اتفق العلماء على تعريف بسيط للذاكرة فقالوا: هي القدرة على تذكر التواريخ والوجوه والحقائق والمعلومات والأشكال والمعطيات. وعندما تكون الذاكرة فارغة أو مفقودة، يتعذر أن نعرف من نكون، ونصبح تحت رحمة أي مؤثر خارجي. وإذا علمت بأن مخك يحتوي على 100 مليار من الخلايا العصبية يربط بينها تريليون وصلة في كل سنتمترٍ مكعب واحد تطلق 10 مليون نبضة كل ثانية، عرفت بأن ذاكرتك عبارة عن مصنع كهربائي كيماوي معّقد موجود في عضو لا يزيد وزنه عن 1.5 كجم تقريبًا.
لقد أظهر عدد من الاختبارات أن الإنسان يستطيع تمييز عشرة آلاف صورة من بين عشرين ألفًا كان قد شاهدها قبل أسبوع من الزمن. وتوضح الأبحاث العلمية بأن ذكريات الإنسان ليست “صورًا فوتوغرافية”، وأن تشبيه الذاكرة بـ”مكتبة” أو “خزانة المحفوظات” ليس إلا تشبيهًا خاطئًا، فليس هناك أية مكتبة مهما بلغت من الضخامة، ولا أي مخ حتى لو كان مخ فيل، قادر على احتواء هذا الكمّ الهائل من المعلومات.
أين توجد الذاكرة؟
أين تخزَّن الذكريات؟ أين يوجد ذلك الحشد الهائل من بصمات الماضي وعلامات الزمن؟ وكيف يستطيع مخزِّن الذكريات أن يستوعب ذلك السجل الحافل من الأحداث والتجارب والمرائي والمشاهدات؟ حاول العلماء الرد على هذه الأسئلة التي تشغل بال الإنسان من قديم الزمان بوضع بعض النظريات منها: نظرية الأثر للفيلسوف “أرسطو”، والنظرية المائية (HydraulicTheory) للفيلسوف الشهير “رنييه ديكارت”، ونظرية تحور الاشتباكات العصبية (Synaptic Modification)، ونظرية الحامض النووي (DNA)، ونظرية “المجال التكويني” (Theory of Morphogenic Field) للعالم الأمريكي “روبرت شيلوريك”. لكن هذه النظريات وغيرها لم تتوصل إلى مكان الذاكرة في المخ.
فمن عجائب القدرة الإلهية في الخلق والتقدير، هذه الذاكرة البالغة التعقيد والمتناهية الدقة والمترامية الشمول، وما يجعلها مذهلة حقًّا كونها لا يوجد لها مكان محدد في المخ توضع فيه الملفات وتخزّن فيه الأرشيفات.
إلا أنه قد أجريت حديثًا عدة دراسات -على الحيوان ثم على الإنسان- تَبيَّن من خلالها بأن أهم المراكز العصبية في الدماغ للذاكرة هي المنطقة الصدغية من القشرة الدماغية (temporal area)، والأجسام الحلمية في منطقة الهيبوتلاموس (Mamillary)، والجهاز الطرفي أو الحافي (Limbic System)، كما يضاف إلى ذلك دور التكوين الشبكي في الدماغ (Reticular Formation).
وقد ثبت بأن الجهاز الطرفي -وأبرز الأجزاء فيه المسمى بـ”حصان البحر” (Hippocampus)- هو أهم جزء عصبي يقوم بوظيفة الذاكرة. كما ثبت بأن القشرة المخية الجبهية تلعب دورًا هامًّا في الذاكرة، وأن إصابة هذه القشرة المخية الجبهية، يؤدي إلى نسيان المعلومات الآنية.
كيف تعمل الذاكرة البشرية؟
هناك ثلاثة مراحل رئيسية تمر بها الذاكرة وهي الترميز والتخزين والاسترجاع.
