بعد توقف لم يدم إلا قليلاً، عادت قضية الاستنساخ البشري إلى بؤرة الأضواء، ومحور المناقشات، فقد أعلنت إحدى الشركات الأمريكية مؤخرًا عن إنتاج جنين بشري بطريقة الاستنساخ، الأمر الذي أعطى الضوء الأخضر لاستنساخ الأجنة في جميع المحافل الطبية بعد هذا النجاح الذي من المقرر استخدامه في الأبحاث الطبية، وبمجرد الإعلان عن ذلك، ثارت عدة دوائر عالمية تطالب بتشريع قانون يُحرّم الاستنساخ ويحظر إجراء مثل هذه التجارب.
بعد تطور علم البيولوجيا، خصوصًا على صعيد الهندسة الوراثية، بالكثير من الإنجازات المثيرة والنتائج المقلقة، وبعد تراكم المعطيات المثيرة لجهة البُنى الوراثية وتحديد الأسس المتحكمة في بنية الكائنات وصولاً إلى استنساخ الأعضاء بسبب توافر الإمكانات المادية نتيجة انفتاح الآفاق أمام التقنيات الحيوية، اندفع علماء الأحياء في تجاربهم التي بلغت الآن عتبة ميدان من أخطر ميادين الحياة، وباتوا على أبواب مرحلة ولوج آليات التطور، مما يُعدّل الكائن البشري بصورة كاملة.. ومع هذا التقدم المذهل، يُساهم العلم في التغلب على بعض الأمراض المستعصية والوراثية من خلال استنبات خلايا العضو نفسه بعد معالجتها وراثيًّا.
خلال السنوات القليلة القادمة، قد ينجح العلماء في تخليق قلبٍ لإنسانٍ قابلٍ للزرع يمكن الاحتفاظ به في المستشفيات، لأن ثمة ازديادًا في طلب الأعضاء المزروعة وخصوصًا القلب.. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تُسجل لوائح الانتظار في المستشفيات والعيادات أربعة آلاف مريض يحتاجون إلى زراعة للقلب، وتشكل هذه اللائحة قائمة الأفراد الأكثر مرضًا، ووفقًا لإحصاءات إحدى المؤسسات البحثية في الولايات المتحدة، خلال هذه السنة سيتمكن 2300 مريض من إجراء جراحة زرع قلوب لهم.
وبينما يهتم بعض الجراحين بزرع قلوب صناعية وأعضاء للحيوانات، يتوجه اهتمام آخرين نحو هندسة الأنسجة.. ويستند الأطباء المختصون في هذا الحقل الجديد إلى المهندسين وعلماء الكيمياء الحيوية من أجل تصنيع خلايا حية، كقطع غيار لجسم الإنسان، ولعل مشروع اتحاد (لايف) لهندسة الأعضاء الحية الذي يترأسه (مايكل سفتون) رئيس مجمع المواد والأدوية الحيوية في جامعة تورنتو سيكون الخطوة الأولى في هذا المجال. ولقد استأنف هذا الاتحاد عمله في يوليو 1998، وهو يهدف إلى تخليق عدد كبير من أعضاء الإنسان القابلة للزرع، ويضم باحثين من مختلف المستشفيات والمؤسسات العالمية، ويُقدّر سفتون تكلفة تخليق قلب فعال وظيفيًا بخمسة مليارات دولار _ وهو عبارة عن قلب في صندوق، يتم حفظه حتى يتم استخدامه مع الحقن والمباضع في المستشفيات _ ويقول: “إن تصنيع القلب يقتضي بذل جهود تفوق صعوبتها تصنيع الكبد أو الكلية، وإذا تمكّنا من ذلك فإن البقية ستأتي”.
قام بعض المبدعين في هندسة الأنسجة الحية مثل (جوزيف فاكانتي) الأستاذ في قسم الجراحة بجامعة هارفارد ومستشفى (ماساشوستس) العمومي، و(روبرت لانجز) الأستاذ المتخصص في الهندسة الكيميائية خلال الثمانينيات، بتنمية خلايا على قوائم متشابكة الخيوط، تتحلل ببطء عند تكاثرها، وكانت الخطوة الأولى التي خطاها في هذا الاتجاه هي تكوين قائمة متشابكة ذات قالب نسيجي ثلاثي الأبعاد، تم تصنيعها في مركبات البوليمر الحيوية مثل حمض اللاكتيك وحمض الجليكوليك المتعدد، التي تتطور في النمو أصلاً إلى غُرز تشكل خطوط الاتصال بين الأعضاء. أما الخطوة الثانية فتتمثل في زرع القائمة المتشابكة بخلايا مأخوذة من العضو “النموذج” الذي يأمل الباحثون في تصنيعه، وتُوضع الخلايا التي تشكل هذه القائمة المتشابكة في مفاعل حيوي (وهو عبارة عن جهاز يحضنها في درجة حرارية تعادل حرارة الجسم) يتدفق في داخله مزيج من المواد المغذية والمؤكسدة، الأمر الذي يساعد على انقسام الخلايا وفرزها إلى بروتينات وعوامل إنمائية _ مثلاً مادة كالفيتامينات التي تُعجّل في نمو الجسم _ تترابط لتشكل نسيجًا حيًّا.
