يعد البعد الإنساني من الركائز الأساسية التي تقوم عليها حركة “الخدمة”، إذ فلسفتها تعتمد على الفكرة القائلة بأن “خدمة الآخرين” والتضامن مع الإنسان -بغض النظر عن خلفياته العرقية أو الدينية- من أعلى القيم التي يمكن للمرء تحقيقها. ويرى الأستاذ “فتح الله كولن” (الرائد الفكري لحركة الخدمة) أن الأعمال الإنسانية هي السبيل للارتقاء بالروح وتحقيق القرب من الله تعالى، مما يجعل العمل الخيري في حركة الخدمة ليس مجرد نشاط اجتماعي فحسب، بل عبادة وفعل تضامني يعزز من وحدة البشرية.
تجسد مشاريع “الخدمة” في التعليم والإغاثة والرعاية الصحية التزامها العميق بالبعد الإنساني، حيث لا تقتصر على تقديم العون فقط، بل تهدف إلى إحداث تغيير حقيقي ومستدام في حياة الأفراد والمجتمعات. وتُعتبر هذه الأنشطة الإنسانية أسلوبًا لتجسيد القيم الدينية بطريقة تعود بالنفع على جميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن انتماءاتهم، مما يعزز رسالة التسامح والسلام بين الأمم.
الأسس الروحانية
يُعتبر الإيمان والتقوى من الأسس الروحانية المحورية التي توجه نشاطات “الخدمة”، حيث الإيمان بنظر الأستاذ “فتح الله كولن” ليس معتقدًا فرديًّا فحسب، بل قوة دافعة لتحسين حياة الآخرين وخدمة الإنسانية. كما يرى “كولن” أن الإيمان العميق بالله يولّد في الإنسان دافعًا للتقوى، ويعزز من مسؤوليته تجاه الآخرين، مما يجعله متحفزًا للعطاء والعمل النافع، باعتبارهما وسائل للتقرب إلى الله، ولتحقيق الغايات النبيلة في الحياة.
في فلسفة “كولن”، الإيمان ليس هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لتحقيق الخير والعدل في المجتمع. ويمثل هذا الإيمان القوة الدافعة التي تقود الأفراد إلى التفاني في خدمة الآخرين، مستمدين من تقواهم إحساسًا عميقًا بالمسؤولية الاجتماعية.
الإحسان والعطاء كقيم أساسية
يشكل الإحسان والعطاء جزءًا أساسيًّا من القيم التي تقوم عليها حركة “الخدمة”، حيث يُعتبر الإحسان قيمة جوهرية تدعو الإنسان إلى خدمة الآخرين دون انتظار مقابل؛ بهدف تحقيق الخير للآخرين بغض النظر عن اختلافاتهم. كما يرى “كولن” أن الإحسان والعطاء يمثلان تجسيدًا للروحانية الحقيقية، حيث يرتقي الإنسان من خلال العطاء إلى مستوى سام من القيم الإنسانية، ويقوي ارتباطه بالمجتمع والأفراد من حوله.
والإحسان في فكر “كولن” سبيل لتجسيد الرحمة والتعاطف، حيث يتجاوز العطاء المادي إلى العطاء الروحي والمعنوي، من خلال الدعم المعنوي والنفسي للآخرين، خاصةً للمحتاجين والمستضعفين. ويُظهر هذا المفهوم، التزام أبناء “الخدمة” بمساعدة الآخرين وتقديم يد العون لهم، ليس فقط كواجب ديني، بل كوسيلة لتعزيز التكافل الاجتماعي، وبناء مجتمع متماسك يقوم على التعاون والاحترام المتبادل.
الارتباط الروحي بالعالم
تعتمد “الخدمة” على مفهوم الارتباط الروحي بالعالم، كأساس لتعزيز الإحساس بوحدة الإنسانية. يؤكد “كولن” أن الإنسان لا يعيش بمعزل عن الآخرين، وأن علاقته بالناس حوله تتشكل من خلال الارتباط الروحي العميق الذي يجمع بين أفراد البشرية في وحدة إنسانية شاملة. ويعزز هذا الارتباط الروحي، من فهم الإنسان لمسؤولياته تجاه العالم وأفراده، مما يدفعه للعمل من أجل تحقيق الخير والسلام على مستوى عالمي.