الترميز: يتم تغيير المعلومات التي نستقبلها من البيئة المحيطة بنا إلى شكل آخر من المعلومات، بحيث يمكن للدماغ التعامل معها، وهي طريقة شبيهة بالطريقة التي يتم تغيير النصوص المدخلة للحاسوب من لغة بشرية إلى اللغة الثنائية.
التخزين: يتم حفظ المعلومات من أجل الرجوع لها عند الحاجة كما يتم تخزين المعلومات على القرص الصلب.
الاسترجاع: يتم إعادة المعلومات المرمزة مسبقًا، وإعادتها لنفس الطبيعة التي استقبلت بها تقريبًا، كما يتم في الحاسوب إعادة المعلومات باللغة الثنائية إلى أصلها كالنصوص مثلاً.
إذن، ما ينبغى أن نعيه جيدًا أن مراحل تكوين الذاكرة تتلخص في تخزين المعلومة، ثم الاحتفاظ بها ونقلها من مرحلة الذاكرة المؤقتة إلى مرحلة الذاكرة الدائمة، ثم المرحلة الأخيرة وهي مرحلة استرجاع المعلومة واستدعائها في الوقت الذي نحتاجها فيه.
فالعقل البشري يمتلك خصائص ومميزات هائلة وقوة عظيمة على التخزين والتذكر والربط والتحليل. هل تعلم أن عقولنا -مثلاً- قادرةٌ على الاحتفاظ بحوالي 100 بليون معلومة؟ وهذا الرقم يعادل ما تتضمنه دائرة معارف، وأنها تمتلك 200 بليون خلية؟ أي ما يعادل عدد النجوم في بعض المجرات الكونية. ومع عجائب خلق الله فينا، إلا أننا فعليًّا لا نستخدم سوى واحد بالمائة من قدرات عقولنا، بينما تظل تسعة وتسعون بالمائة مهملة دون استخدام. يقول وليام جيمس: “إننا نستخدم أقل من 10% من قوانا العقلية”.. كيف لو استطعنا استخدام 20% من طاقة عقولنا، فكيف ستكون حياتنا عندئذ يا ترى؟
أنواع الذاكرة
قسّم العلماء الذاكرة إلى العديد من التقسيمات المختلفة، منها ما هو قائم على طول الذاكرة أو نوع الذاكرة أو قوة الذاكرة، إلى غير ذلك من التقسيمات العلمية التي تدخل القارئ في دوامة المصطلحات العلمية والتي لا يتسع المقام لذكرها، إلا أن أكثرها -قبولاً أو شيوعًا- هو ذلك التقسيم الذي يصنف الذاكرة الصريحة إلى ثلاثة أنواع وهي:
1-الذاكرة الحسية: وهي الذاكرة التي يتم تخزين كافة المعلومات المستقبلة عن طريق الحواس الخمسة بشكل فوري، وتمتلك هذه الذاكرة مساحة تخزين واسعة نسبيًّا، وتخزن المعلومات لأوقات قصيرة تتراوح بين 0.1-0.5 من الثانية، حيث يتم نقل بعض المعلومات من الذاكرة الحسية إلى الذاكرة قصيرة المدى.
2-الذاكرة قصيرة المدى: هي المرحلة ما بين الذاكرة الحسية والذاكرة طويلة المدى، وتشمل إدراكنا لكل الإحساسات والمشاعر والأفكار التي واجهناها، وتسمى أحيانًا بـ”الذاكرة العاملة”. ولا تتلاشى المعلومات في هذه الذاكرة بسرعة كما هو الحال في الذاكرة الحسية، حيث تستمر فترة 30 إلى 40 ثانية ما لم يتم تجهيزها في مرحلة أخرى.
3-الذاكرة طويلة المدى: هي الذاكرة القوية التي تحتفظ بالمعلومات والخبرات مهما كانت بعيدة أو قديمة، وتسترجعها في سهولة ويسر وبكفاءة عالية، وهي ذاكرة تقاوم النسيان عامة. وكما ذكرنا فإن التخزين في الذاكرة الحسية والذاكرة قصيرة المدى له سعة ووقت محددين، مما يعني أن المعلومة متاحة لوقت محدد، لكن الذاكرة طويلة المدى تقوم بتخزين المعلومات لفترة غير محددة ولها سعة تخزينية أكبر.
