الإبداع المعماري عند حسن فتحي

برزت عبقرية المهندس حسن فتحي المعمارية في ظل الاستعمار الثقافي الغربي؛ إذ ناضل خلال قرن من الزمان لينقذ ما يمكن إنقاذه من تراثنا المعماري، وكان يقول بمرارة: «كثيرون يتهمونني بالتأخر والنكوص لمجرد دعوتي إلى الحفاظ على التراث المعماري المحلي، فإذا ما تكلم أحد عن المشربية اتُّهم بالعودة إلى عصر الحريم»، ثم يتابع قائلاً: «ليس من المعقول أن نشيد بيتًا شرقيًّا في أوروبا أو بيتًا أوروبيًّا في الصحراء، فمن الخطأ نقل الأفكار المحلية من بلد إلى آخر دون احترام الواقع المحلي».

أولاً: نبذة عن حياته
ولد حسن فتحي في 23 مارس عام 1900 في مدينة الإسكندرية لأسرة ميسورة الحال، وانتقل إلى القاهرة وهو في سن الثامنة من عمره، ولم يكن له طموحات خاصة، إلا أنه كان يهوى الرسم أسوة بأخويه. التحق بمدرسة المهندسخانة في ذلك الوقت لدراسة العمارة كجزء من الهندسة المدنية، وتخرج فيها عام 1926م، ثم عمل بعد تخرجه مهندسًا في الإدارة العامة للمدارس في المجالس المحلية -المجالس البلدية في ذلك الوقت- وكان أول عمل يقوم به هو تصميم مدرسة في مدينة طلخا، وهناك كان أول احتكاك عملي بينه وبين العمارة الريفية، التي لم تكن تصلح لإيواء الإنسان على حد تعبيره. وهكذا كانت الخلفية وراء اهتمامه بعمارة الريف، أو ما كان يسميه “عمارة الفقراء”.

ومع أن الفلاح في الدلتا كان يبني مسكنه بنفسه من مواد البناء المحلية وبمعاونة أفراد عائلته، فإن حسن فتحي لم يجد فيها القيم الجمالية أو المعمارية كما وجدها بعد ذلك في عمارة النوبة، التي بهرته وكانت بداية تمسكه بما فيها من قيم حضارية وإنسانية، رغم أنها لم تكن تمثل العمارة الريفية في كل مصر. فالمجتمع النوبي الذي ظل فترة من الزمن بعيدًا عن الاحتكاكات الحضارية له فنه الخاص، كما أن له بيئته ولغته الخاصة، ومن ثم كانت له عمارته المميزة. وإذا كان لهذه العمارة انعكاساتها على بعض المناطق الريفية القريبة من أسوان أو جنوب الوادي، فإن معالمها لم تظهر في أي مكان آخر في شمال الوادي أو الدلتا.

وفي بداية حياته كُلِّف حسن فتحي بتصميم دار للمسنين في إحدى قرى محافظة المنيا، فبدأ البحث عن مدخل للعمارة الريفية، ولكن رئيسه طلب منه أن ينهج المدخل الكلاسيكي في التصميم، وأصدر له أمرًا بذلك، إلا أنه لم يعجبه هذا النهج فترك العمل واستقال عام 1930 بعد أربع سنوات قضاها في المجالس المحلية. ثم عاد إلى القاهرة، وقابل ناظر مدرسة الفنون الجميلة في ذلك الوقت وكان فرنسي الجنسية، وأبدى رغبته في العمل معه دون مقابل، فكل همه ألا يقوم بتصميم عمارة كلاسيكية في الريف، فكان رد مدير المدرسة له: «أنت الرجل الذي أريده». وهكذا بدأ عمله في التدريس في كلية الفنون الجميلة العليا بالزمالك بالقاهرة حتى عام 1946م، حين أتيحت له فرصة تصميم سكن ريفي في قرية بجوار مدينة المنصورة.

لم يتمكن حسن فتحي من تدريس العمارة الريفية في مدرسة الفنون الجميلة على مدى ست عشرة سنة قضاها بها، لأن العمارة الكلاسيكية كانت هي السائدة في المعاهد والجامعات المصرية آنذاك، إلا أنه أقام معرضين للعمارة الريفية في كل من المنصورة والفيوم. وتجدر الإشارة إلى أن سليم تكلا باشا، صاحب جريدة الأهرام في ذلك الوقت، أعجب بأفكار حسن فتحي وأعماله، حتى إنه طلب منه بعض التعديلات في منزله الخاص. كما صمم حسن فتحي المسكن الريفي لصديقه الفنان التشكيلي المعروف حامد سعيد عام 1942م، وهو المنزل الذي صممه بالأقبية والقباب في قرية المرج شمالي القاهرة، وهو نمط لم يكن معروفًا في الأبنية الريفية آنذاك. وكرر الأسلوب نفسه في شمال القاهرة في مبنى الجمعية الزراعية الملكية.

