الوكلاء الأذكياء

إن أحد أهم معالمِ التجارة الذكية في العصر الحالي هو “المتاجر الذكية”، وهي التي يتم إدارتها بالكامل من خلال أنظمة الذكاء الاصطناعي، وستجد طريقها للانتشار قريبًا في جميع أنحاء العالم.
لقد أعلنت شركة “أمازون (Amazon)” الرائدة في مجال التجارة الإلكترونية في ديسمبر سنة (2016م) عن إنشاء أول متجر للبيع بالتجزئة يُدار بالكامل عن طريق الذكاء الاصطناعي؛ وذلك من خلال ربط جميع ما فيه من عملاء ومنتجات بأنظمة ذكاء اصطناعيٍّ قادرة على فَلْتَرة المحتوى، والتمييز بين الأفراد والأشياء والصور، من خلال مستشعرات وكاميرات ذكية تعمل بتقنية “الإبصار الحاسوبي (computer vision)”، وأنظمة مسح البضائع عن بُعد من خلال ملصقات وشرائح تعمل بتقنية ترددات الراديو (RFID) “تحديد الهوية بموجات الراديو (Radio-frequency Identification)”.
فكلُّ ما على العميل فعلُه هو أن يقوم بتحميل تطبيق “أمازون جو (Amazon Go)” على هاتفه الذكيّ، ثم يقوم بشكل عادي بفتح حساب خاص به على موقع أمازون، وبمجرد دخول المتجر يقوم العميل بتمرير هاتفه على قارئ الباركود أو على مستشعر جهاز ذكيٍّ على باب المتجر يقوم بالتعرف على بيانات ومعلومات المستخدم في أمازون.
وبعد دخول المتجر يتجوّل العميل حرًّا ويأخذ جميع ما يلزمه من منتجات وبضائع معروضة على الأرفف هنا وهناك، ثم ينصرف إلى منزله دون المرور حتى على (محاسب)، ودون دفع ثمن هذه البضائع لأيِّ موظف، حيث ستتكفّل أنظمة الذكاء الاصطناعي الموجودة بالمتجر بالتعرُّف على العميل وتمييزه من بين جميع العملاء، ثم ستقوم بتحديد البضائع التي اشتراها بدقّة بالغة، وإعداد فاتورة حساب بالثمن التفصيلي لكل سلعة أخذها، يلي ذلك حساب إجماليٌّ تتضح فيه عملية الجمع التقليدية، ثمّ ستقوم هذه الأجهزة بخصمها من حساب العميل في أمازون، وإشعاره بالفاتورة التفصيلية على هاتفه.
إن هذا الإعلان الذي أطلقته “شركة أمازون” عن هذا النوع من المتاجر الذكية “ذاتية التشغيل”، والعزم على التوسّع في إنشاء هذه المتاجر -وقد توسعت بالفعل اليوم- قد أشعل فتيل المنافسة والتقليد؛ نظرًا لما تتمتّع به هذه المتاجر من خفض الإنفاق التشغيلي، وتسهيل عملية الشراء والبيع والمحاسبة، فضلاً عن انجذاب الزبائن لها، مما أدَّى إلى انخراط العديد من الشركات الكبرى في تجارة التجزئة في هذه المنافسة، كسلسلة متاجر “كارفور” الفرنسية، و”وول مارت” الأميركية، ومحاولات “بيم ماركت” التركية أن ترتقي لهذا المستوى… وغيرهم الكثير.
لقد امتدّ الأمر وتوسّع إلى أن دخلت العديدُ من شركات تقنية المعلومات في هذا المجال كشركة «آي بي إم» (IBM)، وشركة «مايكروسوفت» (Microsoft) وغيرهما من عشرات شركات التقنية الناشئة التي تحاول إما منافسة “أمازون”، أو التقدم عليها في هذا السباق، الأمر الذي يجعلنا نجزم بأن هذه المتاجر ستكون هي متاجر المستقبل القريب في منطقتنا العربية وغيرها من دول العالم، لا سيما وأن دولة الإمارات قد حرصت منذ العام (2017م) على إقامة معرض دوليٍّ سنويٍّ للمتاجر الذكية، وتشير الإحصائيات بأن أعداد المشاركين فيه في ازدياد مستمر.
وقد أدَّى التوسع في استعمال شبكة الإنترنت من قبل الأفراد والشركات إلى التوجه بقوة نحو “التجارة الإلكترونية” (Electronic Commerce) واستعمال الإنترنت في إبرام العقود وإتمام الصفقات والمعاملات، حيث تنافست الشركات التجارية الكبرى منذ ظهور الإنترنت على اكتساب عملائها عبر المواقع الإلكترونية والتطبيقات الذكية، وأنشأت الشركات أسواقها الإلكترونية الموازية لأسواقها التقليدية، وبدأت في عرض بضائعها على الجمهور من خلال الشبكة، مصحوبة بصور المنتج ومواصفاته وثمنه، حتى يتمكَّن المستهلك من استعراض السلع والمنتجات المعروضة بأسعارها ومواصفاتها، ومن ثم التعاقد عبر الموقع أو التطبيق على شراء ما يروق له من هذه السلع.
وفي بداية الأمر، كان تسديد قيمةِ السلع المشتراة عبر الإنترنت يقتصر على الدفع نقدًا عند الاستلام، وقد كانوا يسمون هذا النوع من التجارة باسم: “التجارة الإلكترونية البدائية”؛ لأنها لا تعتمد على الوسائل الإلكترونية في طريقة الدفع والسداد، الأمر الذي دفع البنوك والمؤسسات المالية إلى ابتكار أنظمة الدفع الإلكتروني (E-Payments) التي تتناسب مع هذا التطور التِّقني الهائل، كبطاقات الائتمان، والبطاقات الذكية، والنقود الرقمية وغيرها، حتى أصبح بمقدور المستهلِك الآن وبكل سهولة -كما أسلفنا- شراء أيِّ سلعة معروضة على أي متجر من المتاجر الإلكترونية، ودفع ثمنها إلكترونيًّا؛ لتصله السلعة بعد ذلك بواسطة مندوب التوصيل على عنوانه الذي تم إدخاله في الموقع.

