تكامل الفقه والتربية في صناعة الوعي

نحو جيل يجمع بين بصيرة الشريعة وحكمة التربية

شهدت الأمة الإسلامية عبر تاريخها نماذج متكاملة من العلماء الذين جمعوا بين فقه النصوص وفقه النفوس، فكانوا فقهاءً يربّون، ومربين يفقهون، استطاعوا أن يقودوا الأمة بروح ربانية ونظرة شمولية متوازنة. غير أن واقعنا المعاصر يعاني من فجوة واضحة بين العلم الشرعي الذي يوفر البوصلة والميزان، وبين العلوم الإنسانية والاجتماعية والإدارية التي تمنح أدوات فهم الإنسان والمجتمع وتنظيم شؤونه. ونتيجة لذلك ظهر نوعان ناقصان:

1- فقيه تقليدي يحسن ضبط الأحكام، لكنه لا يملك القدرة على تنزيلها في واقع الناس بأسلوب مؤثر أو بلغة تربوية.

2- مربٍّ أو متخصص في العلوم الإنسانية يمتلك أدوات الإدارة والتأثير، لكنه يفتقر إلى المرجعية الشرعية، مما يجعل جهوده عرضة للخلل أو الانحراف.

إن الحاجة اليوم ماسة إلى صياغة النموذج الثالث: الفقيه المربي والمربي الفقيه؛ الذي يوحد بين الهداية الشرعية والوعي الإنساني، ليقود مشروعًا حضاريًّا متوازنًا.

أولاً: الفقيه المربي – من النص إلى النفس

الفقه في أصله ليس مجرد معرفة بالأحكام، بل هو بصيرة في الدين وفهم شامل لمراد الله في واقع الإنسان. وقد أشار النبي ﷺ في حديثه: «من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (رواه البخاري ومسلم).

لكنّ الفقه في صورته التاريخية المتأخرة انغلق عند بعض الفقهاء في دائرة “فتاوى العبادات والمعاملات” دون نظرٍ إلى “تربية القلوب وصناعة النفوس”. الإمام الغزالي – مثلاً – انتقد هذا القصور في إحياء علوم الدين قائلاً: “رأيتُ الفقهاء قد اقتصروا على ظاهر من العلم، وتركوا علم الآخرة، وهو علم أحوال القلوب”.

ابن القيم بدوره قرر أن العلم بلا تربية يظل ناقصًا، فقال: “العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة، ليس بالتمويه، ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه”. وهو يؤكد أن الفقيه الحق هو الذي يوصل العلم إلى قلوب الناس، فيصير العلم هاديًا ومربيًا.

وعليه؛ فالفقيه المربي ليس هو الذي يقتصر على بيان الحكم، بل هو الذي يراعي أثر الحكم في السلوك والوجدان، ويعرف كيف يخاطب النفوس، ويستعين بالعلوم التربوية والنفسية والاجتماعية ليجعل الفقه قوة بناء لا مجرد محفوظات.

ثانيًا: المربي الفقيه.. من النفس إلى النص

على الجانب الآخر، لا يقل خطرًا أن يتصدى للتربية مربون أو مثقفون بلا خلفية شرعية متينة. فالمربي إذا فقد الميزان الشرعي صار أسيرًا لمناهج نفسية واجتماعية قد تنجح مؤقتًا في تحسين سلوك، لكنها قد تفشل في توجيهه نحو الغاية الكبرى: العبودية لله.

يقول سعيد النورسي: “التربية بغير الإيمان تُخرج إنسانًا مهذّب الصورة، لكنه خواء في الباطن، سريع الانهيار عند الأزمات”.

وكثيرًا ما نجد نماذج من المدارس التربوية الغربية تنجح في ضبط العواطف أو إدارة الوقت أو تعزيز الثقة بالنفس، لكنها في غياب الفقه الشرعي قد تدفع إلى الفردانية المفرطة، أو إلى التحرر من الضوابط الأخلاقية.

ولذلك، فالمربي الفقيه هو الذي يجعل العلوم الإنسانية خادمة للشريعة، يضعها في إطار من الحكمة الشرعية، فيستعمل تقنيات التربية والإدارة والتحفيز في ضوء مقاصد الشريعة، فلا ينحرف ولا يضل.

ثالثًا: التكامل المنهجي بين الفقه والتربية

قال الإمام الشافعي: “من تعلم القرآن عظم قدره، ومن تعلم الفقه نبل مقداره، ومن تعلم العربية رقّ طبعه، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه”.

