حين يُرضي الإنسان ربَّه

لا جدال في أن العمل المرضي طريقٌ آكد من طرُق الفوز، ووسيلةٌ راقية من وسائل النماء والقدرة، بل هو مفازةٌ يجتازها العبد إلى دار النعيم، وقبل ذلك كله فهو معادلةٌ طبيعية لترتقي النفس إلى أعلى مقامات الكمال. وكم هي عظيمة تلك اللحظات التي يشعر فيها المرء بثمرة الكدح ومشقة الكد، سواء أكان ذلك للدين أم للدنيا؛ لأن العمل المنضبط برسم الشريعة طريقٌ ممهَّد إلى مرضاة الله في الآخرة، وداعٍ إلى محبة النبي صلى الله عليه وسلم متى توافر فيه القصد والنية.
نحن أمة عاملة يرى الله عملها ورسوله والمؤمنون، وإن الإسلام الذي يأمر بالعبادات والطاعات، يجعل العمل المثمر طاعةً وعبادة، قال الله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً)(الإسراء:84). ومن هنا كان توجيه الوحي الأمين تسليةً وتسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعمل وفق منهج الله الذي يسير عليه، وأنْ يترك الآخرين يعملون وفق ما يرغبون، قال الله تعالى: (وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(هود:121-122).
والنبوة هي التي تحدد أنواع الأعمال التي تُناط بها سعادة الإنسان في الدارين، وتطالبه بالوقوف عند الحدود التي حددها الله سبحانه وتعالى. ولقد ظل نبينا عليه الصلاة والسلام طوال عمره يعمل للدنيا وللآخرة، يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج، ويتحرك بين الناس داعيًا إلى الدين الخالص منذرًا ومبشرًا، استجابةً لأمر الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(المدثر:1-3). وكان صلى الله عليه وسلم يقف بين يدي ربه ليلاً حتى تتورَّم قدماه، استجابةً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً)(المزمل:1-2)، مستغلاً فرصة السكون الذي يخيم على جبال مكة ووديانها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفر مع أصحابه الخندق، وهو يربط حجرين على بطنه الشريف من أثر الجوع والمخمصة، ويشاركهم العمل. وهو من قبل ذلك كان يرعى الغنم على قراريط لأهل مكة، ويخرج في تجارة إلى الشام مع عمه أبي طالب، ثم تاجرًا في مال خديجة رضي الله عنها، ثم يرجع إلى غار حراء متأملاً متحنثًا. ومن هذا الباب كان صلى الله عليه وسلم جديرًا بالتوفيق والتسديد والنصرة، قالتها خديجة رضي الله عنها بحدس الفطرة: “كلَّا، فوالله لا يُخْزيكَ الله أبدًا؛ إنك لَتصل الرَّحِمَ، وتَصْدُق الحديثَ، وتَحْمِل الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيفَ، وتُعين على نَوائب الحقِّ” (رواه البخاري).
العمل هو الحركة الواعية المدركة، التي يحدثها الإنسان فيصادف الزمان والمكان، لينتج الأثر المطلوب من المنحة والعطاء. ثم إن العمل المطلوب الذي يباركه الله تعالى ويحبه رسوله صلى الله عليه وسلم، هو ذلك الذي يرتبط بأمر الآخرة ويدل عليها، ويشتد نحوها ويتعلق بها، ويتشوف إلى مرضاة الله، حتى ولو كان عملاً دنيويًّا خالصًا، شريطة أن يسمو فيه القصد والنية. وما سوى ذلك فلن يكون طريقًا للسعادة، ولا دافعًا إلى الترقي، حتى وإن شيَّد أصحابه القصور الشاهقة، وأحاطوها بالأسوار المنيعة، قال تعالى: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)(الحج:45).
يرى العلماء أن “القصر المشيد” قصرٌ بناه شداد بن عاد بن إرم، لم يُبنَ في الأرض مثله، حتى إن أحدًا لا يستطيع أن يدنو منه على أميال، لما يُسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة، بعد أن كان موطن النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل، فبادوا وما عادوا. وما من شك أن الجارحة التي تتعطل عن العمل تضمر ولا تقوى،ولا تشتد؛ لأن صاحبها قد رضي بالراحة، وآثر الدعة، وأنِس بالركون، فصارت كالبئر المعطلة التي لا ينتفع بها أحد.
وقد قسَّم الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه للأربعين النووية، ما نقله عن ابن العربي المالكي، بأن الذهاب والضرب في الأرض يكون إما هربًا أو طلبًا. وقسَّم الذهاب في طلب الدين إلى تسعة أنواع، هي سفر العبرة، وسفر الحج، وسفر الجهاد، وسفر المعاش، وسفر التجارة والكسب الزائد عن القوت، وطلب العلم، وشدّ الرحال إلى المساجد الثلاثة الواردة في الحديث، وقصد الثغور للرباط والجهاد، وزيارة الإخوان في الله تعالى.
والذي يعنينا من هذا التقسيم، هو النوع الرابع والخامس (سفر المعاش، وسفر التجارة والكسب الزائد عن القوت).
