“إذا أردنا أن نرى التجلي الأعظم لاسم الله “القيوم”، فما علينا إلا أن نجعل خيالنا واسعًا جدًّا بحيث يمكنه أن يشاهد الكون بأسره، فنجعل منه نظارتين إحداهما ترى أبعد المسافات كالمرصد، والأخرى تشاهد أصغر الذرات”. (سعيد النورسي)
في عام 1928 ولدت قضية فيزيائية جديدة مدهشة تدعو إلى الحيرة؛ حيث اكتُشف أن لكل مادة نقيضها، ويعني ذلك وجود ذرات مضادة يمكن أن تجمع هذه الذرات المضادة، لتشكل أشياء مقابلة لكل شيء موجود في الكون؛ نجومًا مضادة ومجرات مضادة. إن المادة المضادة هي كالتوأم لمقابلاتها من المادة في كل شيء، إلا أن لها شحنة معاكسة. وهي تبشر بفناء عنيف إذا حدث والتقى الزوجان من المادة العادية والمادة المضادة معًا، لأنه عندما يصطدم جسم بجسمه المضاد، يفنى كلاهما وينشأ حريق هائل. فعند دمج غرام واحد من المادة مع قرينه من المادة المضادة، يطلق طاقة تكافئ نحو 40 ألف طن من مادة التفجير (TNT)، أو طاقة تكفي 5000 منزل لمدة عام كامل.
الميلاد النظري
تَنبّأ الفيزيائي “بول ديراك” بوجود نقيض المادة حين قال: “إن لكل جسيم من المادة العادية جسمًا مضادًّا ذا كتلة مساوية لكتلة الجسم، ولكنه يحمل شحنة كهربائية مختلفة الإشارة”. توصل “ديراك” إلى هذه النتيجة عندما خرج بحلول سالبة القيمة لمعادلة الإلكترون النسبية إلى جانب الحلول موجبة القيمة، مما شكل سؤالاً عريضًا وهو كيف تكون هنالك قيم سلبية للطاقة؟ في محاولته لتفسير هذه النتيجة، افترض “ديراك” أنه من الممكن اعتبار الفضاء كبحر من الطاقة السلبية -وهو يسمّى بحر ديراك- وأن الإلكترونات لا يسعها إلا أن تطفو على سطح هذا البحر. بعد تفكير أبعد اقترح ديراك أن أيّ ثقب في هذا البحر يجب أن تكون شحنته موجبة، وتصوّر في البداية أن هذه الثقوب قد تكون بروتونات. ولكن العالِم “هرمان وايل” أشار إلى أن ثقبًا كهذا يجب أن تكون له نفس كتلة الإلكترون، وسمّيت هذه الثقوب المقترحة بالبوزترون وتم رصدها معمليًّا في عام 1935.
الميلاد العملي
عقب أربع سنوات على تنبؤ ديراك المحير، ولد أول جسم مضاد على يد العالِم “أندرسون”؛ جسم له كتلة الإلكترون وعكس شحنته (أي موجب الشحنة)، وأطلق على هذا الجسيم المضاد للإلكترون اسم “البوزيترون”. كما وجد جسيم مضاد للشق الآخر من الذرة (البروتونات) في العام 1955 باستعمال مسرّع (معجّل) الجسيمات في مختبر لورانس بيركلي. وبعد ذلك استطاع المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات في العام نفسه تركيب أول ذرة مضادة وهي ذرة الهيدروجين المضادة، وذلك بدمج البوزيترونات والبروتونات المضادة في مسرع للجسيمات.
في عام 1995 نجح العلماء في إنتاج تسع ذرات من الهيدروجين المضاد. لكنها كانت نشطة للغاية ولم تكن مناسبة تمامًا للدراسة. لحل هذه العقبة ومن أجل التوصل إلى فهم أفضل للهيدروجين المضاد، تم إنتاج هيدروجين مضاد أقل نشاطًا وأكثر ملائمة للدراسة في السنوات القليلة الماضية.