كما يعتبر “كولن” أن الارتباط الروحي بالعالم، يعزز من شعور الإنسان بأنه جزء من كيان أوسع، ويحثه على تجاوز الانتماءات الضيقة، إلى قيم أسمى تعزز التعاون والتفاهم بين الثقافات والأديان. ويرى أن هذا الإحساس بوحدة الإنسانية، يساعد الأفراد على تقدير التنوع الثقافي والديني، ويحثهم على العيش بانسجام مع الآخرين، مما يؤدي إلى تعزيز روح السلام والتعايش السلمي على مستوى العالم.
الأبعاد الإنسانية
تركز “الخدمة” بشكل كبير على المشاريع الخيرية والتنموية، التي تهدف إلى تلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمع الإنساني خاصة في مجال التعليم، حيث تؤمن بأن التعليم هو الأساس لبناء مجتمع قوي ومتحضر، ولهذا تسعى لإقامة مدارس توفر تعليمًا بجودة عالية، يسهم في بناء جيل قادر على التعامل مع تحديات العصر. بالإضافة إلى التعليم، تُقدم “الخدمة” مشاريع صحية وخدمات طبية في المناطق التي تعاني من نقص الخدمات الصحية.
كما تنطلق “الخدمة” من مبدإٍ أن التفاهم المتبادل والتعايش السلمي، هما أساس لبناء مجتمعات مستقرة ومزدهرة. ومن ثم يؤكد “كولن” في كتاباته على أهمية الحوار بين الأديان، كوسيلة لتعزيز التسامح وتقليل التوترات التي قد تنشأ بسبب الاختلافات الدينية والثقافية. تسعى حركة “الخدمة” إلى بناء جسور التواصل بين المسلمين وأتباع الديانات الأخرى، من خلال مؤتمرات وندوات تجمع بين مفكرين وعلماء من مختلف التوجهات، مما يساهم في تقوية روح التعايش وتعزيز السلام العالمي.
لقد أثمرت جهود الحركة في مجال الحوار عن إنشاء منتديات ومؤسسات تُعنى بتعزيز ثقافة الحوار، وتساعد على إزالة الحواجز والتصورات الخاطئة بين الأفراد من مختلف الأديان والثقافات. ويعتبر هذا الجانب الإنساني ركيزة أساسية في فلسفة “الخدمة”، حيث تدرك أهمية تقبل الآخر والعمل معًا، من أجل خير البشرية جمعاء.
الرسالة الواقعية
تتبنى “الخدمة” نهجًا عمليًّا في التعامل مع التحديات المجتمعية مثل الفقر والجهل والصراعات، حيث تسعى لتوفير حلول مستدامة للمشاكل التي تعاني منها المجتمعات بدلاً من تقديم حلول مؤقتة. ومن منظور حركة “الخدمة”، تعتبر مكافحة الفقر مسألة أساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية، ولذلك تهتم بتقديم الدعم الاقتصادي للأسر الفقيرة من خلال برامج التنمية والمشاريع الصغيرة، التي توفر فرص العمل والدخل المستدام، حيث يتم تمكين الأفراد للمساهمة في بناء اقتصاد مستقر ورفع مستوى معيشتهم. بالإضافة إلى ذلك، تواجه الحركة مشكلة الجهل، من خلال التركيز على التعليم كوسيلة لتحسين حياة الأفراد وتطوير المجتمعات.
الاستدامة والشمولية
تسعى حركة “الخدمة” لتحقيق استدامة مشاريعها الإنسانية، حيث تهدف إلى إنشاء مشاريع مستمرة تضمن استمرار الفائدة لأطول فترة ممكنة، بدلاً من الاعتماد على حلول قصيرة الأجل. ويتضح هذا النهج في المؤسسات التعليمية والصحية التي أقامتها، حيث تُدار وفق آليات مالية وإدارية تضمن استمراريتها وتوسعها.
