صح عندي من وجوه، أن الأستاذ فتح الله كولن هو القطب الهائم في جلال وجمال الله، والقائم برسالته في الحياة.
وجعلت أنظر وأعيد فإذا كل صفات الأقطاب فيه ظاهرة، فأيد شاهدُ المعرفة مواهب العقل الإلهامي.
الأستاذ محمد فتح الله كولن عاش لله ومات على ما عاش عليه.
ارتضى الحب طريقًا فلم تنقطع له عن شيء وشيجة، فله مع أهل الطاعات من الحب مظهر العشق، والتعلاق، وغناء المعاني، كما له مع أهل الظلام الحب في مظاهر الشفقة، وعبقرية التغيير، وفتح آفاق تقاسم الرؤى بوعي الحوار ولطيفه.
الإنسان إدراك، ونزوع، ووجدان
وقد أتقن الأستاذ فتح الله كولن التأسيس العلمي على طريقة أهل السنة، تم تضلع في العلم، واطلع على الثقافات الكونية، وتعمق في معرفة المدارس الفلسفية الحديثة مما هيأه للحكم عليها ونقدها من الداخل والخارج، وكم له من تصحيحات، واستدراكات، وبيانات على الفلسفات، والفلاسفة، لا سيما الفلسفة في العصر الحديث.
أعانته هذه الحشود المعرفية الهائلة على إنتاج بدائع النظر، ومشرقات الأفكار، فهو من أميز من جمعوا بين الأصالة والمعاصرة
درس الكتب الرئيسة والكبيرة في مختلف الفنون كالتفسير، والحديث والعقيدة والفقه.
كان ماتريديًّا في منهج تقرير العقائد، حنفيًّا في المذهب الفقهي، وقد رأيت في مدرسة بمدينة قونية المباركة الكتب التي كان يعتني بتدريسها.
لم ينشأ الأستاذ من فراغ، لذلك لم تأت أفكاره شاذة، وإنما جاءت مستقيمة لها جذور، وتسعى لأهداف، ولا تجاوز كليات المقاصد.
ثم عمل بهذا العلم على وجه الإخلاص، وانضبط في أداء وظائف العبودية، ودخل على الحضرة من بابي الفكر، والذكر، وساوق المشي بهما، والدخول من خلالهما، فتنوع تعرضه للتجليات، وتطهر بماء الفكر كطهارة أصلية، وتيمم بصعيد التكليف، واحتاط فجمع بين الطهارتين غير مسوِّف ولا واني، لأن الجمع مطلوب الشرع، فأرسل الفكر الإيجابي، ولم يفاصل بين فكره، وآفاق سروح وجدانه، لذلك ازدان تدينه، وانضبط في سيره العملي السلوكي، فلم يغب حيث الأمر الإلهي، وكم هو هيّاب لمواطن النهي.
المجاهد المحب
ثم انفتحت عليه مواهب الوصل فمتّع وجدانه بالحب، وارتفع بالحب إلى التفريد، فشاهدُ حاله، وقوي عزماته: هتاف حق، أن الرجل وحّد الحب، بعد إفراد الخوف، وتوحيد الرجاء، لذلك كان جبلاً لم تهزه عاديات الزمان، ولم تكسره خداعات النفس الكذوبة.
ولما كان ضبط الحب، والخوف، والرجاء من الأمور الصعبة لأنها من الخواطر؛ فإن ضبط مقدماتها هو الذي يجاهد في تحصيله ومراقبته العبد وهو مستند شهادات الشاهدين، ونقول: لقد كان الأستاذ ذكارًا للذنوب، وشدة العذاب، وضعف النفس عن العقاب، وقدرة الله على العبد، وقد كان ذلك البكّاء متورمَ العينين مهموم الخواطر بتحقيق الإخلاص، وهضم النفس، واسمعه يقول: “تمنينا لو نسلك طريقًا مجهولاً؛ فيعثرون على جثماننا بعد أيام ويقولون ها قد مات غريب، ويدفنوننا كما يدفنون الغرباء، هذا ما حلمنا به دومًا”.
