حمَّى البحر الأبيض المتوسط

مرض وراثي مزمن قابل للإدارة بالعلاج والوعي

أصيبت زوجتي في بداية زواجنا بآلام شديدة في البطن وقيء مستمر لا ينقطع بالأدوية العادية المخصصة للقيء، ولا بالمسكنات المعتادة المخصصة للألم.
فما كان منا إلا أن عرضناها على أكثر من طبيب في بلدتنا متخصص في الجهاز الهضمي، وكانت كل أدويتهم لا تعطي النتائج المرجوة. وبعد أيام طويلة من العلاجات غير الشافية، دلّنا أحد المرضى على طبيب قاهري استشاري، فما كان منه إلا أن قام بعمل فحوصات بالمناظير استمرت ليوم كامل، وكانت النتيجة أنها مصابة بمرض نادر يسمى حمى البحر الأبيض المتوسط.

حمى البحر الأبيض المتوسط وكيفية العلاج والإجراءات المتبعة

حمى البحر الأبيض المتوسط العائلية (Familial Mediterranean Fever – FMF): هو مرض وراثي مزمن له تأثيرات كبيرة على حياة المريض، وإهماله يؤدي إلى نتائج كارثية -لا قدر الله-. وتُعد حمى البحر الأبيض المتوسط من الأمراض الوراثية النادرة نسبيًا، لكنها شائعة في بعض المجتمعات المنحدرة من أصول شرق أوسطية مثل الأتراك، الأرمن، العرب، وجنسيات أخرى.
ويتميز هذا الاضطراب بنوبات متكررة من الحمى والالتهابات المؤلمة في بطانة البطن أو الصدر أو المفاصل. وقد تؤدي الإصابة به دون علاج مناسب إلى مضاعفات خطيرة، من أبرزها الداء النشواني (Amyloidosis)، وهو تراكم بروتين غير طبيعي في الأعضاء يمكن أن يؤدي إلى الفشل الكلوي.

أسباب المرض وآليته الوراثية

تنتج حمى البحر الأبيض المتوسط عن طفرة جينية في جين يسمى علميًّا (MEFV)، الموجود على الكروموسوم 16، وهو المسؤول عن إنتاج بروتين يُسمى “بيرين” (Pyrin) أو “مارينوسترين”، الذي يلعب دورًا في تنظيم الاستجابة الالتهابية داخل الجسم.
عند حدوث الطفرة، يفقد هذا البروتين قدرته على ضبط الالتهاب، مما يؤدي إلى نشاط زائد للجهاز المناعي وحدوث النوبات الالتهابية المميزة للمرض.
المرض يُورث بطريقة جبرية (متنحية)، أي أن الطفل يجب أن يرث نسختين معطوبتين من الجين (واحدة من كل والد) لكي تظهر عليه الأعراض. لكن في بعض الحالات، قد يظهر المرض بأعراض خفيفة في الأشخاص الحاملين لنسخة واحدة فقط، مما يُعقد التشخيص.

الأعراض والعلامات السريرية

تتميز حمى البحر الأبيض المتوسط بنوبات متكررة من الحمى المفاجئة، غالبًا ما تستمر بين 12 إلى 72 ساعة، وتكون مصحوبة بأحد أو بعض الأعراض التالية:

  • ألم شديد في البطن نتيجة التهاب الغشاء البطني.
  • ألم في الصدر ناتج عن التهاب غشاء الجنب.
  • ألم وتورم في المفاصل، خصوصًا الركبتين والكاحلين.
  • طفح جلدي، غالبًا ما يظهر على الساقين.
  • أعراض جهازية مثل الإرهاق الشديد والغثيان.

تختلف شدة وتكرار النوبات من شخص لآخر، وقد تتباعد النوبات لأشهر أو تتكرر أسبوعيًّا.
ويلاحظ أن بعض المرضى، خاصة الأطفال، قد لا يُظهرون الأعراض الكلاسيكية، مما يؤدي إلى تأخر التشخيص.

التشخيص

يعتمد التشخيص على مزيج من العوامل السريرية والتاريخ العائلي والنتائج المخبرية. لا يوجد اختبار واحد قاطع، لكن هناك مؤشرات مهمة:

  • ارتفاع البروتينات الالتهابية أثناء النوبة مثل CRP وESR.
  • اختبارات وراثية للكشف عن الطفرات في جين MEFV.
  • استبعاد أمراض أخرى مثل الذئبة الحمراء أو داء كرون.

تُستخدم معايير تشخيصية دولية مثل “تيل-هاشارون” أو “ليفيني” لتأكيد التشخيص.

العلاج وإدارة المرض

العلاج الأساسي والأكثر فاعلية هو الكولشيسين (Colchicine)، وهو مضاد للالتهاب يُقلل من عدد وشدة النوبات، ويمنع تطور الداء النشواني.
يُعطى بجرعة يومية ثابتة، ويجب الالتزام به مدى الحياة، حتى في فترات غياب الأعراض.

قد يعاني بعض المرضى من آثار جانبية مثل الإسهال واضطرابات المعدة، ويمكن تعديل الجرعة لتقليل الأعراض.
وفي الحالات النادرة التي لا يستجيب فيها المريض للكولشيسين، تُستخدم الأدوية البيولوجية مثل:

  • أناكينرا (Anakinra)
  • كاناكينوماب (Canakinumab)

المضاعفات المحتملة

أخطر مضاعفات حمى البحر الأبيض المتوسط هي الداء النشواني (AA)، الذي قد يؤدي إلى الفشل الكلوي المزمن.
كما تشمل المضاعفات:

  • التهاب مزمن في المفاصل قد يؤدي إلى تشوهات.
  • العقم عند بعض الرجال نتيجة التهاب الخصيتين.
  • اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب بسبب الألم المزمن.

التأثير على نوعية الحياة

تؤثر حمى البحر الأبيض المتوسط على نوعية الحياة، خصوصًا إذا لم يتم التشخيص مبكرًا أو لم يُلتزم بالعلاج.
النوبات المتكررة تُعيق الدراسة والعمل، وقد تسبب عزلة اجتماعية وشعورًا بعدم الأمان الصحي.
لذا، فإن الدعم النفسي والاجتماعي جزء أساسي من خطة العلاج، كما أن التثقيف الصحي وتوعية الأسر أمر حيوي.

البحث العلمي والتطورات المستقبلية

شهدت السنوات الأخيرة تقدمًا كبيرًا في فهم المرض، مما فتح الباب أمام تطوير علاجات أكثر دقة، خاصة في حالات عدم الاستجابة للكولشيسين.
وتتجه الأبحاث إلى:

  • دراسة تأثير الطفرات المختلفة في جين MEFV.
  • استهداف الإنترلوكين-1 ومشتقاته.
  • البحث في العلاجات الجينية المستقبلية.

خاتمة

حمى البحر الأبيض المتوسط العائلية ليست مجرد مرض وراثي بسيط، بل اضطراب مزمن يتطلب تشخيصًا دقيقًا وعلاجًا مستمرًّا مدى الحياة. لكن بفضل التقدم العلمي، وزيادة الوعي، يمكن للمصابين بها أن يعيشوا حياة طبيعية تمامًا. يبقى التشخيص المبكر، والالتزام بالعلاج، والتوعية المجتمعية، من أهم عوامل النجاح في مواجهة هذا المرض.