وكانت العرب تقول: “من غلت دماغه صائفًا غلت قِدْره شاتيًا”. ولهذا انطلق المسلمون الأولون في فجاج الأرض، ينشرون الدين، ويلتمسون الرزق، ويطلبون العلم، ويجاهدون في سبيل الله تعالى.
وقد سُئلت أم سلمة عن تفرّق أولادها في شرق الأرض وغربها، حتى مات هذا في جهة، وأخوه في جهة أخرى، فقالت الأم: “باعدت بينهم الهمم”.
وربما يتبادر إلى الذهن أن العمل المعني في ذلك كله، هو العمل اليدوي أو الحِرَفي المحض، لكن الأمر ليس كذلك، إذ إن لفظ “العمل” عام يشمل جميع أنواعه، فيكون العمل اليدوي والحِرَفي جنبًا إلى جنب مع العمل الذهني والفكري. وكم هي كثيرة تلك الثروات المهدرة، والطاقات المعطّلة، والمواهب المتروكة، والإبداعات الذابلة، والمعاني المضيّعة. وكم هي عديدة تلك اللمسات الرقيقة الحانية، التي قلّما يُلتفت إليها أو يُناط بها، وكثيرة تلك الومضات الساربة إلى مكامن الوجدان، وهي قريبة لكنها لم تُدرك.
إن قضايا كثيرة في تاريخنا المعاصر وفكرنا، تحتاج إلى إعادة تقييم ونظر وتصنيف وتوظيف. وكثيرون أولئك الذين يتحركون في أماكنهم بلا طائل، ويستهلكون جهد الناس وعواطفهم باهتمامات مزيفة أو موهومة كما قال عبد العظيم عبد العزيز سبيع. والإنسان في الأرض ثروة بشرية لا تُضاهيها ثروة أخرى على الإطلاق، لما يكمن فيه من قدرة على الترقّي، والسير نحو الجد في الحياة عند خلوص الفكرة وترويض الفطرة. وإن انبساط النفس إلى الجمال فيه قوة للقلب، وجلاء للعقل، وراحة للبدن، وتخليص للروح من الأخلاط الرديئة.. ومن هنا وجب على الأمة الوارثة أن ترعى هؤلاء، فتحقق لهم كل ما يحتاجون إليه، لأنهم قوة خفية تدفع بكل نهضة وتقدّم، فتمسح الجراح، وتحمي الثغور، وتصنع جسورًا من المحبة الخالصة بين بني البشر.
ومن هذا المنطلق، فإن الدولة ليست سوى مجموعة من العمّال، كلٌّ في مجاله وعلى ثغرته، يتقلبون بين فروض العين وفروض الكفاية، فنجد منهم المعلمين، والأطباء، والصيادلة، والمهندسين، والعلماء، والأدباء، والشعراء، والصنّاع، والفنانين، وغيرهم من شرائح المجتمع المختلفة. وإن التقصير في سدّ هذه الثغور يُلحق ضررًا جسيمًا بالأمة، سواء في مجموعها أم في أفرادها. وفوق ذلك، فإن لِترك الأعمال والركون إلى القعود، بعض الآثار السلبية منها:
1- فقدان القيم الجمالية في النفس والآفاق؛ لأن النفس التي تعشق الفضائل وتتعلق بالجمال المبثوث في الكون، لا بد أن تعمل وتجتهد لإسعاد غيرها، أما العاطل عن العمل فهو إنسان مضطرب النفس، مشتت الروح، ضعيف الهمّة، قليل الحيلة.
2- ضعف الملكات الفاعلة، والإرادات القادرة، وفتور الهمم، والانحياز إلى السلبية، والرغبة الشديدة في الانزواء والانطواء.
3- فقدان الاستفادة من جميع معطيات الكون ومباهج الحياة، إذ إن الكون الذي أوجده الله تعالى على هذا النحو البديع الجميل، لا يصادم هوى الإنسان أو فطرته، بل يمضي معه في اتساق وانسجام ما لم يحجب المرء عن نفسه أسرار المعاني وآليات التألق نحو الرغبة الجادة في العمل البنّاء.
ثم إننا نجد في القرآن الكريم أنه ما من آية تتحدث عن الإيمان بالله تعالى، إلا وتربطه بالعمل الصالح، كما جاء في العديد من الآيات في قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)؛ لأن استخلاف الله تعالى للإنسان في هذه الحياة، إنما هو لتعمير الأرض وإسعاد أهلها، كما قال سبحانه: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)(هود:61).
وكما اتفقنا على القاعدة التي وضعناها، فإنه ما من عمل يُؤدى للدنيا أو للآخرة، إلا وهو مرغوب ومطلوب طالما كان في إطار العمل الصالح، فإن تخلّف عنه الصلاح، أصبح غثاءً وهباءً، لا يُغني فيه مبنى أو معنى. ومن هنا يأتي النص القرآني ليقرع الآذان: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)(الأعراف:56)، وكأن الأرض قد خلقها الله تعالى مهيأة للصلاح، ليكون الفساد طارئًا عليها وغريبًا عنها.