وفي عام 1946م، كُلِّف بوضع التصميم المعماري لقرية “القرنة” في الضفة الغربية لمدينة الأقصر، وذلك لإسكان أهالي القرنة القديمة التي كانت مقامة على سفح الجبل فوق ثروة أثرية كبيرة. ورأت الحكومة آنذاك هدم القرية القديمة ليتمكن علماء الآثار من الكشف عن الكنوز المدفونة تحتها. واستمر هذا المشروع حتى عام 1953م، وكانت تلك البداية الفعلية لإنجازات حسن فتحي، بل تعد أهم إنجازاته التي عُرف بها في أنحاء العالم. وقد سرد قصة هذا المشروع بنفسه في كتابه الشهير عمارة الفقراء، الذي صدر بالإنجليزية عام 1973م عن مطبعة جامعة شيكاغو، وكان قد صدر قبله بالعربية عام 1969م عن الهيئة المصرية العامة للاستعلامات بعنوان القرنة: قصة قريتين.

ترك فتحي مصر للعمل في مؤسسة “دكسيادس” باليونان عام 1959م، واستمر فيها حتى عام 1961م. ويرجع سبب مغادرته إلى شكواه من الأجهزة الحكومية التي كانت تتعامل بطريقة العقود والمقاولات، إذ فشل هذا الأسلوب في بناء مدرسة فارس بكوم إمبو التي صممها وأشرف على تنفيذها، حيث بلغت تكلفتها الفعلية 6 آلاف جنيه، بينما سجلت الوزارة في تقاريرها أن المدرسة كلفت 19 ألف جنيه! وهكذا بدأت الخلافات بينه وبين النظام الإداري السائد، وتكرر ذلك في العديد من مشروعاته التي لم يكملها احتجاجًا على الروتين.

من مؤلفاته: قصة مشربية، عمارة الفقراء، العمارة والبيئة، الطاقة الطبيعية والعمارة التقليدية: مبادئ وأمثلة من المناخ الجاف الحار.
ونال العديد من الجوائز، منها: وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى (مصر)، وجائزة أغاخان للعمارة (باكستان)، وجائزة بالزان العالمية (إيطاليا)، وجائزة المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين (بريطانيا)، وغيرها.

ثانيًا: مراحل الإبداع عند حسن فتحي
يمكن تقسيم أعمال المهندس حسن فتحي إلى خمس مراحل وفقًا لاختلاف أنماطها المعمارية:

1- المرحلة الأولى: اعتمدت على الطراز العالمي السائد آنذاك.

2- المرحلة الثانية: اتجه فيها إلى العمران التراثي المعتمد على الطين في البناء، ومن أبرز أعمالها قرية القرنة.

3- المرحلة الثالثة: شملت أعماله خلال فترة إقامته في اليونان.

4- المرحلة الرابعة: بدأت مع مشروع قرية باريس في الوادي الجديد، وشهدت تطور فكره البيئي.

5- المرحلة الخامسة: تمثلت في مشروع واحد سنة 1980 هو “دار الإسلام” في نيومكسيكو، وهي مرحلة الإنجازات والجوائز التي استمرت حتى وفاته عام 1989م.

وأهم عملين للمهندس حسن فتحي هما:

1- قرية القرنة الجديدة: تعد أساس أعماله المعمارية، بدأها عام 1945 بهدف تأمين مساكن بديلة لأهالي القرنة القديمة. اعتمد فيها على الطوب الطيني والصفائح اللبنية، وأبدع في تنظيم المخطط بما يضمن الراحة لآلاف السكان، كما استخدم لأول مرة الأسقف المقببة لإحياء التراث العربي الإسلامي الأصيل.

2- دار الإسلام: من أهم أعماله خارج مصر في أواخر السبعينيات، حيث صمم قرية دار الإسلام ونُفّذ جزء منها في ولاية نيومكسيكو بالولايات المتحدة الأمريكية. شُيِّدت بالطوب اللبن على أيدي البنائين النوبيين والمواطنين الأمريكيين الذين درّبهم حسن فتحي على أساليب البناء الطيني التقليدي، لكن المشروع لم يكتمل.

ثالثًا: أفكاره حول إصلاح الريف

تتجسد أفكار حسن فتحي حول إصلاح الريف من خلال مقدمة كتابه الشهير عمارة الفقراء، حيث يبدأ حديثه عن دعوته إلى موقف جديد لإصلاح الريف، ويكمل حديثه قائلاً: “إن مستوى المعيشة والحضارة بين فلاحي العالم الفقراء فقرًا مدقعًا، هو مما يمكن رفعه بواسطة البناء التعاوني، الذي يتطلب تناولًا جديدًا لمشاريع الإسكان الكبيرة في الريف”.

وهذا التناول فيه ما هو أكثر من الأمور التقنية البحتة التي تهم المهندس المعماري، فهناك مسائل اجتماعية وحضارية معقدة ودقيقة جدًّا، وهناك المسائل الاقتصادية، ومسألة علاقة المشروع بالحكومة، وهكذا.