كما تسعى حركة “الخدمة” لتحقيق الشمولية في جميع برامجها، حيث تهدف إلى الوصول إلى كل فرد، بغض النظر عن خلفيته الثقافية أو الدينية. تعتمد الحركة مبدأ أن الإنسانية شاملة وتتجاوز الحدود، وتسعى لأن تكون خدماتها متاحة للجميع. ولهذا الغرض، تعمل مؤسسات الخدمة في العديد من البلدان، لتقديم خدماتها التعليمية والصحية والاجتماعية، مما يعزز من وحدة الإنسانية ويربط المجتمعات المختلفة في إطار من التضامن والشراكة الإنسانية.
الربط بين الروحانية والواقعية
تُعتبر الروحانية في “الخدمة” أساسًا قويًّا لإلهام الأفراد، وتحفيزهم نحو تحقيق تغيير اجتماعي إيجابي. ومن ثم يؤمن الأستاذ “فتح الله كولن” بأن الإيمان العميق بالله وبالقيم الروحية، يُعد دافعًا قويًّا لخدمة الإنسانية، ويؤدي إلى بناء إحساس عميق بالمسؤولية تجاه الآخرين. لا تقتصر هذه الروحانية على العبادات الفردية فقط، بل تمتد إلى النشاطات الاجتماعية التي تهدف لتحسين حياة الأفراد والمجتمعات. كما يعتبر “كولن” أن الالتزام الروحي، يشكل الدافع الأساسي للعمل الخيري والتطوعي، حيث يتم توجيه هذا الالتزام نحو التغيير الإيجابي في العالم، عبر مشاريع تعليمية وصحية واجتماعية واسعة النطاق، ما يُضفي بُعدًا عمليًّا على الروحانية.
كما أن الإلهام الروحي يدفع المحبِّين في حركة “الخدمة”، إلى تحدي الصعوبات والمساهمة في خدمة المجتمع بشكل متواصل، إذ يرى أبناؤها في عملهم امتدادًا لإيمانهم وتفانيهم الروحي. وهكذا، تشكل الروحانية الحافز الذي يُشعل رغبة حقيقية في إحداث فرق، وهو ما يعزز من تأثير مشاريع الخدمة على المجتمع ويمنحها بعدًا إنسانيًّا عميقًا.
الدمج بين النظرية والتطبيق
تمكنت “الخدمة” من تحقيق توازن فريد بين القيم الروحية والأعمال الواقعية، حيث ترجمت الأفكار والمبادئ الروحية إلى أفعال ملموسة تخدم الإنسان والمجتمع. ومن ثم تعكس مؤسسات التعليم والصحة لديها، مثالاً واضحًا لهذا الدمج بين النظرية والتطبيق، حيث تُعبر القيم الإنسانية كالتسامح والإحسان عن ذاتها في صورة أنشطة ملموسة تهدف إلى رفع مستوى المعيشة، وتوفير الفرص للجميع. ولا تقتصر هذه الأنشطة على تقديم المساعدات العاجلة فقط، بل تسعى إلى بناء مجتمعات قوية، وقادرة على الاعتماد على نفسها.
يعتبر “كولن” أن العمل الخيري والخدمة الاجتماعية، هما تطبيق عملي لمفهوم الإحسان والإيمان الحقيقي؛ فالشخص المؤمن لا يكتفي بتطوير ذاته روحيًّا، بل يسعى أيضًا لخدمة الآخرين، وذلك من خلال أفعال واقعية تغير من حياة الناس للأفضل. وبالتالي تسعى حركة “الخدمة” إلى تجسيد القيم الروحية في المشاريع التنموية التي تركز على تحسين التعليم والصحة والبيئة، ما يجعل الروحانية جزءًا لا يتجزأ من العمل اليومي والأهداف العملية.
