شهر الله المحرَّم.. وفلسفة الشكر

يأتي شهر الله المحرم من كل عام، ليذكرنا بحدثين عظيمين، يتجلى فيهما معنى الإحسان، المحفوف بمعيَّة الله تعالى وعنايته ورعايته.

الحدث الأول: الهجرة المباركة، وهو الحدث الأعظم والأقدس والأجل، هجرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.. والتي تنورت وتشرفت بمقدِمِهِ الشريف ومنزله المُنيف.

نجَّى الله سبحانه وتعالى حبيبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين، وغلِّ المشركين.

الحدث الثاني: حدث عاشوراء.. اليوم الذي نجَّى الله فيه سبحانه وتعالى نبيَّه وكليمه موسى عليه السلام.

ففي هذين اليومين الجليلين الهجرة وعاشوراء من معاني اللطف، والنصر، والنجاة، والتأييد من المولى سبحانه وتعالى.. ما يظهر معنى الإحسان من الله سبحانه وتعالى، والإحسان مدعاة للشكر والامتنان.

أي إن هذا الإحسان من الله عز وجل ينبغي أن يقابل بعظيم الشكر لله تعالى؛ ولذلك حينما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وجد اليهودَ يصومون يوم عاشوراء، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ مُوسَى، قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فصامه، وأمر بصيامه.. وهذا معنى من معاني شكر الله تعالى والامتنان إليه.

وكذلك نعمة الهجرة التي كانت سببَ الفتح والنصر والعز والتمكين.. نعمة عظيمة تستوجب الشكر لله سبحانه وتعالى، ولذلك حينما استقبل أهل المدينة الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم، عبَّروا عن هذه النعمة بكلمات لطيفة:

طلع البـدر علينـــا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا مـــا دعا لله داع

أي إن هذة نعمة جليلة تستوجب شكر الله سبحانه وتعالى دائمًا وأبدًا.

مما يدلنا على أن أعظم قيمة يمكن أن نخرج بها من هذا الشهر المبارك من كل عام؛ هي قيمة “الشكر”، الشكر على نعمة الإيجاد، والشكر على نعمة الإمداد، الشكر على نعمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الشكر على نعمة الإسلام، الشكر على نعمة القرآن، الشكر على كل شيء.

والشكر، مقام جليل، وعبادة رفيعة من أرقى العبادات، وأعلى المنازل، وهو مقام الصفوة والخواص؛ من الأنبياء والصالحين، والأولياء والعارفين، والعلماء الربانيين.. وهو نصف الإيمان، أمر اللَّه تعالى به، وأثنى على أهله وخواصِّه وبيَّن أنهم هم القليل من عباده. قال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[سبأ: 13]. قال عن خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾[النحل: 120 – 121] وقال عن نوحٍ عليه السلام: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾[الإسراء: 3].

والشكر غاية الرب من عباده؛ قال تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[النحل: 114] وَقَال: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾[البقرة: 152] وقال سبحانه: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[النحل: 78] وقال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[العنكبوت: 17].

والشكر على ثلاثة أنواع: (شكر اللسان، وشكر الجنان، وشكر الأركان).

تجتمع فيها قواعد الشكر الخمس التي ذكرها العلماء: وهي الخضوع للمشكور. وحبه له. واعترافه بنعمته. وثناؤه عليه بها. وألَّا يستعملها فيما يكره.

الشكر الأول: شكر اللسان

أي القول، وهو ذكر الله سبحانه وتعالى؛ فقد رُوي أن نبيَّ الله داوود عليه السلام: قال يا رب، قد أنعمت عليَّ كثيرًا، فكيف أشكرك كثيرًا؟ قال: “اذكرني كثيرًا، فإذا ذكرتني فقد شكرتني”. فربط بين الذكر والشكر؛ لعِظم الذكر ومكانته؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾[سورة الأحزاب: 41].

وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه: «وَاللَّهِ يَا مُعَاذُ، إِنِّي لَأُحِبُّكَ. فَلَا تَنْسَ أَنْ تَقُولَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ».

وفي المسند وغيره من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم كان يدعو بهذه الكلمات: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ. وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ. وَامَكْرُ لِي وَلَا تَمْكُرْ بِي. وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي. وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ. رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا لَكَ ذَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا لَكَ مُطَاوِعًا لَكَ مُخْبِتًا إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا. رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي. وَاغْسِلْ حَوْبَتِي. وَأَجِبْ دَعْوَتِي. وَثَبِّتْ حُجَّتِي. وَاهْدِ قَلْبِي. وَسَدِّدْ لِسَانِي. وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي». وَقِيلَ: مَنْ قَصُرَتْ يَدَاهُ عَنِ الْمُكَافَآتِ فَلْيَطُلْ لِسَانُهُ بِالشُّكْرِ.

الشكر الثاني: شكر الجنان

وهو رؤية المنعم لا رؤية النعمة؛ فالله سبحانه وتعالى أنعم على الإنسان بنعمٍ كثيرة، ظاهر وباطنة، لا يعلم حدَّها وعدَّها إلَّا المولى سبحانه وتعالى.. ولذلك لا يستطيع الإنسان شكرَ هذه النعم كائنًا من كان، ومن يظن في نفسه أنه استوفى معنى الشكر، فهو في الحقيقة لا يعرف معنى الشكر، ولا يدرك حقيقته.. لأنه لو أدرك حقيقته لعلم أنه لو ظل يشكر الله تعالى ليل نهار لما وفَّى نعمة واحدة من النعم التي أنعم الله بها عليه، فما بالك وأن النعم تزيد وتتضاعف أيضًا بالشكر، فالشكر معه المزيد أبدًا. لقوله تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}[إبراهيم: 7] فحين لم ترَ حالَك في مزيدٍ، فاستقبِل الشكرَ.

