فقه القلوب: بين صلاح الباطن واستقامة الظاهر
قال الله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾(الحج: 46).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (رواه البخاري).
يشير النصان القرآني والنبوي إلى مركزية القلب في بناء الإنسان عقائديًّا وأخلاقيًّا وسلوكيًّا؛ إذ إن “فقه القلوب” هو الأساس الذي تنبثق منه استقامة الظاهر وصحة الأعمال، فلا يتحقق صلاح الجسد ولا استقامة السلوك إلا بسلامة الباطن ونقائه.
ومن ثمّ، فإن الإشكاليات التي يعانيها المجتمع المسلم من ضعف أخلاقي أو فساد مالي ومعنوي، أو انحراف سلوكي، سببها فساد القلب. بل إن كل ذلك يحدث رغم كثافة أداء العبادات، ويمكن ردّه في جوهره إلى هذا الانفصام بين العبادة كشكل ظاهري ومعناها التزكوي والأخلاقي العميق.
إن الاكتفاء بالممارسات الشعائرية بمعزلٍ عن مقاصدها التربوية يُفضي إلى انفصال خطير بين الدين كحقيقة روحية ومنظومة قيمية، وبين التدين كمظهر خارجي.
والمسلم الحق هو الذي يدرك أن العبادة ليست مجرد طقوس مكرورة، بل آليةٌ لإنتاج قلب نقيٍّ يترفّع عن الكذب، ويأبى شهادة الزور ولو لصالح رئيس العمل أو صاحب سلطة عظيمة، ويرفض النفاق، ويبتعد عن التربّح بالحرام تحت أي ذريعة مزعومة، أو حجة تسوقها النفس الضعيفة صاحبة القلب المريض.
ذلك أن العبادة التي لا تثمر سلوكًا مستقيمًا لا تكتفي بإفساد التدين الفردي لصاحبها، بل تسهم في تشويه صورة الدين ذاته عند المسلمين وغير المسلمين على السواء، أو تُضعف التمسك بثوابته، أو تُحدث التشكك لدى ضعاف الوعي. ويحدث هذا عندما يتجلى التناقض الصارخ بين ظاهر العبادة وجوهرها القيمي والأخلاقي.
هكذا يكون صاحب العبادات الكثيرة –في بعض الأحيان– فتنة للذين سعوا إلى الآخرة، إن كان لا يتحرى الصدق والإخلاص والأمانة وحسن المعاملة، فهو يفسد العبادة بتشويه معناها بينما يعتقد أنه يحسن صنعًا. وربما يظن أنها سبيله للجنة بعدما أكل مال هذا أو تلاعب بمصير ذلك أو صنع مؤامرة وتحالف فيها مع ذاك.
بينما فقه المعاملات مقدم على فقه العبادات، بل وحتى فريضة الحج فإنها لا تغفر ما كان بين العبد والآخرين أو مع الهيئات العامة والخاصة كالمال العام. ولكن وللأسف الشديد فإن الغالبية من المسلمين تعتقد أن الحج يغفر كل شيء، فتراهن عليه وتتمادى في الباطل، وهي لا تعلم أن الحج يغفر ما بين العبد وربه، أما حقوق العباد والمال العام وغيرها فليست داخلة في ذلك.
ومن أجل مزيد من توضيح كيف يكون ذلك القلب، أجدني أعود إلى مطالعة الكتاب الشيق المعنون بـ “الخلاصة في فقه القلوب” للباحث علي بن نايف الشحود، الصادر عن وزارة الإعلام السورية عام 2007م، والذي يعد مرجعًا جامعًا لعلوم القلب في المنظور الإسلامي، حيث يجمع بين النقل الشرعي من القرآن والسنة والتأصيل العلمي والتربوي.
أبرز محاور الكتاب:
– ماهية القلب وخلقه: يُعرِّف الكتاب القلب تعريفًا مزدوجًا؛ فهو العضو الصنوبري في الصدر، وهو أيضًا “لطيفة ربانية روحانية” تمثل حقيقة الإنسان ومكمن إدراكه ومعرفته، وهو محل نظر الله تعالى، والعضو الذي إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد كله.