الاستنساخ الجزئي.. كان واقعًا ثم تلاشى
استخدم فاكانتي هذه الطريقة لتخليق 27 نوعًا نسيجيًا مختلفًا في مختبره، وكانت أولى نتاجاته المفيدة، رقائق صغيرة من الجلد وأجزاء من الغضروف تطورت إلى أشكال معروفة كالأذن والأنف، وخلق باحثون آخرون أعضاء كاملة في جامعة هارفارد، فقد قام (أنطوني أتالا) _ مثلاً _ بتنمية مثانات الكلاب مستخدمًا خلاياها، وقد أدت وظيفتها لمدة سنة بعد زرعها مجددًا في أجسام الكلاب، وعليه فإنه ربما تُساعد المثانات التي تنمو من خلايا الإنسان الجنينية بدورها في علاج الاضطرابات البولية.. ويوجه مهندسو الأنسجة اهتماماتهم اليوم نحو تصنيع أعضاء أكثر تعقيدًا كالقلب، إذ خلق باحثون أوعية دم أولية لصمامات وعضلات، وجعلوا هذه المركبات تؤدي وظيفتها تمامًا كالأنسجة، ثم جمعوها في عضو واحد، بما سيكون أكبر تحدٍّ طبي في الألفية الثالثة.. لكن على الجانب الآخر، يقول العالم (فاكانتي): “بدلاً من الكلام عن كيفية تصنيع جذع للشجرة، أو غصن، نحن نتكلم عن كيفية تصنيع شجرة بكاملها”.
منذ خمس سنوات، قام كل من (د. ليزا فريد) و(د. جوردانا نوفاكوفيك) بزرع خلايا قلب داخل قائمة متشابكة في مفاعل حيوي، وكانت الأنسجة المُخلقة أصغر حجمًا من حبة الأسبرين، وقد بدأت الخلايا بالنبض فور تلقيها منبهات كهربائية، وتقول د. ليزا: “كانت هذه اللحظات الأكثر إثارة في تجاربي المخبرية، لم يقم أحد من قبل بعمل كهذا”. وعلى الرغم من تماثل هذه “المركبات القلبية” مع أنسجة القلب، لكنها لا تحتوي على أوعية دموية، ولتخطي هذا العائق، قد يتمكن الباحثون من بناء قائمة متشابكة تتضمن شبكة من الأوعية، أو وضع “عوامل نهائية” فيها تُساعد في تشكُّل الأوعية الدموية.
شرايين صناعية
قام بعض الباحثين الآخرين بتخليق “شرايين اصطناعية” من خلال تنمية خلايا عضلية في أنبوب بوليمر (مركب كيميائي يتشكل بالتبلمر أو البلمرة) ووضع خلايا البطين التجويفي في داخله، ثم زرعوا شريانًا رئويًّا مهندسًا وراثيًّا داخل نعجة، أدى وظيفته بفعالية لمدة ستة أشهر و”نما” مع الوقت. كما استخدمت د. (لورا نيكلاسون) ـ المختصة في التخدير، وهندسة الطب الحيوي في جامعة ديوك ـ المواد الخام لهندسة شرايين من أحد الحيوانات ثم زرعتها ثانية، واكتشفت بأنها تتطور نحو الأفضل إذا تدفق الدم فيها خلال نموها.
تعمل هذه الشرايين بطريقة النبض لمدة ستة أشهر أو أكثر، إذ بدون ذلك تتعرض للانسداد، وخصوصًا الأوعية الدموية الرفيعة، ولتخليق هذه الأوعية يتوجب على الباحثين أيضًا تصميم شعيرات متفرعة رفيعة. هذا وتعمل شركة (تولد الأعضاء التقنية الحيوية) في (ماساشوتس) اليوم على إيجاد حل معقول، ألا وهو: تخليق أوعية دموية من الكولاجين الطبيعي (المادة البروتينية في النسيج والعظام) التي تربط نسيج الجسم، وكسوها بطبقة من مادة تعيق التخثر وتمنع انسداد الشرايين، وتقوم بجذب هذه الأوعية فور زرعها خلايا أوعية الجسم الخاصة، لتنمو.
