الأعجوبة الطائرة

تتحرك الذبابة في مختلف الاتجاهات؛ تهبط وترتفع وتغوص بخفة ورشاقة وحركة سريعة وحيوية، وهي قادرة على الانعطاف الحاد والدوران بزاوية قائمة 90 درجة خلال أقل من 50 ميللي ثانية، وهو ما تعجز عنه طائرة الشبح (ستيلث) المقاتلة الحديثة.

من الخصائص الموضوعة في الذبابة وتميزها عن غيرها من المخلوقات، وما يجعل الإتيان بمثلها مستحيلاً، أنها تتمتع بإدراك عالي المستوى. يبلغ وزن دماغ الذبابة واحد من مليون جزء من الجرام، وهو يعمل بأعلى كفاءة. إضافة إلى هذا الدماغ تتمتع الذبابة بجملة من الغدد، ولها ذاكرة تستمر دقيقتين.

كما أن تصنيع المضادات الحيوية عند الذباب شيء معجز حقًّا؛ فقد ثبت في التجارب أنه عند القيام برش منطقة ما -ينتشر فيها الذباب- بإحدى المواد المبيدة للحشرات، تكون النتيجة أنه يتم القضاء على غالبية الذباب، وتبقى بعض الذبابات على قيد الحياة، وذلك لاختلاف القدرة على المقاومة من ذبابة لأخرى. ولكن الشيء المذهل أنه عند القيام برش المنطقة نفسها بعد فترة من الزمن بنفس المادة المبيدة، تكون النتيجة هي القضاء على نسبة قليلة فقط من الذباب؛ وسبب هذه النتيجة غير المتوقعة هو قيام الذباب الذي بقي على قيد الحياة بتصنيع مضاد حيوي لهذه المادة المبيدة، مما يكسبه مناعة ضدها له وللأجيال التالية التي تنتج عنه.

لقد كشف العلم الحديث العديد من الخصائص التي يتمتع بها الذباب عن غيره من الحشرات، فمثلاً يوجد في أرجل الذباب كلاليب، وكذلك وسادات شفاطة تفرز مادة سائلة لزجة تساعده على لصق أقدامه بأي جسم، وتساعده -كذلك- على حفظ التوازن على الأسطح والأجسام المختلفة التي يقف عليها بصرف النظر عن درجة انحدارها أو عدم ملاءمتها؛ لأن -بحسب قانون الجاذبية- هذا الوقوف يستلزم السقوط، لكن الذبابة خلقت بنظام يجعل المستحيل ممكنًا.

تستخدم ذبابة المنزل “الشفة” من الجزء الفموي لتذوق الطعام قبل تناوله، وتملك القدرة على عكس اتجاهها بسرعة فائقة، وعلى السير في اتجاه يشكّل مع خط سيرها زاوية قائمة. أما الشيء العجيب أن جملتها العصبية (الجهاز العصبي) تشبه الجملة العصبية عند الإنسان، كما تنجب الذبابة جيلاً كاملاً كل عشرة أيام.

عيون الذباب

للذباب عيون معقدة وكبيرة جدًّا تحتوي على ستة آلاف بنية عينية سداسية يطلق عليها “العوينات”، وتأخذ كل من هذه العوينات منحى مختلفًا؛ في الأمام، في الخلف، في الوسط، فوق وعلى جميع الجوانب، أيْ يمكن أن ترى الذبابة كل ما حولها من جميع الجهات.. فهي أشبه ما يكون برادار كاشف لرؤية المحيط الذي تتواجد فيه، يمكن أن تشعر بكل شيء في حقل رؤيا زاويتها (360 درجة)، كما تتصل ثمانية أعصاب مستقبلة للضوء، بكل واحدة من هذه العوينات، وبهذا يكون مجموع الخلايا الحساسة في العين حوالي ٤٨ ألف عصب، يمكنها أن تكتشف ١٠٠ صورة في الثانية. وهذا يعني أن عين الذبابة تعمل كجهاز بصري يستقبل ويحلل بشكل دقيق.

التعقيد المذهل في خلق الذبابة

تشغل عين الذبابة معظم الرأس، لتتمكن من الهرب والمناورة والاستكشاف. في بدايات القرن العشرين حاول العلماء صنع خلية حية؛ حيث لجؤوا إلى الشريط الوراثي الموجود في الذباب، باعتباره أفضل نموذج للتقليد. وفي أحد المؤتمرات وبعد اكتشاف أسرار مادة الحمض النووي الذي يحمل سر الحياة (DNA)، اجتمع عدد كبير من العلماء، ليعترفوا بعجزهم في صنع خلية حية أو حتى جزيء (DNA)، قابل للتكاثر كما في الخلايا الحية.