أثر الروحانية على استمرارية العمل
تُساهم الروحانية في تعزيز الصبر والتفاني في تحقيق الأهداف الإنسانية لدى أبناء الخدمة. يوضح “كولن” أن القيم الروحية تُغذي الصمود أمام التحديات، إذ يرى المتطوعون أن عملهم هو انعكاس لإيمانهم وقربهم من الله. وتساعدهم هذه الروحانية على الاستمرار في العمل، برغم الصعوبات التي قد تواجههم، حيث تعتبرهم مصدرًا للقوة والأمل. تسهم الروحانية في تحفيز الأفراد على الصبر والمثابرة في السعي لتحقيق أهدافهم الإنسانية، سواء كان ذلك في مشاريع التعليم والصحة أو الإغاثة.
علاوة على ذلك، تعمل الروحانية كعامل دعم يُعزز من التزام الأفراد تجاه مهامهم ويُحافظ على استمرارية مشاريع “الخدمة”. فالتفاني الناجم عن القيم الروحية يتجاوز الدوافع الشخصية إلى الرغبة الصادقة في إحداث تأثير إيجابي دائم في حياة الآخرين. تعزز هذه الروحانية من شعور المتطوعين بالمسؤولية تجاه تحقيق الأهداف المشتركة وتحقيق استدامة المشاريع التي يعملون فيها، مما يضمن استمرار خدمة المجتمع على المدى الطويل.
تجسد حركة “الخدمة” نموذجًا فريدًا في الربط بين الروحانية والواقعية، حيث تمثل الرسالة الإنسانية التي تسعى لتحقيقها، جسرًا يربط بين قيم الإيمان وأعمال الخدمة الفعلية. وتؤكد الحركة على أهمية الالتزام الروحي كدافع لتحسين ظروف الحياة الإنسانية، من خلال مشاريع تعليمية وصحية واجتماعية تهدف إلى إحداث تغييرات إيجابية في المجتمعات. هذه الرسالة توضح كيف يمكن للروحانية أن تؤثر على الأعمال الإنسانية، مما يجعلها ليست مجرد واجب أخلاقي فحسب، بل دعوة حقيقية للتغيير الذي يتجاوز حدود الأفراد، ويصل إلى قلوب المجتمعات بأسرها.
الآفاق المستقبلية
في ظل التحديات الإنسانية المتزايدة التي يواجهها العالم، يمكن لحركة “الخدمة” أن تلعب دورًا محوريًّا في صياغة مستقبل أكثر إشراقًا. إذ تُعتبر الحركة نموذجًا يُحتذى به في تعزيز التعاون بين الأديان والثقافات، مما يساهم في تحقيق السلام والاستقرار.
إن أهمية الروحانية في الأعمال الإنسانية تتجاوز حدود الفرد، فهي تلعب دورًا حيويًّا في تشكيل المجتمعات، وبناء ثقافة من التضامن والتكافل. إذن، كيف يمكننا تعزيز الإحسان والتسامح في التعامل مع الآخرين؟ وكيف يمكننا أن نكون جزءًا من هذا الجهد الإنساني العالمي الذي يسعى لتحسين الحياة وتخفيف المعاناة؟
(*) كاتب وباحث هندي.
المراجع
(1) Gülen F. (2004). Essays, Perspectives, Opinions. New Jersey: Tughra Books.
(2) Gülen F. (2005). The Statue of Our Souls: Revival in Islamic Thought and Activism. New Jersey: Tughra Books.
(3) Gülen F. (2013). Towards a Global Civilization of Love and Tolerance. New Jersey: Tughra Books.
(4) Hendrick J. D. (2013). Gülen: The Ambiguous Politics of Market Islam in Turkey and the World. New York: New York University Press.
(5) Ünal A., & Williams A. (2000). Advocate of Dialogue: Fethullah Gülen. Virginia: The Fountain.
(6) Yilmaz I. (2013). Islam and Peacebuilding: Gülen Movement Initiatives. Washington, DC: Blue Dome Press.