الإسلام وفتح القلوب

من أعظم ما تميزت به رسالة الإسلام أنها لم تقم على سفك الدماء ولا على إذلال الشعوب، وإنما قامت على الهداية وإخراج الناس من الظلمات إلى النور. وقد فهم المسلمون الأوائل هذا المبدأ العظيم، فساروا في الأرض دعاة للحق، فكانوا يفتحون القلوب قبل أن تفتح القلاع، ويقيمون العدل ويتعاملون بالصدق؛ ولهذا أحبّ الناس الإسلام فدخلوا فيه أفواجًا لا قهرًا ولا إكراهًا، وإنما اقتناعًا بما رأوا من حسن المعاملة وعدل التشريع ورقي الأخلاق.

لكن هناك من يسيء فهم كلمة “الفتح” في التاريخ الإسلامي؛ فالبعض يربطها مباشرة بالغزو العسكري وكأن الفتح لا يكون إلا باقتحام المدن، لكن الحقيقة أن الفتح في جوهره يعني إزالة الحواجز بين الناس وبين معرفة الحق. فقد جاء الإسلام ليكون رحمة للعالمين لا ليكون سوطًا على ظهورهم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾. وهذه الرحمة لا تتحقق إلا بهداية القلوب؛ ولهذا كان النبي ﷺ يقول: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعم»؛ أي إن هداية قلب واحد أعظم من أعظم المكاسب الدنيوية. وهذا الفهم العميق سرى في نفوس المسلمين الأوائل، فكان مقصدهم الأول الهداية لا السيطرة، والدعوة لا القهر.

فتح القلوب قبل القلاع

ومن أبرز الأمثلة على الفتح القلبي الذي صنعه الإسلام ما حدث في إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية اليوم من حيث عدد السكان. لم تطأ أرضها جيوش المسلمين ولم يُرفع فيها سيف باسم الفتح، بل دخلها الإسلام عن طريق التجار المسلمين الذين وفدوا إليها منذ القرن الثالث عشر الميلادي. هؤلاء التجار كانوا قدوةً في الصدق والأمانة، لا يغشّون ولا يظلمون، يوفون بالكيل والميزان، ويحفظون العهد مع شركائهم وزبائنهم. فانبهر الناس بأخلاقهم قبل أن يسمعوا بدينهم، وأدركوا أن وراء هذه المعاملة الرفيعة عقيدة راسخة وتشريعًا قويمًا، فسألوا عن دين هؤلاء التجار، فشرحوا لهم مبادئ الإسلام ببساطة وصفاء. شيئًا فشيئًا اعتنقت القبائل المحلية الإسلام، ثم تحوّل إلى دين غالب في الأرخبيل الإندونيسي، حتى صار اليوم يضم أكثر من مئتي مليون مسلم. كل ذلك تحقق بلا سيف ولا جيوش، وإنما بأمانة التجار وعدالتهم وحسن معاملتهم.

وكذلك الحال في كثير من دول إفريقيا جنوب الصحراء، فقد دخل الإسلام إليها عبر قوافل التجارة الصحراوية التي كانت تربط شمال إفريقيا ببلاد السودان الغربي مثل مالي والنيجر ونيجيريا. لم يحمل أولئك التجار معهم جيوشًا ولا قلاعًا، وإنما حملوا القرآن وسيرتهم العطرة، فكانوا يعقدون الصفقات مع أهل البلاد بالعدل، ويجتنبون الغش والاحتكار، ويقضون بين الناس بما علموا من أحكام الإسلام. ومع الزمن وجد الناس فيهم نموذجًا مختلفًا للتعامل، فاعتنقوا الإسلام عن قناعة، حتى نشأت ممالك إسلامية عظيمة مثل مملكة مالي في عهد “مانسا موسى” التي بلغت ذروة القوة والثراء، وكان أساسها الإسلام لا بالفرض بالقوة، بل بالقبول الشعبي العام.

وفي شبه القارة الهندية أيضًا لم يكن الإسلام دائمًا نتيجة الفتوحات العسكرية، بل دخل إلى مناطق واسعة منها عن طريق الدعاة الذين جابوا القرى والمدن، وكانوا يتميزون بالزهد والرحمة والتسامح. فاقتربت منهم الشعوب الهندية بحب ورأت فيهم نموذجًا إنسانيًّا راقيًا. وبالمثل في ماليزيا وبروناي والفلبين، فقد كان للتجار والدعاة دور محوري في تعريف الناس بالإسلام، حيث كانوا يعيشون بين الناس حياة عادية، لكنهم يترفعون عن الكذب والخيانة، ويُحسنون الجوار، ويقيمون العدل في تعاملاتهم، فترك ذلك أثرًا عميقًا في قلوب الشعوب.

رسالة الإسلام الخالدة

ولو تأملنا هذه الأمثلة لوجدنا أن الخيط الجامع بينها هو الأخلاق والعدل؛ فالناس بطبيعتهم يكرهون الظلم ويعظمون العدل، فإذا جاءتهم رسالة ترفع عنهم الظلم وتمنحهم الأمن والطمأنينة فإنهم يقبلونها بقلوب مفتوحة. ومن أعظم ما جذب الشعوب إلى الإسلام أيضًا أنه لم يأتِ ليهدم ثقافاتهم أو يقهر عاداتهم، بل جاء ليحررهم من العبودية للبشر ومن استغلال الكهنة والسلاطين، فجعل الناس سواسية أمام الله، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. هذا المبدأ كان ثوريًّا في عصور كانت المجتمعات فيها قائمة على الطبقات والتمييز العنصري؛ ولذلك وجد الناس في الإسلام خلاصًا من قيود الاستبداد، فدخلوا فيه وهم يشعرون بكرامتهم الإنسانية مصونة.

اليوم نحن أحوج ما نكون إلى استلهام هذا الدرس التاريخي، فإن الفتح الحقيقي لا يكون بالقوة العسكرية ولا بالسيطرة الاقتصادية، وإنما بفتح القلوب بالقدوة الحسنة. فالعالم ينظر إلينا اليوم لا بما نقول وإنما بما نفعل. فإذا تجسدت فينا قيم الإسلام من عدل ورحمة وصدق وأمانة، أحبّ الناس ديننا واعتنقوه عن طواعية. أما إذا خالف سلوكنا مبادئ ديننا فإننا نكون قد أغلقنا القلوب بأنفسنا وضيّعنا الرسالة التي حملها أسلافنا إلى العالمين.

إن رسالة الإسلام خالدة لأنها رسالة هداية لا إكراه، ورحمة لا ظلم، وعدل لا طغيان. ولنكن دعاةً بأخلاقنا قبل أقوالنا، وبأفعالنا قبل شعاراتنا؛ ففتح القلوب هو الفتح الأبقى والأعظم، وهو السبيل الحقيقي لنهضة الأمة من جديد.