هذا النص الشافعي يبين أن الكمال لا يتحقق بعلم واحد، بل بجمع العلوم التي تبني العقل والروح والسلوك.

ابن تيمية بدوره أكد هذا المعنى حين قال: “الولاية لا تتم إلا بالقدرة مع الأمانة، فالأمانة في الدين والقدرة في تدبير الدنيا”. وهذا أصل جامع لمفهوم “الفقيه المربي والمربي الفقيه”، إذ إن الأمانة تمثل الفقه الشرعي، والقدرة تمثل العلوم الإنسانية والإدارية.

ومن ثم فالتكامل المطلوب يقوم على ثلاثة أركان:

1- فقه النصوص: معرفة الأحكام الشرعية ومقاصدها.

2- فقه النفوس: فهم طبيعة الإنسان واحتياجاته.

3- فقه الواقع: إدراك السياق الاجتماعي والإداري والسياسي.

رابعًا: نماذج عملية

– ابن تيمية: جمع بين عمق الفقه ونظرته الاجتماعية والسياسية، وكتب في السياسة الشرعية ما يعدّ أساسًا في علم الإدارة الإسلامية.

– ابن القيم: لم يقتصر على الأحكام، بل صاغ الفقه بلغة نفسية وروحية في مدارج السالكين وزاد المعاد.

– الغزالي: أرسى منهجًا إصلاحيًّا في إحياء علوم الدين يجمع بين الشريعة والتزكية.

– سعيد النورسي: بنى مشروعه التربوي على الربط بين الإيمان والعلم والتربية، رافضًا الفصل بينها.

– فريد الأنصاري: دعا إلى “فقه التدين” الذي يمزج بين الفقه الشرعي والتربية القرآنية.

– عبد الكريم بكار: أبرز في كتبه أهمية أن تكون العلوم التربوية والاجتماعية تحت مرجعية شرعية، وإلا صارت خطرة على هوية الأمة.

خامسًا: المعوقات

1- الثنائية الفكرية: النظر إلى الفقه والعلوم الإنسانية كمسارين متوازيين لا يلتقيان.

2- ضعف المناهج التعليمية: حيث يتم تدريس الفقه بمعزل عن علوم النفس والاجتماع، والعكس صحيح.

3- سطحية التلقي: اعتماد بعض المربين على مناهج غربية دون تمحيص شرعي، واعتماد بعض الفقهاء على محفوظات دون وعي واقعي.

4- غياب المؤسسات الرائدة، التي ترعى هذا التكامل وتُخرج علماء ومربين متوازنين.

سادسًا: نحو مشروع حضاري

المطلوب اليوم بناء مشروع علمي وتربوي يخرّج جيلاً من الفقهاء المربين والمربين الفقهاء، عبر:

– مناهج تكاملية في الجامعات والمعاهد، تجمع بين الفقه والتربية والإدارة.

– برامج إعداد للدعاة والمربين على أسس شرعية وإنسانية معًا.

– إحياء النموذج النبوي؛ فالأنبياء كانوا فقهاء ومربين في آن، هادين في الدين ومصلحين في الدنيا.

الخاتمة

إن مشروع “الفقيه المربي والمربي الفقيه” ليس ترفًا معرفيًّا، بل ضرورة حضارية لإعادة الأمة إلى مسارها الرباني. فالأنبياء لم يكونوا مجرد فقهاء نصوص، ولا مجرد مربين بلا شريعة، بل كانوا هادين إلى الحق، مصلحين للنفوس، مدبرين لأمر المجتمع.

وإذا كان الفقه هو البضاعة الثمينة، فإن العلوم الإنسانية هي المركب الذي يوصلها إلى الناس بسلام. وإذا كانت التربية هي المحرّك، فإن الفقه هو الميزان الذي يضبط مسارها. وبذلك يكتمل البناء، ويُستعاد التوازن، وتُصاغ الشخصية الإسلامية القادرة على صناعة النصر والعزة.

الهوامش

– البخاري، صحيح البخاري، كتاب العلم، حديث رقم 71.
– الغزالي، إحياء علوم الدين، ج1، ص23.
– ابن القيم، إعلام الموقعين، ج1، ص50.
– سعيد النورسي، اللمعات، ص112.
– البيهقي، مناقب الشافعي، ج2، ص175.
– ابن تيمية، الفتاوى الكبرى، ج2، ص252.