يختبر آخرون في الوقت الراهن أيضًا، طرقًا عدة لتخليق صمامات قلب، توجه الدورة الدموية، كما تم تخليق صمامات وزرعها في 6 نعاج، أدت وظيفتها بفعالية لأشهر عدة، لكنها ليست متينة كالصمامات الطبيعية، ويعمل العلماء على تخطي هذه الإشكالية، إذ يختبر فريق يقوده (روبرت نيريم) في جورجيا تجربة لدفع الهواء المضغوط، ضمن فترات دورية منتظمة، في الأوعية الدموية “النامية”. ويكمن الاحتمال الآخر في تبديد هذه الأوعية المصنعة خلال نموها بحيث تتماثل مع الأوعية الطبيعية عند تدفق الدم فيها.
وقد قام (ديفيد موني) وهو أستاذ متخصص في البيولوجيا بجامعة (ميتشغان) الأمريكية، بزرع خلايا في قوائم متشابكة مثبتة بأجهزة ميكانيكية، واكتشف أن خلايا أوعية الدم تترابط في حلقات منتظمة عندما تتعرض للإجهاد لعدة أسابيع، وأنه بالإمكان الحصول على مزيد من نتاج البروتينات المركبة التي تجعل النسيج أكثر متانة من خلال استخدام أنواع محددة من المواد التي تشكل القائمة المتشابكة، ويفسر (موني) ذلك بقوله: “استطعنا أن نبين أن منبهات ميكانيكية يجب أن تدخل عبر جزيئات معينة تتصل الخلايا بها”، ويكمن التحدي اللاحق في تقليص المركبات الأساسية الحيوية بشكل دقيق لتأمين “المقداح” المناسب لإطلاق عملية نمو الخلايا.
من ناحية أخرى، توصلت الأبحاث الحديثة في مجال علم المخ والأعصاب بالتعاون مع علوم وظائف الأعضاء والتشريح إلى تقنية يمكن بواسطتها تنمية وتحفيز الخلايا العصبية في المخ بحيث تحل محل الأجزاء التالفة فيه أو المصابة، مما يعطي أملاً جديدًا لمرضى العاهات المستديمة بسبب تلف أجزاء معينة في المخ. فقد توصل الأستاذ الألماني “فرو ميرترز” رئيس قسم وظائف الأعضاء بجامعة ميونخ، بمساعدة فريق من الباحثين في جراحة المخ والأعصاب والتشريح ووظائف الأعضاء والكيمياء الحيوية، إلى طريقة يمكن بها تنشيط الخلايا العصبية التالفة بوضع سطح معدني تحت الخلية العصبية وتوصيل السطح بتيار كهربائي ذي تردد ضعيف، وإضافة مواد كيميائية واستخدام تقنيات خاصة تدفع الخلايا الحية إلى التمدد والنمو لتتصل أطرافها فوق السطح المعدني.
ولو نجح في ذلك، ستكون هذه القطعة المعدنية المتناهية في الرقة، والتي يتراوح حجمها بين 1:6 سنتيمترات حسب حجم الجزء التالف، بمثابة قطع غيار للأجزاء التالفة في المخ البشري، ويتم تصنيعها في المعامل من البلاتين النقي. والمعروف أن الخلايا العصبية مبرمجة بلغة الكيمياء والكهرباء، فزوائدها التي تتخذ شكل الشجرة بتفرعاتها الكثيرة تعتبر حلقة الاتصال بين جسم العصب في الخلية والخلايا العصبية الأخرى، وجسم العصب هو مركز التحكم الرئيس للخلية العصبية، أما محور العصب فهو المسؤول عن نقل الرسالة من الخلية العصبية المخية، وفي نهاية كل محور عصبي مواد كيميائية تحمل التعليمات من الخلايا العصبية إلى الأعصاب في باقي أجزاء الجسم، ويتم ذلك بمساعدة إنزيمات وهرمونات ومواد حيوية. فالخلايا العصبية لها خاصية النمو والاتصال بأطرافها فوق الأجزاء المقطوعة، خاصة مع ضآلة حجم هذا الجزء، وذلك خلال ثلاثة أشهر، وقيامها بوظيفتها من جديد حسب حساسية الجزء المقطوع، وهذا ما أثبته رسم العصب لمناطق أُصيبت بآلات حادة خاصة في الأطراف كالذراعين والساقين.
مراجع:
- الاستنساخ البشري: مخاوف كامنة ـ مجلة العلوم الأمريكية – النسخة العربية.
- أحمد محمد عوف ـ مجلة العلم، أكاديمية البحث العلمي.
-
Bertrand Pulman (2005/3). “Les enjeux du clonage Sociologie et bioéthique” 2023.