الاستغفار والتوبة مفتاح الرزق والبركة

في القرآن الكريم والحديث الشريف عدة نصوص تدل على أن الاستغفار والتوبة من أهم ما يستنزل به الله سبحانه وتعالى الرزق على عباده، قال تعالى في سورة نوح الآيات 10 – 12: ﴿فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًۭا ۝ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًۭا ۝ وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ جَنَّٰتٍۢ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ أَنْهَٰرًۭا﴾.

تشير هذه الآيات الكريمة إلى أنه بالاستغفار يتحقق عدد من الأمور، منها مغفرة الله تعالى للذنوب، ومنها إنزال الله تعالى المطر الغزير يتبع بعضه بعضًا فتسيل به الأنهار وتنبت به الزروع والبساتين فيتيسر الرزق ويفيض، ومنها إكثار الله تعالى للأموال والأولاد.

يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات:

“أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخللها بالأنهار الجارية بينها، وأمدكم بأموال وبنين أي أعطاكم الأموال والأولاد”. كما قال تعالى في سورة هود، آية 52: ﴿وَيَٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا۟ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًۭا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا۟ مُجْرِمِينَ﴾.

فمن اتصف بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السابق ارتكابها، والتوبة عن تكرارها وغيرها، يسر الله عليه رزقه، وسهل عليه أمره، وحفظ شأنه.

يقول الإمام القرطبي: “إن الآيات السالفة الذكر من سورة نوح وسورة هود دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار”.

وإذا كان من الظاهر للبشر أن إرسال المطر مدرارًا يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني، لكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محييًا في مكان وزمان، ومدمرًا في مكان وزمان، وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم، وأن يكون الدمار معه لقوم، وأن ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية، فهو خالق هذه العوامل، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال، ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس، وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء، حيث شاء، بالحق الذي يحكم كل شيء في السموات والأرض، غير مقيد بما عهده الناس في الغالب.

كما وعد الله تعالى التوابين المستغفرين بالمتاع الحسن، قال تعالى في سورة هود، آية 3: ﴿وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا۟ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَٰعًۭا حَسَنًۭا﴾. ففي الآية الكريمة وعد من الله القادر المقتدر بالمتاع الحسن لمن استغفر وتاب.

والمراد بقوله: “يمتعكم متاعًا حسنًا” كما قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “يتفضل عليكم بالرزق والسعة”.

ويقول الإمام القرطبي في تفسيره: “هذه ثمرة الاستغفار والتوبة، أي يمتعكم بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم”.

وقد جاء هذا الوعد الرباني الكريم في شكل ترتيب الجزاء على شرطه، يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: “هذه الآية الكريمة تدل على أن الاستغفار والتوبة إلى الله من الذنوب سبب لأن يمتع الله من فعل ذلك متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، لأنه رتب على الاستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه”.

ومما يدل على كون الاستغفار والتوبة من مفاتيح الرزق أيضًا ما رواه الأئمة أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب”.

ففي هذا الحديث الشريف، إخبار من الصادق المصدوق، الناطق بالوحي صلى الله عليه وسلم، عن جزاء من أكثر الاستغفار أن يجعل له الله من كل غم يهمه خلاصًا وفرجًا، ومن كل شدة ومحنة مخرجًا وطريقًا واسعًا يخرجه إلى سعة ومنحة، ويرزقه الله الرزاق ذو القوة المتين من حيث لا يظن ولا يرجو ولا يخطر بباله.

هذا وقد تمسك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بما جاء في الآيات السالفة عند طلبه المطر من الرب جل جلاله، فقد روى مطرف عن الشعبي أن عمر رضي الله عنه خرج يستسقي بالناس فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقيل له: ما سمعناك استقيت؟ فقال: “طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل به القطر.” ثم قرأ: ﴿ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًۭا ۝ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًۭا﴾(نوح: 10 – 11).

وقد أرشد الإمام الحسن البصري أيضًا إلى الاستغفار كل من جاء إليه شاكياً الجدب والفقر وقلة النسل وجفاف البستان. فقد ذكر الإمام القرطبي عن ابن صبيح قال: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة، فقال له: “استغفر الله.” وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: “استغفر الله.” وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدًا، فقال له: “استغفر الله.” وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: “استغفر الله.”

فقلنا له في ذلك، وفي رواية أخرى: فقال له الربيع بن صبيح: “أتاك رجال يشكون أنواعًا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار؟”

فقال: “ما قلت من عندي شيئًا، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: ﴿ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًۭا ۝ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًۭا ۝ وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ جَنَّٰتٍۢ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ أَنْهَٰرًۭا﴾.

الله أكبر! ما أعظم ثمرة الاستغفار وأجلها وأكثرها!

اللهم اجعلنا من المتصفين بصفة التوبة والاستغفار، ومن المستغفرين بالليل والنهار، وهب لنا من لدنك ثمراته في الدنيا والآخرة، ويسر لنا أرزاقنا، وسهل علينا أمورنا، واحفظ لنا شؤوننا، إنك سميع مجيب.

فعلى الراغبين في الرزق المسارعة إلى الإكثار من الاستغفار بالقول والفعل، ولكن الحذر كل الحذر من الاقتصار على الاستغفار باللسان دون العمل، فإن ذلك فعل الكذابين. فكثير من الناس يرددون كلمات الاستغفار دون أن يكون لها أثر في قلوبهم أو تأثير على جوارحهم. وقد بيَّن العلماء – جزاهم الله خيرًا – حقيقة الاستغفار والتوبة، ومنهم الإمام الراغب الأصفهاني الذي قال: “التوبة في الشرع هي ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فات، والعزم على عدم المعاودة، مع تدارك ما يمكن تداركه من الأعمال”.

أما الإمام النووي، فقد أوضح أن التوبة من كل ذنب واجبة، فإن كانت المعصية بين العبد وربه، فلها ثلاثة شروط:

  1. الإقلاع عن المعصية.
  2. الندم على فعلها.
  3. العزم على عدم العودة إليها.

وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي، فشروطها أربعة، بإضافة رد الحقوق إلى أصحابها أو الاستحلال منهم.

وقد ذكر الإمام الراغب الأصفهاني أن الاستغفار لا يكون باللسان فقط، بل يجب أن يكون مصحوبًا بالفعل، لقوله تعالى: ﴿ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًۭا﴾، أي ليس فقط بالسؤال اللفظي، وإنما بالفعل والسلوك. فالاستغفار اللفظي دون فعل هو استغفار الكذابين.

علاقة الاستغفار بالرزق

يربط القرآن الكريم بين صلاح القلوب واستقامتها وبين تيسير الأرزاق وعموم الرخاء، وهذا وعد من الله وسنة كونية متحققة عبر التاريخ. فما من أمة أقامت شرع الله واتجهت إليه بصدق إلا فاضت فيها الخيرات ومكَّن الله لها في الأرض.

المراجع

  1. مفاتيح الرزق في ضوء الكتاب والسنة – فضل إلهي (ص13-15)
  2. تفسير ابن كثير (ج4، ص425)
  3. تفسير ابن كثير (ج2، ص449)
  4. الجامع لأحكام القرآن – القرطبي (ج18، ص302)
  5. في ظلال القرآن – سيد قطب (ج4، ص1898)
  6. مفاتيح الرزق – فضل إلهي (ص11-22)
  7. في ظلال القرآن – سيد قطب (ج6، ص3713)