– منزلة القلب وأهميته: القلب مركز الإيمان والتوحيد، ومحل التقوى والخشية، وقد كرّمه الله بعشر كرامات: الحياة، الشفاء، الطهارة، الهداية، ثبوت الإيمان، السكينة، الألفة، الطمأنينة، المحبة، والزينة والحفظ من السوء.
أقسام القلوب:
1- القلب السليم: الذي سلم من الشرك والبدع والشهوات والشبهات.
2- القلب الميت: الذي غلبت عليه الشهوات والغفلة.
3- القلب المريض: الذي يجتمع فيه الإيمان والضعف، ويتأرجح بين الخير والشر.
غذاء القلوب وأعمالها: غذاء مادي محسوس، وغذاء روحي يتمثل في ذكر الله، وتدبر القرآن، والعبادة، والمعرفة. وأعمال القلوب (الإخلاص، التوكل، المحبة) هي أساس أعمال الجوارح.
أمراض القلوب وعلاجها: تنقسم إلى مرض الشبهات (الجهل والضلال)، ومرض الشهوات (الانحراف السلوكي والأخلاقي). ومن أعظم مفسدات القلب: كثرة المخالطة، التمني، التعلق بغير الله، كثرة الأكل، وكثرة النوم. وعلاجها يكون بالتوبة، والذكر، وطلب العلم، ومجاهدة النفس.
إن القلب السليم هو القلب الذي سلم من الشرك والجهل والكبر والغفلة وحب الدنيا وسيئ الأخلاق، وهو القلب الذي ينجو به العبد يوم القيامة: ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾(الشعراء: 88-89).
فصلاح القلب هو مفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، وهو الضمانة لاستقامة السلوك، وهو الشرط الحقيقي لقبول العبادات. ومن هنا كانت العناية بالقلوب أولى من كثرة الطقوس والشعائر إذا انفصلت عن معانيها التربوية العميقة.
صفات القلب السليم
القلب السليم هو القلب الذي سلِم من الشرك والجهل والكبر والغفلة وحب الدنيا وسوء الأخلاق، وهو القلب الذي ينجو به العبد يوم القيامة، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
السكينة والطمأنينة
السكينة هي وقار وسكون ينزله الله في قلوب المؤمنين في أوقات الشدة، بينما الطمأنينة هي سكون القلب الدائم بذكر الله. وهما من أعظم نعم الله على عباده المؤمنين.
الخشوع والحياء
الخشوع هو ذلّ القلب وخضوعه بين يدي الله، وهو أساس العبادة وروحها. أمّا الحياء فهو شعبة من شعب الإيمان، يمنع من القبائح ويحث على الفضائل، وهو من صفات النفوس الشريفة.
سرور القلب وفرحه
أعظم سرور للقلب هو فرحه بالله وبرسوله ودينه، وهو فرح نابع من المحبة واليقين، لا من المتع الدنيوية الزائلة التي سرعان ما تنقضي.
طريق صلاح القلب
يؤكد الكتاب أن صلاح القلب هو أساس السعادة في الدنيا والآخرة، وأنّه لا يتحقق إلا بالإقبال على الله، وذكره، وتدبر القرآن، ومجاهدة النفس، واجتناب مفسدات القلب.
ختامًا
القلب هو محور العبد ومركز صلاحه أو فساده، وغذاؤه هو الإيمان والذكر والعلم النافع، وأمراضه تنشأ من الغفلة والشهوات والشبهات. وعلاجه يكون بالتوبة والاستغفار والرجوع إلى الله. غير أن هذا لا يحدث إلا إذا أدرك المسلم أهمية الحرص على القلب السليم، الذي ينجو به العبد يوم القيامة.
هذا ما تناوله الكتاب الواقع في (159 صفحة) وتتجاوز كلماته (33 ألف كلمة)، والذي يعدّ دليلاً عمليًّا وروحيًّا لكل من يريد أن يعمّر قلبه بالإيمان، ويجعل حياته كلها لله تعالى.
وهذا ما نرجوه من أجل سلامة المعاملات، والقضاء على الوساطة والمجاملة والشللية والفساد، وتزكية النفس عن التربح على حساب المال العام، أو تحقيق المنافع الشخصية على حساب الصالح العام. ولنتذكّر جميعًا أنّ السنوات تمضي، وأن خراب الأوطان يحدث بفعل أفراد. فكل منّا راعٍ، وكل مسؤول عن رعيّته.