وعمارة الفقراء يعالج المشكلات البيئية بمفهومها الواسع الشامل، بحيث يتمكن جميع القرّاء –مهما كانت مؤهلاتهم أو أوجه اهتماماتهم الخاصة– من استيعاب شمولية فلسفة التخطيط المعروضة. ومن هذا العرض يمكن أن نستشفّ كم كانت رغبة حسن فتحي في التغيير لمصلحة الفلاح في البيئة الريفية بخاصة، ومصلحة الإنسان بعامة، تلك المصلحة التي تتأتى من المحافظة على التراث البيئي والحضاري لهذا الإنسان، وهذا ما نادى به طيلة حياته. كما كان يعتقد دائمًا في البيئة الطبيعية وغناها بالثروات التي قد تنعكس على كل مناحي الحياة، فهي تشكل أساسًا للبيئة العمرانية التي يقطنها الفرد.

ومن أقواله المأثورة في هذا الشأن: “إن الله قد خلق في كل بيئة ما يقاوم مشكلاتها من مواد، وذكاء المعماري هو في التعامل مع المواد الموجودة تحت قدميه، لأنها المواد التي تقاوم قسوة بيئة المكان”.

ويظهر ذلك الأمر جليًّا من خلال كتابه الطاقة الطبيعية والعمارة التقليدية: مبادئ وأمثلة من المناخ الجاف الحار، إذ تجلّى اهتمامه البالغ والدقيق بعناصر البيئة الطبيعية في تصميم المباني ووضع الخطة العمرانية العامة؛ حيث أورد هذا الكتاب في جزأين رئيسين:

– في الفصل الأول يتناول تأثير المناخ على الشكل المعماري،

– أما الفصل الثاني فيتناول الديناميكا الحرارية في العمارة، ويتحدث فيه عن موضوعات درجة الحرارة والتوصيل الحراري والمقاومة الحرارية والحمل الحراري، وتأثير كلٍّ من الضغط الجوي وبخار الماء والكسب الحراري والفقدان الحراري، والقياسات المتعلقة براحة الإنسان في محيطه.
ثم جاء الفصل الثالث ليتناول بالدراسة “العمارة والراحة المحيطية”، والفصل الرابع عن “عامل الشمس والتوجيه والظل”، والفصل الخامس عن “أثر الرياح في حركة الهواء داخل المبنى”، أما الفصلان السادس والسابع فيتناولان أثر كلٍّ من الشمس والرطوبة وتأثيرهما في المعمار.

ومن أساليب فكر حسن فتحي إشراك السكان في بناء مساكنهم، مع إتاحة الفرصة أمام الفلاح للتعبير عن حاجاته واحتياجاته عند تصميم المسكن، الأمر الذي يوفر التفرد في العملية التصميمية. وكان يعارض البيروقراطية والنمطية في مشروعات الإسكان، وكان يشبّه ذلك بقوله: “إن أعظم جراح في العالم إذا أُعطي مئتي عملية لإجرائها في اليوم الواحد، فإنه بالتأكيد سوف يقضي على حياة الجميع”.

لقد كان اهتمام حسن فتحي منصبًّا على عمارة الفقراء حتى أصبح من أكبر الداعين إلى هذه الرسالة في السبعينيات والثمانينيات، فانتشرت في عدد كبير من جامعات العالم، دون الجامعات المصرية التي استمرت منعزلة عن تيار هذا الفكر! كما اقتصرت دعوته إلى عمارة الفقراء على الريف فقط، ولم تمتد هذه المبادئ إلى عمارة الفقراء في الحضر، بمشكلاتها المختلفة.

إن المتتبع للتصميمات المعمارية للمشروعات التي صممها حسن فتحي، يرى مدى التزامه بتطبيق الطرق التقليدية في البناء واستعمال الطين في أغلب الأحيان، وأنه وضع لذلك أسسًا علمية وتقنية دقيقة، كما أبرز القيم التشكيلية للعمارة التقليدية المصرية، التي لم يخرج عنها حتى ولو كان يصمم في باكستان شرقًا أو في الولايات المتحدة غربًا.


المراجع:

  • حسن فتحي: الطاقة الطبيعية والعمارة التقليدية: مبادئ وأمثلة من المناخ الجاف الحار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1988.
  • حسن فتحي: العمارة والبيئة، دار المعارف، القاهرة، سلسلة “كتابك”، العدد 67، بدون تاريخ.
  • حسن فتحي: عمارة الفقراء، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، مهرجان القراءة للجميع، القاهرة، 2001.
  • حسن فتحي: قصة مشربية، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1991.
  • عبد الباقي إبراهيم: المعماريون العرب: حسن فتحي، مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية، القاهرة، 1987.
  • عصام صفي الدين: توافر القيم الجمالية في عمارة حسن فتحي، ندوة “حسن فتحي العالمية لعمارة الفقراء”، أبحاث جمعية إحياء التراث التخطيطي والمعماري، 1993.
  • محمد ماجد خلوصي: حسن فتحي، سلسلة “مشاهير الفكر الهندسي المعماري”، دار قابس للنشر والتوزيع، بيروت، 1977.
  • يحيى الزيني: من فكر شيخ المعماريين حسن فتحي، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، القاهرة، 2003.