دور الوكلاء الأذكياء في التجارة الإلكترونية

لقد بات واضحًا أن العقد الإلكتروني لا يختلف كثيرًا عن العقد التقليدي من حيث الأحكام، ما دام يتم بين طرفين طبيعيين عبر وسيلة إلكترونية، كالهاتف الذكي أو الحاسوب. إلا أن الصورة تتغير تمامًا حين يتم التعاقد عبر “الوكيل الذكي (Intelligent Software Agent)”، وهو برنامج يعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي ليحلَّ محل الإنسان في تنفيذ جميع مراحل العملية التجارية: من البحث عن السلعة، والتفاوض على السعر، إلى إبرام العقد ودفع الثمن، دون تدخل مباشر من الإنسان.

ومع التطور السريع في “تعلم الآلة” وظهور تقنيات مثل “تنقيب البيانات (Data Mining)” والتعرف على الأنماط، أصبحت هذه البرمجيات أكثر قدرة على محاكاة السلوك البشري التجاري بدقة فائقة. لقد أدى التوسع الكبير في التجارة الإلكترونية إلى الحاجة إلى أدوات تيسِّر عمليات الشراء والبيع، فظهرت “الروبوتات الذكية” أو “الوكلاء الأذكياء” للقيام بمهام كانت حكرًا على البشر.

أُطلق على هذه البرمجيات مصطلح “الوكلاء” لأنهم يشبهون الوكيل البشري في تمثيل موكِّلهم واتخاذ قرارات نيابة عنه، وقد أصبحوا اليوم قادرين على أداء مهام معقدة مثل: قراءة البريد، فرزه، الرد عليه، تصنيف الأخبار، أو تنفيذ حجوزات السفر وغيرها، وفقًا لما بُرمجوا عليه.