واسمعه يقول -باكيًا- “وفي مرات كثيرة، فتحت يديّ قائلاً: اللهم اقبضني إليك قبل أن أرى ثمار هذه الخدمات إذا أينعت، فقد تحدثني نفسي بحظ منها، وأنا لا أريد ذلك”، وانظر تفريده حيث يقول مناجيًا: “إذا كنتَ قسمتي، فأنت حسبي ولا أريد سواك”، هذه هي البطولة الحقيقية فعالُ من هو مُزَينُ المشاعر بصدق التوجه إلى الله.
مات صاحب التّلال الزّمرّدية، بعد أن ضوّع الكون عطرًا، ووشّاهُ برسم أشواق الروح، وزيّن أسماع الدنيا بأغاني الحب، وهتاف الصدق، ومعزوفات الفرح بالله، وترنيمات القلب العميد.
لقد فارق الأكوان، كونٌ كامل من المعاني، والأفكار، والجسارة، والحنان، وليس على الله بمستغرب أن يجمع الكون في واحد.
أحيا فتح الله كولن إدراكه بالمعرفة، ونزوعه بالسير إلى الله، ووجدانه بالحب لله والنبي والأنبياء والكون والناس.
ومن فرائده رضي الله عنه، أنه واشَجَ بين واجب البلاغ، بشارةً ونذارةً، وإيضاحًا وتبيينًا، ومناظرةً وحجاجًا، وفق برنامج منضبط بالهدي النبوي، واشج بين ذلك وبين البعد التزكوي، وجعل هذه المواشجة الصالحة تخدم العمران ثقافة وحضارة.
وقد أدرك بحذق العليم بحاجات عصره ضرورة خلق الاتزان المفقود بين حركة المادة، وأشواق الروح وجَهِد في مسيرة ترفيع المستويات في أمريهما.
ولا شك أن احتياج الناس إلى المعاني المنطوية في سؤالات الهوية والمصير، لا شك أنه في تزايد كبير، لذلك قدم الأستاذ طرحه الفكري اللطيف، والروحاني العالي، الذي تسوده المعاني المحتشدة بكل نبيل وجميل، فنجحت دعوته، وشرّقت بالحب والصدق، وغرّبت بالوفاء والإيجابية. وها هو يقول ذلك فيما أثبته عنه مقدم الجزء الثاني من كتاب التلال الزمردية “إنني أقدم المفاهيم أولاً، ثم أتحدث بشأن هذه المفاهيم… بدأت ألاحظ في يومنا نشوء اهتمام وميل متزايد نحو المعنويات الإسلامية في كل من العالم الإسلامي والغرب…”.
ولم يكن في كل ذلك يسلك طريقًا ممهدةً وعلى أطرافها الرمل الناعم والأزهار، وإنما جاهد وناضل العلمانية وظلاميتها، فقد درس ودرّس الناس في إصطبلات الخيول، وكم قاسى من سجونها وعاش طريدًا من مكان إلى مكان. ولكنه كان يستحلي الطاعة ويتعالى على المعاصي ورغائب الذات، فشغل نفسه ببذر البذور في كل بقعة وصل إليها.
وقد أجاد وصف هذه الحالة المفكر فريد الانصاري في روايته (عودة الفرسان) التي كتبها في سيرة الأستاذ فتح الله كولن بأسلوب أدبي رفيع، قال في فصل (نقل تعسفي): “فقد كان أسرع مما يظنون، إذ كانت كلماته مثل بيض السمك المهاجر في البحار يضعه في أرخبيل المرجان ثم يرحل وما هي إلا فترة قريبة من الزمان حتى تخرج أجنتها إلى عالم الحياة، وتنموا، ثم تلتحق بأسرابها الأولى حيث كانت، ولا يزال فتح الله في تلقي مدد جديد، من منفى إلى منفى، ومن هجرة إلى أخرى… ويصير كل مكان قديم موطن نصرة لدعوته العصية”.