وفي أثر إلهي: يقول اللَّه عز وجل «أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي».

فيزيده من جنس النعمة التي شكر عليه، فاستوجب أن يكون هناك شكر على هذه النعمة المزيدة، ثم إن شكر العبد للنعمة نعمة تستوجب شكرًا، وهكذا.. فلك أن تتخيل -إن كان التخيل ممكنًا- أن هناك نعم أصيلة ولكنها باطنة لا يُعلم عدها وحصرها إلَّا الله، وهذه تستوجب الشكر.

وهناك نعم أصيلة وظاهرة، تستوجب الشكر. وهناك نعم مزيدة من جنس النعم الظاهرة، نتيجة الشكر عليها، وهذه تستوجب الشكر. ثم إنَّ هناك نعم الشكر ذاته على النعم الأصيلة تستوجب الشكر. وهناك نعم الشكر ذاته على النعم المزيدة تستوجب الشكر. فأنَّى لمخلوق أن يستوفي الشكر حقَّه حينئذ؟!!

فالله سبحانه تعالى لا يستطيع أحد أن يكافئ نعمه أبدًا، ولا أدنى نعمة منها. فإنه جل جلاله هو المنعم المتفضل، الخالق للشكر والشاكر، وما يشكر عليه. فلا يستطيع أحدٌ أن يحصي ثناء عليه.

ولذلك سأل سيدنا موسى عليه السلام ربَّه -كما روى سيدنا جعفر الصادق- قال يا رب كيف أشكرك حق شكرك، إذ الشكر ذاته نعمة تستوجب شكرًا، والشكر عليها نعمة تستوجب شكرًا، وهكذا.. فقال: يا موسى! الآن شكرتني، حين علمت أن ذلك مني”؟

معنى شكر الجنان

أن تعرف أن الشكر من الله، قال الإمام الشبلي: الشكر رؤية المنعمِ لا رؤية النعمة. فأنت أصلاً شكرت الله بالله.

وهذا شأن كل عبادة أو طاعة، إنما تعبد الله بالله، وتذكر الله بالله، فلولا الله ما عبدتَ الله.. هو الذي اصطفاك واختارك للعبادة وقرَّبك وكرَّمك وأعطاك وحباك..

وهذا يعلمنا أن العبادة إنما تكون بالصدق والإخلاص لله تعالى، والخضوع والخنوع إليه، بخلاف ما نراه من خطابات التدين الشكلي أو التدين الكمي اللذين يروِّج لهما المتشددون.. يقول أنا أصلي كذا وكذا، وأنا أصوم كذا وكذا، أنا قوم الليل بعدد ركعات كذا، وقراءة قرآن كذا.. ولم يدرك هذا الإنسان المغرور، أن الله سبحانه وتعالى هو الذي وفقه لذلك.

فمهما يكن للعبد من استعداد للعبادة أو اجتهاد فيها، فإِنه لا غنى عن توفيق الله سبحانه وتعالى له؛ يقول الله عز وجل: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾، وفي آية أخرى: ﴿وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم﴾.

وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: «والله، لولا الله ما اهتدينا، ولا صُمنا ولا صلَّينا».

فليعلم العبد أن الاجتهادَ من الله، والتوفيق من الله، والمداد من الله، والعون من الله..

إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ
وإن كان عونُ الله للعبدِ واصلا تأَتَّى لهُ من كُلِّ شيءٍ مِدادُهُ

الشكر الثالث: شكر الأركان 

وهذا يكون بأمرين:

الأول: أن تظهر هذه النعمة على العبد، من التحدث بنعمته، والإخبار بوصولها إليه من جهته، فقد قيل: من كتم النعمة فقد كفرها. ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها.

وهذا مأخوذ من قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[الضحى: 11]؛ فالتحدث بنعمة اللَّه شكر. وقوله: صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَنْعَمَ عَلَى عَبْدٍ بِنِعْمَةٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ».

وفي هذا قيل:

وَمِنَ الرَّزِيَّةِ أَنَّ شُكْرِيَ صَامِتٌ عَمَّا فَعَلْتَ وَأَنَّ بِرَّكَ نَاطِقُ
وَأَرَى الصَّنِيعَةَ مِنْكَ ثُمَّ أُسِرُّهَا إِنِّي إِذًا لِنَدَى الْكَرِيمِ لَسَارِقُ

الثاني: الاجتهاد في العبادة، سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ماذا فعل تجاه نعمة الله تعالى في نجاة سيدنا موسى.. صام هذا اليوم، وقال: لإن عشت للعام القادم لأصومن التاسع والعاشر.. فلم يكتف صلى الله عليه وآله وسلم بمجرد أن شكرَ الله تعالى بالقول، بل أدَّى ذلك بالفعل وهو الصوم..

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقوم الليل حتى تتورَّم قدماه، وحينما سُئل عن ذلك ماذا قال؟

هل قال: أفلا أكون عبدًا محبوبًا؟ لا.

هل قال: أفلا أكون عبدًا عابدًا؟ لا.

لم يقل ذلك.. بل قال: أفلا أكونُ عبدًا شكورًا.. وهذا مَن هو؟ سيد الأولين والآخرين، وأكرم الخلق على رب العالمين، صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي الصحيحين عن النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم «أَنَّهُ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ. فَقِيلَ لَهُ: تَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟».

إذًا، شكر الله سبحانه وتعالى يكون باللسان، ويكون بالجنان، ويكون بالأركان..

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عبادة الذاكرين الشاكرين الحامدين الله سبحانه وتعالى حمدًا كثيرًا.. اللهم آمين.