ومن أبرز هذه التطبيقات في مجال التجارة الإلكترونية، “وكلاء المعاملات (Transaction Agents)”، الذين يمثلون البائع أو المشتري في تنفيذ الصفقة الإلكترونية، و”وكلاء التسوق (Shopping Bots)”، الذين يبحثون عن أفضل العروض ويبرمون العقود وفق معايير يحددها المستخدم مسبقًا. كما توجد “وكلاء المزادات (Auction Agents)” الذين يشاركون في المزادات الإلكترونية، و”الوكلاء المفاوضون (Negotiator Agents)” القادرون على الدخول في عمليات تفاوض باسم مستخدميهم.

وتستخدم شركات كبرى مثل “أمازون” هذه البرمجيات لتسويق منتجاتها، حيث تُزوَّد ببيانات السلع وتقوم بعرضها والترويج لها، ومراسلة العملاء المحتملين عبر البريد الإلكتروني بناءً على تحليل بياناتهم الشرائية السابقة. بل ويمكن للوكيل الذكي إبرام الصفقة مباشرة بمجرد ضغط المستهلك على السلعة، ودفع الثمن إلكترونيًّا، دون علم مباشر من المستخدم.

وفي المقابل، قد يستخدم المستهلك أيضًا وكيلاً ذكيًّا يزوّده بتفاصيل السلعة المرغوبة، ليتولى البرنامج مهمة البحث والشراء والمقارنة بين العروض واتخاذ القرار، فيتحقق بذلك عقد بين وكيل التاجر ووكيل المستهلك أي بين برنامجين ذكيين.

وهكذا، أصبحنا أمام نماذج تعاقدية غير مسبوقة، تجمع بين البشر والآلات، أو الآلات فيما بينها، مما يستدعي تأصيلاً شرعيًّا جديدًا لمسألة الوكالة الافتراضية في ظل عقود تتمّ على يد برمجيات ذكية تقوم مقام الإنسان في الإرادة والرضا والتنفيذ، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا للفقه الإسلامي المعاصر.

عقد الزواج الذكي

عام (2017م) أطلقت دولة الإمارات العربية المتحدة خدمة إلكترونية تتيح توثيق عقود الزواج بواسطة روبوت يعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وقد تم في شهر سبتمبر من العام نفسه (2017م) توثيق عقد أول نكاح بواسطة هذه التقنية، حيث استُخدِم الروبوت كوسيط بين أركان العقد من جهة، وبين القاضي من جهة أخرى؛ لإكمال عملية التوثيق.
وصورة هذه التقنية: هي اجتماع الزوج وولي الزوجة والشهود جميعهم في مجلس واحد، وحضورهم في مقرّ وجود هذا الروبوت الذي يعمل كأداة اتصال فقط بينهم وبين القاضي الموجود في مجلس آخر، قد يكون مقرَّ عملِه في المحكمة، أو في مكتبه أو نحو ذلك، ويستطيعُ القاضي من مقرِّه أن يتحكَّم في حركة الروبوت وفي أفعاله، فيظهر القاضي للحاضرين في المجلس على شاشة العرض المتصلة بالروبوت، ليقوم بدوره من تلقين صيغة عقد النكاح (الإيجاب والقبول) لكل من الزوج ووليِّ الزوجة، والتي يتلفظان بها أمام الشهود، ليستمع إليها القاضي وإلى الشهود عبر الشاشة، وبعد الانتهاء من العقدِ، يصدر القاضي أمرَه للروبوت بطباعة وثيقة الزواج وتقديمها للزوجين.

ولا شك أن هذه الصورة التي سُمِّيت في الإعلام باسم: “عقد النكاح الذكي” أو “عقد النكاح بواسطة الروبوت”؛ هي صورة مكتملة الأركان والشروط، متفق على صحتها عند فقهاء المذاهب الأربعة رحمهم الله؛ لوقوعها من عاقِدَين حاضرَين صدر منهما الإيجاب والقبول متَّصلَيْن في مجلس واحد أمام الشهود، فتلك هي الصورة المُثلَى في عقد النكاح التي لم يخالف فيها واحد من الفقهاء، أما دور الروبوت فيها فقد جاء مقتصرًا على التوثيق فقط، فلم يكن إلا وسيطًا إلكترونيًّا بين القاضي ومجلس العقد لإتمام عملية التوثيق.