فلا عجب أن تكون وراثة هذه الأرض لعباد الله الصالحين الذين أقاموا سنن الله فيها. ومن هذه السنن عمارتها، والسعي في مناكبها، والأكل من رزق الله الواسع، بعد أن استقاموا على الطريقة، فأورثهم الله تعالى بعد فقر، وألبسهم بعد عُرْي، وأطعمهم بعد جوع، وأعزهم بعد ذلٍّ، وآمنهم من خوف، فبارك سعيهم، وأنار طريقهم، كما قال تعالى: (إِنَّ الْأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(الأعراف:128)، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(الأنبياء:105).
ولقد كان العمل الذي قام به ذو القرنين -وهو عمل دنيوي خالص- لا يتجاوز إنشاء سد عمراني هندسي بطرق علمية، ليمنع -بإذن الله- أذى يأجوج ومأجوج. لقد كان عملاً خيريًّا عظيمًا يدخل في دائرة النفع اللازم للبشرية، مصحوبًا بالإيمان بالله تعالى، فتراه بعد الأخذ بالأسباب وإعداد المواد الخام اللازمة لإقامة هذا السد، يقول: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)(الكهف:96).
لقد أراد أن يجعلهم يشاركون معه؛ ليتعلموا قيمة العمل، وليكونوا جزءًا من دفع الأخطار المحدقة بهم، فإذا به يستثمر قدراتهم البدنية وتفوقهم العضلي، فيقول: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ)، فأخذوا يجمعون قطع الحديد وقطع النحاس التي أذابها بالنار، وهو في نهاية الأمر يُسَلِّم الأمر لله تعالى قائلاً: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)(الكهف:98). وهكذا يربط عمل الدنيا بقضية الآخرة، حتى لا يذهب السعي هباءً وسدى.
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما مِن مسلمٍ يَغْرس غَرْسًا، أو يَزْرع زَرْعًا، فيأْكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقةٌ” (رواه البخاري). فهذا الحديث يدل على أهمية العمل الدنيوي، وعمارة الأرض من زرع وغرس، لما في ذلك من إقامة أَوَد الإنسان والحيوان على السواء، ليصير هذا الغرس كالصدقة يتصدق بها صاحبها، فيؤجر عليها ويثاب رغم أنفه.
وروى البخاري في صحيحه قول النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تُطيقون؛ فإن الله لا يَملُّ حتى تَملُّوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله ما دام وإنْ قَلَّ”. ويفيد هذا الحديث عمل الآخرة، فهو يعني الاقتصاد في العبادة والطاعة، ويركّز على الكيف لا الكم، فليست كثرة الأعمال هي المعيار، وإنما الأهم هو درجة الإتقان والإحسان فيها، والمداومة خير من الكثرة مع الانقطاع.
ولما كان العمل -بشقيه الدنيوي والأخروي- على هذا القدر من الأهمية، صار عمل الإنسان في الدنيا يدور دورة الزمان والمكان، وهو لا ينقطع ألبتة لما فيه من الحركة، والحركة بركة -كما يقولون- لأنها تعني الحياة، أما السكون فهو مرادف للموت، وفي الموت انقضاء الأعمار وفناء الأجساد.
ولما كانت حركة الأفلاك لا تتوقف، ولا يقدر أحد من الخلق على إيقافها أو تأجيلها، صار لزامًا على من كلفهم الله بالرسالة، أن يكونوا أول العاملين الكادحين، كما قيل: “إن الميدان الذي أُعد للسباق الطويل، السباق الذي لا يتقدم فيه إلا مَن يعرف ربه، ويذكر حقه، ويشكر نِعَمه هو ميدان يتطلب تواصل الدأب والنصب لإحراز الراحة الكبرى”، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)(الانشقاق:6).
حتى الجن، فإنهم مارسوا العمل مع سليمان عليه السلام كما قال تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(سبأ:13)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “اعملوا فكُلٌّ ميَسَّرٌ لما خُلِق له” (رواه البخاري).
لهذا كله، أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتباعه بقوله: “إنْ قامت الساعة وفي يد أحدِكم فَسيلةٌ، فإنْ استطاع أن لا يقومَ حتى يغرسَها فلْيغرِسْها” (رواه البخاري).
ففي هذا الحديث الشريف، يعلّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته الهمة والنشاط، وحب السعي، والغرس، والبذر، والعمل حتى آخر لحظة من الزمن، حتى لو كان عمر الدنيا قد انتهى وذهب. وعليه، لا بد أن يكون العمل مستمرًّا، وأي عمل؟! إنه غرس فسيلة “نخلة”، ومعلوم أن النخل يحتاج إلى زمن طويل حتى يؤتي ثماره وينتفع به الناس. وإن دلّ ذلك على شيء، فإنما يدل على قيمة العاملين، وحسن ثوابهم في الدنيا والآخرة.

(*) دكتوراه في الشريعة الإسلامية، جامعة طنطا / مصر.