ولكن من أكبر القضايا العملية التي يمكن أن تواجه إنتاج المادة المضادة هي قضة التخزين، حيث لا يمكن تخزين المادة المضادة في وعاء مصنوع من مادة عادية، لأن المادة المضادة تتفاعل مع أي مادة نفسها، وتبيد نفسها والحاوية. ولكن وبما أن المادة المضادة تتكون من جسيمات مشحونة، فيمكن احتواؤها من خلال مزيج من حقل كهربائي وحقل مغناطيسي في جهاز يعرف بـ”Penning trap”. وهذا الجهاز لا يمكن مع ذلك احتواء المادة المضادة التي تتكون من جسيمات غير مشحونة.
رحلة البحث عن المادة المضادة
توفر الأشعة الكونية كميات قليلة من الجسيمات المضادة، إلا أن المادة المضادة موجودة في الكون وبشكل واضح وقابل للقياس، فهي تتكون فوق رؤوسنا. ففي السنوات الماضية سجل تلسكوب الفضاء “فيرمي” حزمًا من المادة المضادة في الغلاف الجوي للأرض داخل السحب المطيرة والعواصف الرعدية تحدث نتيجة للبرق. ورصد العلماء حدوث أكثر من 500 وميض يومي لأشعة “غاما” في الغلاف الجوي. وهذه الومضات من أشعة “جاما” تعطي دلالات أكيدة على أن العواصف الرعدية تنتج حزمًا من المادة المُضادة؛ حيث إن اصطدام أشعة “غاما” التي تتمتع بطاقة محدودة بجزيئات الهواء، يضع حدًّا نهائيًّا لها، كما تنتقل طاقتها إلى زوج من الجسمين المتضادين الإلكترون والبوزترون.
إن دراسة الجسيمات المضادة أو الذرات المضادة، يمكن أن يسهم بفعالية في تعميق فهم قوانين الفيزياء، ولذلك بدأ العلماء بمحاولة تصنيع مواد مضادة خاصة بهم، فابتدعوا في السنوات الأخيرة تقنيات متطورة، محققين بذلك بعض النجاح في هذا المجال.
وعبر دراسة الجسيمات المختلفة وقريناتها من الأجسام المضادة، تتنبأ النظريات العلمية أن كلاًّ منهما يجب أن يتبع القوانين الفيزيائية ذاتها. ويأمل العلماء عند الحصول على عدد كاف من الذرات المضادة، أن يروا ما إذا كانت ذرة الهدروجين المضادة يمكن أن تُصدر أو تمتص الضوء تمامًا بالترددات نفسها، كما هو الأمر بالنسبة إلى ذرة الهدروجين.
طاقة هائلة
في رحلة البحث عن جسيمات مضادة، استخدم نظيرُ الصوديوم 22 مصدرًا للبوزترونات. إذ تطلق قطعة من الصوديوم وزنها غرام واحد 200 تريليون بوزترون كل ثانية. ولكن هذه البوزترونات تنطلق وطاقتها تبلغ 550 كيلو إلكترون ڤولط، تكافئ درجة حرارة قدرها ستة بلايين درجة مئوية وتتحرك بنحو تسعة أعشار سرعة الضوء، وهذه الطاقة يفكر العالَم اليوم في استغلالها، حيث إن 42 ملّيغرام من الپروتونات المضادة تمتلك طاقة تساوي 750 ألف كيلوغرام من الوقود والمؤكسِدات. ولكن لابد من التغلب على العديد من الصعوبات قبل أن يصبح هذا الوقود متاحًا، حيث إن إنتاج 10 بيكوغرامات من البروتونات المضادة، يتطلب من مركز سيرن عمل 24 ساعة كل يوم، وسبعة أيام كل أسبوع لمدة عام كامل.
أين اختفت المادة المضادة؟
إن واحدة من عجيب دلائل قدرة الله تعالى، أن تظل المادة في ظل وجود المادة المضادة، أي مع وجود أسباب فنائها. فوفقًا للنظريات، فإن المادة المضادة كانت موجودة بكميات متساوية للمادة عند الإنفجار العظيم، ووفق هذه النظرية كان ينبغي أن يفني بعضها البعض تمامًا في أول ثانية تقريبًا لوجود الكون. لكن بالرغم من ذلك وبقدرة الله نحن هنا، وكذلك الكواكب والنجوم والمجرات.
(*) رئيس جمعية الفيزياء بجامعة وادي النيل / السودان.