في عالم تتقاطع فيه التجارة مع الحياة اليومية للبشر، تخيّل عالمًا تتدفق فيه الخيرات كالأنهار، وتُنتج الأرض ثمارها لكل الأيدي الممتدة.. سوق إلهي عظيم يدعو الإنسان للتأمل والعمل، ومن ثم يبرز الكون كنموذج حي للتدبير الإلهي الذي يوفر الرزق للجميع. يقول تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ)(الذاريات:22)، داعيًا الإنسان إلى التأمل في مصادر رزقه وكيفية استغلالها، وإلى السعي المُزدان بأخلاق الصدق والعدل.
إن التجارة في القرآن الكريم -كوسيلة لتبادل الخيرات- ليست مجرد نشاط اقتصادي يتمثل في البيع والشراء فقط، بل عبادة إذا قامت على العدل والأمانة، بل وفن إنساني يجمع بين الرزق والروح، وبين الكسب والكرم. والتاجر، في هذا السياق، ليس مجرد بائع أو مشترٍ، بل هو حامل رسالة يبني بأخلاقه جسور التعايش بين الأمم، وسفير للقيم الإنسانية التي تجمع بين الناس وتؤسس للتعايش والسلام. إذن، كيف يمكن للتأمل في الكون أن يلهمنا لتطوير تجارة تعزز التعايش بين الشعوب؟ وكيف يرشد التاجر إلى أخلاق تجعل من تجارته جسرًا للوئام؟ وكيف تجلت هذه الرؤية وهذه الأخلاق في التاريخ الإسلامي؟ وما الدروس التي يمكن أن نستخلصها لتضيء دروبنا في عالم اليوم المضطرب، خاصة في مواجهة أزمات مثل جائحة كورونا؟
انظر إلى السماء حين تمطر، والأرض حين تنبت، والبحر حين يحمل السفن على ظهره.. كل شيء في الكون يعمل في انسجام يتبادل الخير دون صراع أو جشع. يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)(الملك:15). هذه الآية ليست مجرد وصف للطبيعة، بل دعوة للتأمل في نظام يعلمنا أن التجارة ليست نهبًا للموارد، بل هي فن توزيع الرزق. الرياح التي تدفع السفن التجارية، والمحاصيل التي تنتقل من يد إلى يد، كلها جزء من سوق كوني يدعو التاجر لأن يكون أمينًا على هذه الأمانة، لا مستغلًّا لها. التأمل هنا يفتح أمامنا آفاقًا: إذا كان الكون يعطي بسخاء فلماذا يبخل الإنسان؟ وإذا كان يوزع بتوازن فلماذا يحتكر التاجر؟
أخلاق التاجر في القرآن
في قلب التجارة القرآنية تقبع الأخلاق كروح لها، يقول تعالى: (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)(البقرة:275)، ليضع خطًّا فاصلاً بين التجارة النظيفة والاستغلال المحرم. كما يحذِّر من الغش في قوله: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(المطففين:1-3)، صورة حية للتاجر الذي يخون أمانته. لكن القرآن لا يكتفي بالتحذير، بل يرسم نموذجًا إيجابيًّا: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)(الأعراف:85)، دعوة للإنصاف تجعل التاجر حارسًا للعدالة.
ولقد تجسدت هذه الأخلاق في النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان قبل البعثة تاجرًا يُعرف بـ”الصادق الأمين”؛ عندما اشترك مع السيدة خديجة رضي الله عنها، لم يكن يسعى للربح وحده، بل كان يتعامل بصدق جعلها تثق به وتختاره شريكًا وزوجًا. وبعد البعثة، أسس سوق المدينة على هذه القيم، فكان يأمر التجار بإظهار عيوب بضائعهم ويقول: “من غشَّنا فليس منا” (رواه البخاري). وفي قصة مشوقة، يُروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر في أسواق المدينة ليلاً، فرأى تاجرًا يخلط الحليب بالماء، فأمر بإراقته وقال: “لا تغش المسلمين فإن الله يراك”. في العصر الأموي، كان التاجر أبو الدرداء رضي الله عنه يرفض الاحتكار، ويوزع أرباحه على الفقراء، مؤمنًا أن “الرزق من الله”، مما جعله نموذجًا للتاجر الأخلاقي.
التجارة جسر للتعايش
التجارة في الإسلام كانت دائمًا أكثر من صفقات، كانت جسرًا يعبر الحدود ويجمع الشعوب. التاجر المسلم، بأخلاقه العالية، كان يحمل رسالة حضارية. في العصر الأموي، عبرت قوافل التجارة من دمشق إلى الصين عبر طريق الحرير، لم تحمل الحرير والتوابل فقط، بل نقلت معها كتب الفقه والطب. وفي الأندلس، كان التجار المسلمون يتعاملون مع نظرائهم المسيحيين واليهود بأمانة، حتى أصبحت قرطبة مركزًا تجاريًّا عالميًّا. يُروى أن تاجرًا مسلمًا في الأندلس رفض بيع سلعة معيبة لتاجر نصراني قائلاً: “ديني يأمرني بالصدق حتى مع من يخالفني”، فأسلم ذلك التاجر متأثرًا بأخلاقه. وفي العصر العباسي، كانت أسواق بغداد تعج بالتجار من كل الأجناس، وكان “المحتسب” يراقب الأوزان والأسعار، لتكون التجارة نزيهة تجمع العرب والفرس والهنود تحت سقف واحد.
