ربما يعاني البعض من علة وجوده في بيئة غير صالحة، أو ضمن جو تنتشر فيه أوبئة الفساد والجهل، فيتعذر بهذه الأمور ويبرر بها فساده وانجرافه مع التيار، وينتظر صلاح الجماعة حتى يصلح نفسه ويلقي اللوم على البيئة التي أكسبته المرض.
لكن المجتمع هو نتاج أفراد متكررين في المضمون وهو نتيجة تشابههم في التفكير والسلوك، وإذا حدث اختلاف في هذا الاجتماع فإن البيئة تميل للتغير والتبدل، بحكم أن الجزء يؤثر في المجموع مهما كان التأثير بطيئًا.
ودعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم الانجرار وراء “جهالة المجتمع”، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: “لا تكونوا إمّعة تقولون إنْ أحسنَ الناسُ أحسنّا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إنْ أحسنَ الناسُ أن تُحسنِوا وإن أساؤوا فلا تظلموا” (رواه الترمذي). فالإصلاح يحتاج لمبادرة ذاتية عنوانها “عدم التقليد الأعمى”.
ورجال الإصلاح على مر التاريخ، كانوا أفرادًا في بيئة معلولة وكانوا أجزاء من كلٍّ مريض، لكنهم بدأوا بتغيير ذاتهم، حتى انتشر التغيير في الكلّ المترابط مع بعضه بروابط مادية واجتماعية ومعنوية.
وفي القرآن الكريم يحضر مثال قوي عن هذه الحالة التي ذكرتُها، إنه مؤمن آل فرعون الذي آلمه تصلّب عقول قومه، وأوجعه صَمْتُهم عن الفساد الذي يرزحون تحت ظلاله.. لكنه لم يتأثر ببيئته الفاسدة ولم يجعل لجو الجهل منفذًًا إلى تفكيره وعقله، بل انبرى يحاورهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فدعاهم إلى تحكيم منطق العقل قائلاً: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ((غافر:28)، وذكّرهم بماضي أيامهم: (يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ((غافر:30-31)، وخوّفهم من عذاب الله في مستقبل أيامهم: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ((غافر:32-33).
إن هذا الرجل دليل واضح على أن الفرد مسؤول عن ذاته وإصلاحها، كما هو مسؤول عن الأمر بالخير والنهي عن الشر، وأنه لا يجوز لإنسان أن يلقي بأخطائه على الآخرين، وأن لا ينتظر الإصلاح على طبق من ذهب، بل عليه أن يسعى إليه رغم كل الصعوبات والظروف غير الصالحة.
ومتى تكاثرت أصوات الإصلاح وعمَّ سلوك الإصلاح وأفعال المصلحين بين الناس، فإن هذا المجتمع يميل نحوهم وتبدأ الكفة بالرجحان لصالحهم.
إن “التدافع” الذي هو من سنن الله في أرضه، معناه تصارع الأضداد حتى يبقى الأجدر بالبقاء، ومتى خفَت صوت الإصلاح وانقلب إلى صوت داخلي ذاتي، فإن ضده الباطل سيعلو ويغلب، لكن متى خرج الإصلاح من قوقعته الذاتية وبدأ يمشي في الأرض سلوكًا رائعًا وقولاً حسنًا، فإن الناس تتأثر به، ذلك أن الإصلاح فعل متعد.
(*) كاتب وباحث في التربية الإسلامية / سوريا.