اللغة العربية ومنزلتها بين اللغات المعاصرة

إن اللغة العربية، دون سائر اللغات الإنسانية، تذخر برصيد وافر من المفردات، وتتسع إمكاناتها للتعبير عن المفاهيم المتجددة من خلال آليات ذكية مثل الاشتقاق والنحت لصياغة مفردات جديدة، أما اللغات الأخرى فهي ذات رصيد محدود من المفردات، وتقل بها إمكانية الاشتقاق والنحت، مما يجعلها تعتمد كليًّا على الاقتراض من اللغات الأخرى.

اللغة – كما يقرر أكثر علمائها – لا تقتصر وظيفتها على التفاهم بين الأفراد، وإنما تتجاوز ذلك إلى كونها الأداة التي يتعلم ويفكر بها الإنسان، فهي تقود عقله وتوجهه، وبها يستدل على السلوك القويم مع الآخرين، وهي – فضلاً عن ذلك – تحفظ التراث الثقافي للمجتمعات؛ فهي إذن منظمة العلاقات الاجتماعية، ووسيلة التعامل والتعاون بين أفراد المجتمع، وأهم أدوات الحفاظ على كيانه. ويتبع ذلك أنها العامل الأول في انتشار الثقافة وتداولها في المجتمعات المتحضرة، وأنها من أهم مقومات الحضارة الإنسانية.

ومن الجلي الذي لا يحتاج إلى تبيان أن تعلم اللغات القديمة والحديثة يمثل ضرورة قومية على طريق النهضة المنشودة، فسواء حددنا مسارنا ناحية الشرق لنحيي قديمنا ونؤصل تراثنا، أو اتجهنا إلى الغرب لنأخذ منه وسائل التقدم وأسباب الرخاء، فإنه – في كلتا الحالتين – لا مناص من الاستعانة باللغات الأخرى.

وسط الأحداث والتفاعلات العالمية بين شد وجذب، وتقدم وتخلف، دخلت اللغات بؤر الصراع السياسي من أجل سيادة لغة واحدة يفضل التعامل بها، في حماس لتوحيد المعايير في كل شيء. وهو ما تم في صمت داخل المجلس التنفيذي الأوروبي لتمرير اقتراح باستخدام اللغة الإنجليزية وحدها في هذا المجلس، بدلاً من استخدام اللغات الثلاث فيه وهي: الفرنسية والإنجليزية والألمانية، توفيرًا للوقت والجهد، خاصة بعد انضمام كل من السويد وفنلندا وتركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

وبشيء من التحديد نقولها بوضوح: إن تاريخ اللغة العربية لا يمكن استيعابه بدون اللغات الشرقية القديمة، وفي مقدمتها اللغة المصرية والفينيقية، فاللغة العربية وحضارتها استوعبت كل حضارات الشرق القديم، وما زال بها إلى يومنا هذا رواسب مماثلة في اللغة التي نتحدثها في أيامنا هذه.

أما اللغات الأوروبية القديمة، أي اليونانية واللاتينية، فنحن بحاجة إليهما في سعينا لفهم لغتنا القومية، فهما لغتان تحملان ثمرات الاتصال الحضاري بالشرق القديم، وهما إذن تمثلان مرآة ضخمة لهذا التراث العريق وامتدادًا له أيضًا، كما أن هاتين اللغتين تحويان شهادة تاريخية موثقة عن العرب والعربية قبل الإسلام باثني عشر قرنًا من الزمان على الأقل. كما أن اللغة العربية، بعد ازدهارها ووصولها إلى العصر الذهبي، استوعبت التراث الإغريقي وأوصلت بينه وبين التراث اللاتيني والنهضة الأوروبية الحديثة.

وإذا كنا نشكو من بعض المشكلات الخاصة بلغتنا العربية الفصحى، فلا ينبغي أن يظن أحد أن اهتمامنا باللغات الأجنبية قد يزيد من هذه المشكلات أو قد يدفع الناس لإهمال اللغة القومية، بل على النقيض من ذلك، يمكن القول إن العلاج الناجع لمشكلاتنا اللغوية يتطلب – فيما يتطلب – دراسة اللغات الأخرى ذات الصلة بلغتنا القومية. فمن الثابت والمؤكد عن طريق التجربة أن تعلم لغة أجنبية يساعد كثيرًا على فهم اللغة القومية، فاللغات تخدم بعضها بعضًا، ثم إن الدرس المتعمق، والتأمل الواعي للغة ثانية غير اللغة الأم، يؤدي بالضرورة إلى اكتشاف جوانب خفية لا تبدو جلية إلا لمن درس لغة أخرى.