وفي عالم اليوم، تواجه التجارة تحديات مثل الاستغلال البيئي واستغلال العمالة، لكن جائحة كورونا (2020-2021م) كانت اختبارًا حقيقيًّا لأخلاق التاجر. عندما اجتاح الفيروس العالم، توقفت سلاسل التوريد، وأصبحت المعدات الطبية -مثل الكمامات وأجهزة التنفس- عملة نادرة. هنا، انقسم التجار إلى صنفين؛ صنف استغل الأزمة، وصنف استلهم أخلاق القرآن، فأصبح جزءًا من الحل.
في الأولى، شهدنا تجارًا احتكروا الكمامات ومعقمات الأيدي، فرفعوا الأسعار إلى أضعاف قيمتها الحقيقية. في الولايات المتحدة -مثلاً- سُجلت حالات بيع كمامة واحدة بـ20 دولارًا بدلاً من دولار واحد، وفي أوروبا ظهرت تقارير عن شركات جمعت ملايين الكمامات لتبيعها لاحقًا بأسعار خيالية. وبعض التجار -أعماهم الجشع- لم يزيدوا الأزمة إلا تفاقمًا، متجاهلين تحذير القرآن: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ). على النقيض من ذلك، برز تجار وشركات استلهموا أخلاق التجارة القرآنية فتصدوا للأزمة بإنسانية. في مصر -مثلاً- تبرع تجار أقمشة بمخزوناتهم لتصنيع كمامات مجانية للفقراء، مستلهمين قول النبي: “التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء” (رواه الترمذي). وفي الهند، حولت شركات صغيرة خطوط إنتاجها لصنع معقمات بأسعار رمزية، رافضة الاستغلال رغم الطلب الهائل.
لنأخذ قصة حية من الجائحة: في الأردن، كان هناك تاجر شاب، يملك متجرًا صغيرًا للمستلزمات الطبية. عندما نفدت الكمامات من السوق، رفض رفع السعر رغم العروض المغرية، وقال في لقاء تلفزيوني: “أخاف الله، وأعلم أن هذا وقت تكافل لا تكالب”، وقرر توزيع نصف مخزونه مجانًا على العائلات المحتاجة، وسرعان ما انضم إليه تجار آخرون، فتحولت مبادرته إلى شبكة محلية قللت الأزمة في منطقته. هذا التاجر لم يقرأ القرآن فحسب، بل عاشه، متأثرًا بقوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(الذاريات:19).
اقتصاديًّا، أظهرت الجائحة أن التجارة الأخلاقية ضرورة. وفي تقرير لمنظمة الصحة العالمية في 2021م، أشير إلى أن الاحتكار أدى إلى نقص حاد في المعدات في الدول الفقيرة، بينما التجارة التضامنية -كتبرعات الشركات والتجار- ساهمت في إنقاذ ملايين الأرواح. وفي الصين، حولت مصانع خطوط إنتاجها لتصنيع أجهزة تنفس بأسعار مخفضة للدول النامية. وفي أوروبا، تكاتفت شركات لتوفير لقاحات بتكلفة الإنتاج فقط. هذه الممارسات تتسق مع دعوة القرآن للاعتدال (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(الأنعام:141)، حيث رفضت هذه الشركات الربح المفرط في وقت الأزمة.
من كل ذلك نصل إلى أن التأمل القرآني في الجائحة يعلمنا دروسًا ثلاثة:
الصدق: التاجر الذي يكشف عن مخزونه ويبيعه بسعر عادل يبني ثقة طويلة الأمد، بينما الغشاش يخسر سمعته وسوقَه.
التكافل: كما كان التجار في العهد النبوي يدعمون الفقراء في المجاعات، يمكن للتاجر اليوم أن يكون جزءًا من شبكة إغاثة كما فعل الشاب الأردني.
الاستدامة: الجائحة أظهرت هشاشة سلاسل التوريد العالمية، فيدعونا القرآن لتجارة تحترم الموارد وتضمن استمراريتها كما فعل الصحابة بتجنب التكديس.
في الختام نقول: التجارة في المنظور القرآني هي مرآة لنظام الكون المتوازن، وأخلاق التاجر هي مفتاحها. من قصص النبي الصادق الأمين إلى تجار الجائحة الذين اختاروا التكافل على الجشع، نرى أن التجارة الأخلاقية ليست خيارًا، بل سبيلاً للنجاة. فلنجعل من التأمل القرآني شعلة تضيء أسواقنا نحو تجارة تجمع البشرية تحت مظلة القيم الحضارية الجامعة.
(*) كاتب وباحث مصري.