حينما تُقبل الأيام على بلدي، يـكــون ذلــك اليــــوم عيـــدنـــا.
العيد يوم فرح وسرور، ولا سيما للذين يدركون معناه، ويبدو الناس في الأعياد وهم سعداء ومطمئنون، لكونهم أصبحوا مظهرًا للعفو الإلهي، وتخلصوا من تبعات أخطائهم وذنوبهم، ولكونهم يعيشون الماضي والمستقبل معًا بشكل متداخل.
كل عيد يبث في الأرواح اطمئنانًا، وتتداعى سلسلة من ذكريات البشر والسرور على سيماء الوطن، ليصل إلى الكمال. والسعادة التي تنبعث من تداعي هذه الذكريات في القلوب في الأعياد قد تفوق بألوانها وعمقها بشر هذه الأيام وسرورها وزينتها.
في مثل هذه الأيام نضع الماضي والمستقبل معًا في خيالنا، نقبِّل أيدي آبائنا وأجدادنا العظام، والوجوه النيرة الحلوة لأحفادنا؛ فنشعر في قلوبنا بسعادة لا توصف للماضي وللمستقبل. ومع أن أصحاب الأنفس المتشائمة والقلوب السوداوية لا يفهمون معنى هذا، فإن جميع ألوان غبطة الماضي المجيد، وكل الآمال العريضة للمستقبل، تشكل بكل ألوان الطيف إكليلاً فوق رؤوسنا ونحن نعيش احتفالات هذه الأيام.
أجل، فأي سعادة يمكن أن تضاهي سعادة تأمل لوحة الماضي بكل عظمته، مع المنظر الأخاذ للمستقبل في إطار واحد؟!
إن روح الإنسان -من ناحية المشاعر والفكر- يستطيع الإحساس بنشوة الأذواق القلبية العائدة للماضي وللمستقبل، ويعيشها مثلما يعيش لحظات أذواقه الحالية، فيتجاوز الزمن ويدرك العيد ويحس بـه كأنه طار بأجنحة إلى أبعاد أخرى. ويختلف العيـد المُدْرَك بهذا المعنى تمامًا عن بيانات التهنئة والمعايدات الروتينية المذاعة في هـذه الأعيـاد. فالعيد عند أصحاب هذه المعايدات يومٌ باهت بعيد عن الحياة ومعزول ومنبتّ عن الماضي وعن المستقبل، وكأنه مجرد يوم توزع فيه الحلويات على الصغار.
يأتيني كل عيد بزينة المستقبل الملونة بأنواع الألوان، ويعكس في قلبي -قبل رحيله- أحلى لوحات الماضي وأروعها. فكم تملؤني النشوة عندما أشاهد بعين الخيال الأجيال السـعيدة القادمة، التي وصلت إلى مرتبة العرفان من الناحية الماديـة والمعنوية، ورهفت مشاعرها، وتوحدت مع أرواحها، وتعانقت بعضها مع البعض الآخر. أتخيل جيلاً ملأ العلمُ عقلَه، وملأ الإيمانُ بالخالق العظيم وحبـُّه قلبَه، وامتلأ بحب الوجـود، ووصل إلى ساحل الاطمئنان. هذه المشاعر التي تسكبها هذه الخواطر في قلبي أحسها في أعماق وجداني، فأعيش دقائق لا مثيل لها. وفي ذلك الإقليم والجو الخيالي أرى الكهول وقد ارتقوا إلى مستوى الإنسانية الحقة، والشباب وقد ألجموا أهواءهم، ووجـوه الصغار -الشبيهة بزهرة الشمس- وكأنها تنـورت بسنا ألوان وأنوار منهمرة عليهم من فوق، والنساء اللائي هيأن كل هذا الجو الساحر. أتخيل هذا فأحس بالسعادة وهي تسري في كل مفصل من مفاصلي، وفي كل عرق من عروقي.
في ذلك الجـو أتخيل إدارة الدولـة وكأنها مودَعة في أيدي أحكم الأشـخاص وأكفئهم، الذين يتناولون كل شيء بدقة وبحساسية مَن يقوم بالتطريز.. إدارة ترى فيها الرعايا والرعاة المرشدين العارفين في صف واحد في تلاؤم وتناغم.. هذا هـو ما أتخيله لسيناريو المستقبل، وقد تفتحت ورود العدالة في كل مكان. أما الظلم فضعيف هزيل لا حول له ولا قوة، لا ترى لظالم صولة أو جولة، ولا تسمع أنينًا لمظلوم.
تمر المدارس في خيالي في العيد وقد أصبحت مختبرات لحل أسرار الكون وطلاسمه، حيث أرى هناك أساتذة عمالقة يهيئون طلابهم لفكّ أسرار ما وراء السموات.. أسـاتذة ترى الوضـاءة في وجوههم، والإخلاص في قلوبهم، والاستقامة في تفكيرهم.
في الأعياد أتخيل كأني أسمع طبول الغـزو في الثغور، وتطرق سمعي أصواتُ جيوش الفتح وأصوات مدافعها.. تلك الجيـوش التي تصدت للأخطار لتأسيس توازن بين الدول، وضحّت بأسباب الراحة والدعة وكل مباهج الحياة.
يتفتح في قلبي في كل عيد جميع ألوان الأناشيد والتكبير. وفي كل عيد ينتشي روحي بإلهاماته وبالذكريات التي يحييها في قلبي، فأحس وكأنني قد تطهرت وتجددت تمامًا، حتى أتمنى لو أن كل الأيام كانت أعيادًا.
قد يبدو هذا للبعض ضربًا من الخيال، بينما يرى فيه البعض الآخر مُثُلاً سامية سبق وأن كانت لها آلاف الأمثلة، وتفسيرًا موجزًا لحقيقة أزلية خالدة ظهرت بوادرها في أفقنا منذ زمن.
(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:43 (أغسطس ١٩٨٢)، تحت عنوان “Bayram”. الترجمة عن التركية: أورخان محمد علي.