أهمية الغوص في لغتنا العربية

السؤال الآن هو: كيف يتسنى لنا تقييم هذا الإسهام العربي الحضاري والعالمي دون الاستعانة باللغات الأجنبية؟ أَلَا يعني ذلك أن دراسة اللغات الأجنبية تدخل في باب العناية بتراثنا القومي ولغتنا الأم؟

ثم إن الأمر يتعدى ذلك إلى متطلبات حياتنا اليومية العلمية والثقافية، فنحن الآن – شأننا شأن كل الدول النامية – نعتمد على الغرب في التقنيات والعلوم التطبيقية وغيرها، وهكذا امتلأت حياتنا بالمصطلح الأوروبي في جميع نواحي الحياة، حتى إن رجل الشارع البسيط نفسه يستخدم كلمات أوروبية الأصل في كل لحظة من لحظات حياته، فهو يقول: التليفون، والتليفزيون، والفيديو، والسينما، والراديو، والأوتوبيس، والتلغراف، والفاكس، والكمبيوتر… إلخ، ونادرًا ما نراه يستعمل أسمائها العربية.

هذه كلها وغيرها من آلاف الكلمات تتردد على أسماعنا دوما، ناهيك عن قاعات المحاضرات في كليات الطب والهندسة والعلوم وغيرها، فهي لا تعرف إلا المصطلح الأجنبي. وتتمثل الخطورة هنا في أن هذا المصطلح في ازدياد مطرد، وقد يأتي يوم يغلب فيه اللفظ الأجنبي على حساب لغتنا العربية. وإذا كان هذا لا يحدث في بعض القطاعات فعلاً مثل الطب، بحيث لا يمكن أن يتفاهم طبيبان الآن بغير الإنجليزية، فإن ذلك قد يمتد إلى سائر شؤون الحياة ويهدد اللغة القومية. ولعل القطاع الأكثر عرضة لهذا الخطر هو قطاع تقنية المعلومات، وهو خطر عالمي لا يقتصر على اللغة العربية فحسب.

بالنسبة لنا، فالمسألة تحتاج إلى خطة قومية شاملة تستهدف الغوص في لغتنا العربية نفسها ودراستها مقارنة باللغات الأخرى، وكيف استوعبت منجزاتها ومصطلحاتها العلمية والحضارية. فهكذا يمكن الوصول إلى الهدف المنشود منذ زمن بعيد، ونعني به قاموسًا تاريخيًّا للغة العربية، وجنبًا إلى جنب نعمق دراسة اللغات الأوروبية الحديثة ونؤصل بالعودة إلى جذورها اليونانية واللاتينية. عندئذ نستوعب المصطلح التقني ونستطيع تعريبه، وأملنا كبير في أجيالنا القادمة لتحقيق هذه الأمنية، بل يمكننا أن نخترع لغة إنجليزية مثلاً تخدم المصطلحات الإسلامية… لكن كيف؟

إن فكرة استحداث لغة إنجليزية إسلامية معدلة، تمكننا من توصيل أسماء أعلام المعرفة الإسلامية والمعاني بدون التباس، وتسهّل على المستخدمين المسلمين للغة استخدام لغوياتها، هو أمر ضروري في هذه الآونة التي يعيشها المسلمون اليوم. فإن المسلمين المستخدمين للغة الإنجليزية هم المواطنون والمقيمون مؤقتًا في الدول التي تتحدث الإنجليزية، إلى جانب الطلاب غير المواطنين، وهؤلاء المستوطنون أو الزائرون من هذه البلاد إلى بلدان تُعد الإنجليزية لغتها الرسمية، مثل باكستان، والهند، وماليزيا، وسيلان، والفلبين، ونيجيريا، وغانا، وأوغندا، وكينيا، وإثيوبيا، وتنزانيا، ودول أخرى كثيرة في إفريقيا. هذا بالإضافة إلى كل المسلمين في بقاع العالم ممن أتقنوا اللغة الإنجليزية، وممن يستخدمونها كلغة للقراءة والبحث والكتابة والتواصل.

إن كل فرد يحق له أن يُنادى باسمه، ويجب أن يحظى كل اسم بالهجاء الصحيح، والنطق الصحيح أيضًا. ذلك أن اسم المسلم هو قائمة للشخصية في ظل الشريعة، ومن ذلك اسم “الحافظ” الذي يمكن أن يُقرأ “حفظ”، و”الخالق” يمكن أن يُقرأ “خليق”، وهذا يحدث عند الاختصار حيث تُحذف كلمة “عبد” من أمام الاسم الكريم. كما يمكن كتابة الاسم خطأ، مثل “عبد الحك” بدلاً من “عبد الحق”.