الجهاز الهضمي للذبابة

لا يوجد للذباب جهاز هضمي كما هو الحال بالنسبة لكافة المخلوقات، لعدم هضمه الطعام داخل جسمه، فقد استبدل الله الجهاز الهضمي بغدد تفرز مادة كيماوية على الطعام الذي يريد الذباب أن يأكله، وبمجرد أن تقع تلك المادة على الطعام الصلب فيتحول -في أقل من ثانية واحدة- إلى سائل يمتصه الذباب ليتغذى.

طيران الذباب

وهب الله سبحانه وتعالى الذبابَ قدرة فائقة على الطيران قلَّما توجد في طيران المخلوقات الأخرى، حيث تتمثل هذه القدرة في ترتيبات معينة يتخذها الذباب قبل أن يطير، منها تفقُّده ببالغ الدقة الأعضاءَ التي يستخدمها في الطيران، ثم بعد ذلك يأخذ وضعية التأهب للطيران، وذلك بعد أن يقوم بتعديل وضع التوازن في الجهة الأمامية من جسمه. ومن القدرة العجيبة التي يتمتع بها الذباب قيامه بحساب زاوية الإقلاع معتمدًا على عنصرين اثنين، هما اتجاه الريح وسرعة الضوء. ويستخدم في تلك العملية المعقدة حساسات موجودة على قرون الاستشعار، وهي بمثابة حاسوب دقيق جدًّا، ثم بعد ذلك يطير وقد اتخذ جميع إجراءات السلامة في طيرانه. تلك الإجراءات لا تأخذ من وقته غير جزء واحد في المائة من الثانية.

خط سير الذباب في الجو

الذباب مهندس بارع في طيرانه. فإنه يسلك أثناء طيرانه مسارًا متعرجًا في الهواء بطريقة خارقة، كما أنه يستطيع الإقلاع عموديًّا مثل طائرة الهليكوبتر، أو في اتجاه أفقي كما تفعل الطائرات النفاثة.

وهناك حساسات متواجدة تحت أجنحة الذبابة ورأسها، مهمتها نقل المعلومات إلى الدماغ وإبلاغ الأجنحة بالحوادث الطارئة؛ فإذا صادفت الحشرة تيارًا هوائيًّا جديدًا أثناء طيرانها، تقوم هذه الحساسات بنقل المعلومات الجديدة في الحال إلى الدماغ، لتبدأ العضلات بتوجيه الأجنحة بالاتجاه الجديد، وبهذه الطريقة تتمكن الذبابة من الكشف عن وجود أي حشرة جديدة، بتوليد تيار هوائي إضافي، والهرب إلى مكان آمن في الوقت المناسب. تُحرك الذبابة جناحيها مئات المرات في الثانية، وتكون الطاقة المستهلكة في الطيران أكثر بمئة مرة من الطاقة المستهلكة أثناء الراحة.

من هنا ندرك أن الذباب مخلوق قوي جدًّا؛ لأن الإنسان يمكنه أن يستهلك طاقته القصوى في الأوقات الصعبة (الطوارئ)، والتي تصل إلى عشرة أضعاف طاقته المستهلكة في أعماله العادية فقط. أضف إلى ذلك، أن الإنسان يمكنه أن يستمر في صرف هذه الطاقة لبضع دقائق فقط كحد أعلى، أما الذبابة يمكنها أن تستمر على هذه الوتيرة لمدة نصف ساعة، كما يمكنها أن تسافر بهذه الطاقة مسافة ميل وبالسرعة نفسها.

الذباب في القرآن والسنة

ذُكر الذباب في القرآن الكريم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(الحج:73). ولنعلم أن وضع الذباب في هذا المثَل ليس موضع تحقير أو تصغير له؛ لأن المراد تحقير الذين يُدعَون من دون الله تعالى، وتحقير من يَدعُونهم، ويلتمسون النفع والخير عندهم، وبيان ضعفهم وعجزهم عن خلْق ذباب واحد رغم اجتماعهم له، وعن استنقاذ ما يسلبهم الذباب من أشياء رغم تفاهتها.

