد أفرزت هذه المآسي البيئية دون وعي بعواقبها، فإن الإسلام سبقها برؤيته الشاملة للبيئة، إذ جعلها أمانة في يد الإنسان لا يحق له إفسادها، كما قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(الروم: 41). فما أحوج الإنسان اليوم إلى أن يعود إلى فطرته، ويستعيد وعيه بأن حفظ البيئة هو حفظ للحياة نفسها.