لا بد إذن من الاعتراف بأن هناك العديد من الكلمات العربية غير القابلة للترجمة بالإنجليزية، لكن الرغبة العالية لدى المسلمين في تقديم معاني لغتهم العربية بالإنجليزية أدت إلى أن يستخدموا كلمات لا تعبر بدقة عن المعنى المطلوب أو المرغوب، مما أوقع الكثير منهم في نفس خطأ المستشرقين من سوء فهمهم للمعاني المتوغلة في اللغة العربية الخاصة بالقرآن. فهذه المعاني هي مقدسات لا يستطيع أي فرد أن يغيرها، وهذا ليس انتهاكًا للإنجليزية، وإنما إثراء لها في العصور الحديثة. فاللغة الإنجليزية استعارت – بالإضافة – مفردات فرنسية وألمانية وإسبانية وإيطالية، مثلما أثرت في اللاتينية واليونانية، وقد أُدرجت بعض مفردات اللغة العربية في الكثير من اللغات.

إن الحاجة اليوم قد تزايدت لإدماج المفردات الدينية والحضارية في اللغة الإنجليزية، فقد أصبح الوضع في العالم المتحدث بالإنجليزية يحتاج إلى القيم الدينية والروحانية الإسلامية أكثر من ذي قبل. فإدماج اللغة مع المفردات الدينية الجديدة والروحانية، والوجود المستمر للمسلمين المتحدثين بالإنجليزية، يجسد القيم والمعاني الإسلامية في حياة المسلمين الناطقين بالإنجليزية، الأمر الذي يجعل الترجمة والصياغة الدقيقة قادرة على إحداث تغيير ضخم في الشكل والمحتوى للمفهوم الإسلامي.

أهمية تعلم اللغات الأجنبية

من هنا تأتي أهمية تعلم اللغات الأجنبية عامة، ومحاولة إيجاد لغات منها تخدم المصطلحات الإسلامية بشكل صحيح يحفظ للشريعة قدسيتها، وللغة العربية صوابها واحترامها.

إن تعلم اللغات له دور مهم في المنظومة الإسلامية، حيث إن فهم اللغة العربية ضروري لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية، وهما المصدران الأساسيان للإسلام. كما أن تعلم لغات أخرى يفتح آفاقًا للتعايش والتواصل مع الثقافات المختلفة، ويسهّل نشر الدعوة الإسلامية وتبادل المعرفة.

وما من شك أن تعلم اللغات الأخرى – بعد تعلم اللغة العربية – له كثير من الفوائد والمنافع الدينية والدنيوية على مستوى الأمة الإسلامية وعلى مستوى أفرادها، وذلك: لتبليغ دينها ورسالتها، ولسد احتياجاتها في جميع جوانب حياتها، ولتحقيق التعارف والتعايش والتعاون والتبادل الثقافي والمعرفي مع غيرها من الأمم، ولتأمن شر ومكر أعدائها، كما جاءت بذلك كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

اللغة هي هوية الأمة وثقافتها، وبها تُحفظ شخصيتها وتراثها الإنساني والديني والأخلاقي، ومن هنا ندرك أهمية اللغات بشكل عام وأهمية اللغة العربية بشكل خاص بالنسبة لنا كمسلمين، حيث إنها تمثل هوية الأمة الإسلامية باعتبارها لغة الدين ولغة القرآن الكريم، وفي حفظها حفظ للدين وحفظ للقيم الأخلاقية، وحفظ للمعارف والثقافات والموروثات العلمية والعادات والقيم المجتمعية.

لا يعني ذلك إهمال باقي اللغات العالمية الأخرى الحية والمحكية، فتعلمها يعتبر من الفروض الكفائية على الأمة، وذلك: لتبليغ دينها ورسالتها، ولسد احتياجاتها في جميع جوانب حياتها، ولتحقيق التعارف والتعايش والتعاون والتبادل الثقافي والمعرفي مع غيرها، ولتأمن شر ومكر أعدائها. فهذه هي أعظم فوائد تعلم اللغات الأخرى.

المراجع:

  • إبراهيم اليازجي، اللغة بين القومية والعالمية، مطبعة القاهرة – ٢٠٢٤.
  • مطابع الكتابة في اللغات الغربية المعاصرة، ترجمة علي الحسن – مطابع الثقافة، القاهرة – 2022.
  • طلال وهبه وآخرون، مدخل إلى الألسنة، ١٩٩٨ – بيروت.
  • Bong, R (1995) New Trends in Linguistics. New York.
  • Brown, S (1999) Theories of Second Language Acquisition. New York.
  • Chastain, K. (1972) “Behavioristic and Cognitive Approaches in Programmed Instruction” in Allen, H. & Campbell, R. (1972) Teaching English as a Second Language. New Delhi: McGraw Hill.