ويأتي العلم اليوم ليكشف هذه الحقيقة فيقول: إن الذبابة تمتلك خاصية تحليل الطعام خارج جسمها. فالذبابة تمد فمها من أسفل رأسها لأخذ الطعام، مكونة بذلك أنبوبًا لامتصاص الطعام، وتفرز إنزيمًا ليمكنها -كما ذكرنا سابقًا- من تحليل الطعام وتحويله إلى مادة سائلة لمساعدتها على امتصاصه خلال الأنبوب. وهذا يعني أنه لو فُرض أخذ الذبابة واستخراج ما بباطنها أو فمها، فإنه لن يكون نفس ما أخذته، بل هو شيء آخر ومركبات أخرى متحللة. وبهذا تظل الحقيقة القرآنية ناصعة دالة على إعجاز هذا القرآن، فما أخذه الذباب لا يمكن لأحد استنقاذه منه على نفس هيئته، بل متغيرًا متحللاً.

عجز الإنسان عن خلق ذبابة

وجد العلماء أن تركيب الذباب معقد جدًّا، ويستخدم تقنيات معقدة في طيرانه وحياته، ولذلك فهم يعترفون اليوم أنه ليس باستطاعتهم حتى تقليد الذباب في طيرانه المتطور على الرغم من التطور التكنولوجي. ويمكن أن نقول إن عدد الأبحاث التي ألفت حول الذباب يبلغ أكثر من عشرة آلاف بحث، ويقول العلماء: إننا لا نزال نجهل الكثير عن هذا المخلوق العجيب.

كانت هناك محاولات عديدة لتقليد الذبابة، ومع ذلك فإنها عجزت عن الوصول إلى المستوى الراقي والمعقد الموجود في الذبابة. كان البروفيسور “رونالد فيرينغ” أستاذ الهندسة الإلكترونية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، طموحًا للغاية حينما أخذ على عاتقه تطوير وإنتاج ذبابة آلية تعمل بالريموت، ناعمة وصغيرة ورشيقة الحركة وقادرة على المناورة، للاستفادة منها في عمليات الاستطلاع والاستكشاف والبحث والإنقاذ.. ومن خلال ما قام به من مراقبة وبحث، تبين لـ”فيرينغ” أن جناحي الذبابة الحقيقية يخفقان 150 مرة في الثانية، وتتحرك في مختلف الاتجاهات، وتهبط وترتفع وتغوص بخفة ورشاقة وحركة سريعة وحيوية مذهلة، وأنها قادرة على الانعطاف الحاد والدوران بزاوية قائمة 90 درجة خلال أقل من 50 ميلي ثانية، وهو ما تعجز عنه طائرة الشبح (ستيلث) المقاتلة الحديثة. واجه “فيرينغ” صعوبات وتحديات حقيقية ومعقدة في تصنيع وتحضير المكونات المتناهية الدقة والصغر لذبابته الآلية باستخدام أشعة الليزر في الهندسة التقنية والميكانيكا الجزئية الدقيقة، وجهاز سريع لتصميم وإنتاج النماذج الأولية، بحيث يسمح له بالقطع والوصل وترتيب الأجزاء على الكمبيوتر، والقيام بعمليات الفصل والوصل وإعادة الترتيب والتنظيم تحت المجهر.

وفي النهاية كانت هذه المحاولة -التي تعد من أفضل المحاولات- بعيدة عن الإبداع الموجود في الذبابة الحقيقية، واقتصرت هذه المحاولة على تقليد الأجزاء ذات الصلة الأساسية بقدراتها على الطيران والحركة والمناورة.

الذباب في السنة

أما الأحاديث النبوية فقد تعرضت لحقيقة أخرى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: “إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء” (رواه البخاري).

قال الخطابي، في “فتح الباري” لابن حجر: “تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له، فقال كيف يجتمع الشفاء والداء في جناحي الذباب، وكيف يعلم ذلك من نفسه حتى يقدم جناح الداء وما ألجأه إلى ذلك؟ قال وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، فإن كثيرًا من الحيوانات جمعت الصفات المتضادة، وقد ألف الله بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان، وأن الذي ألهم النحلة اتخاذ البيت العجيب الصنعة للتعسيل فيه، وألهم النملة أن تدخر قوتها أوان حاجتها، وأن تكسر الحبة نصفين لئلا تستنبت، لقادر على إلهام الذبابة أن تقدم جناحًا وتؤخر آخر”.

وبعد رحلة من الدراسات العلمية الطويلة التي انصبت على الذباب، تفاجئنا البحوث العلمية الحديثة بمعلومات تتطابق مع ما أخبر به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فإذا بهم يكتشفون أن الذباب يحمل مئات الملايين من الجراثيم، وفي نفس الوقت يحمل البكتريوفاج التي تقتل هذه الجراثيم وتبيدها، وفي طيات هذه الأجنحة أنواع عديدة من المضادات النافعة والمقاومة للعديد من الأمراض.

(*) استشاري طب وجراحة العيون / مصر.