أوهام ضعف الذاكرة
ليست هناك ذاكرة قوية وأخرى ضعيفة كما يعتقد البعض، لكن الحقيقة أن هؤلاء الأشخاص يملكون ذاكرة غير مدرّبة؛ فالمعلومات التي يبدو أن الإنسان قد طوى صفحاتها، ما زالت موجودة بالذاكرة، ولكن لكي تظهر يلزمها إظهار (استرجاع). وكيف تمحى المعلومات وهي شاهد للإنسان أو عليه، ومرتبطة بسجل عمله الذي سيجده حاضرًا يوم القيامة، أيْ -عز وجل-: (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى)(النازعات:35)، وتتضمن المعلومات المتعلقة بالماضي القريب والماضي البعيد، وهي الأرسخ وهي التي تقاوم وتعمل مع وجود تلفيات في المخ وتستمر طوال الحياة.
كان الإمام الشافعي -رحمه الله- يقرأ الصفحة فيحفظها عن ظهر قلب، بل ويضع يديه على الصفحة المقابلة لكي لا يتداخل محتواها في عقله مع محتوى سابقتها. فكم عدد الترابطات بين النيورونات التي ذكرناها عن الشافعي لتتمتع ذاكرته بهذه القدرة؟ لم يكن للشافعي شيء آخر غير العقل الذي خلقه الله لكل الناس، ولكن كان له قلب ملؤه الإيمان والثقة بالله -سبحانه وتعالى-.
فقدان الذاكرة
ذاكرة المرء كتاب تسطَّر صفحاته على مر الأيام، فهي أشبه بالمفكرة التي يسجل فيها الإنسان يومياته ويكتب فيها الأحداث التي مرت عليه، ليرجع إليها في المستقبل عند الحاجة. كذلك ذاكرة كل واحد منّا فهي تُثبِّت وتمحو؛ تُثبِّت ما يهمنا وتُغفِل ما لا نحفل به. وكما تصاب اليوميات بآفات فتتآكل منها ويبهت الحبر الذي تكتب به الصفحات ثم تضيع بعضها، كذلك الذاكرة الإنسانية تصيبها مثل هذه الآفات فتضيع منها صفحات ويبهت منها صفحات ويمحى البعض الآخر، كل ذلك في صفحات الماضي الذي سجله المرء خلال الحياة. وهذه الآفات هي التي يعبَّر عنها بأمراض الذاكرة أو فقدان الذاكرة.
فالإنسان يملك مليارات الخلايا الدماغية، ولكن مع التقدم في السن يموت معظمها من دون أن يتم استبدالها، كما يأخذ الجسد بإنتاج كميات أقل من الكيميائيات التي يحتاجها الدماغ ليعمل بشكل طبيعي. وبالرغم من أن الذاكرتين القصيرة الأمد والبعيدة الأمد لا تتأثران بهذه العملية عادة، إلا أن الذاكرة القريبة العهد من شأنها أن تتدهور مع التقدم في السن.
والآن بعد هذه الجولة السريعة التي خضناها بين سطور القدرة الإلهية، أدركنا أن الذاكرة ليست سوى شجرة متواصلة النمو تتغذى بالمعلومات الجديدة، فقط على الإنسان أن يحاول -من وقت لآخر- تشذيب فروعها، وإزالة بعض أغصانها الجافة والهشة التي لا حاجة لها.
إذن لا يكفي أن يكون لك عقل ممتاز، بل الأهم أن تستعمل هذا العقل استعمالاً صحيحًا… حكمة قالها الفيلسوف “ديكارت”: ولكن كيف نستخدم هذا العقل؟ تلك المنحة الربانية.. سؤال يحتاج إلى إجابة.
(*) استشاري في طب وجراحة العيون، وعضو الجمعية الرمدية المصرية.