منهج كولن الصوفي
طبق الأستاذ فتح الله كولن المنهج الصوفي المتمثل في الدعوة بالنموذج، فطفق يعلم الناس الحب بالحب، والصبر بالصبر، والصدق بالصدق، وكم قدم في النزاهة مثال احتذاء عزيز، ما كان يتكسب بدعوته ودينه، فعلى الرغم من كثرة المؤسسات التي تنتمي إليه، كالبنوك، ورجال الأعمال الذين ينتظرون إشارته للفعل والتخلي، لكنه عاش ومات لا يملك إلا ملابسه التي يلبسها؛ ولم يكن فيها مترفهًا.
انتشار حركة الخدمة
وصلت مؤسسات الخدمة التي قامت بتوجيهاته وعلى يديه إلى كل قارات العالم وفي مائة وستين دولة، وكان أميز ما تقدمه هو نكران الذات، والانضباط بالهدف، والالتزام بالقوانين الحاكمة في كل دولة يخدمون فيها، واحترام الناس من حيثية أنهم ناس.
ولا أرى سرعة انتشار مؤسسات الخدمة في كل أصقاع العالم من فقير موحش، أو موغل في مدنيته، أو ماديته، إلا من قبيل ما يعبر عنه العارفون بالله بالإذن الخاص، والإذن الخاص هو من فروع قوله صلى الله عليه وسلم: “فيحبه أهل السماء ويكتب له القبول في الأرض”.
فقد انتشرت مدارس ومراكز الخدمة في أوروبا المرفهة والفقيرة، وحازت على إعجاب الناس فارتادوها وصنعت أثرًا كبيرًا، وقدمت الإسلام زاهيًا في لطف ووعي واندماج في المجتمعات الأوروبية، وقدمت أخلاقًا عالمية يتوق إليها الجميع، في مستويات التجريد المثالي والواقع المستقيم مع النظرية، وقد رأيت هذه المؤسسات بنفسي في أوروبا ووقفت على عبقريتها، ونماذج أثرها، والمجال لا يسمح بتفصيل ذلك، وأما نماذج هذه الأعمال العظيمة في تركيا فذلك أمر محير.
وحينما تفكك الإتحاد السوفييتي، حفز الأستاذ الناس على الذهاب إلى الجمهوريات الإسلامية هناك، ليقدموا المساعدة ويقوموا بالواجب العظيم تجاه المسلمين وجميع الناس هناك، ووصلت قوافل النور إلى روسيا نفسها.
ويا لله!! كيف ذلك الجمال في ألمانيا وأمريكا، وتلك المواقف العظيمة في أوروبا الشرقية حيث كافح الفقر والجهل.
ولم يستوحش أبطالُ الخدمة المتطوعون المخلصون لله الأدغال الإفريقية العصية على غير أصحاب الهمم العالية، وكم في افريقيا من حسن لم يُستكنه.
كولن المربي
ومن عجائب الأستاذ فتح الله كولن ودلائل قطبانيته، أنه كان يربي بروحه الطليق، وأنفاسه العالية، فكل من رأينا من أبناء الخدمة مستقيم في دينه ومسلكه، وذو أخلاق مدهشة في تكاملها، وعلى سمت كولن ولمّا يره، أو يجالسه، ولم يأخذ منه قبضة وبيعة مباشرة، فهذه طاقة هائلة لا يتوفر عليها إلا صاحب وراثة نبوية مأذون له بالدعوة على بصيرة، فهو عندي مجدد حقيقي قدم جهده العظيم في العودة بالدين إلى جِدّته.
وأقام حركة بعث قوية في عالم التصوف عزيزة الطراز، حيث نفى الزغل، وقرب المعارف، ولطّف المستعصي، وقلل من زحام الشروط الشكلية والمراسمية للدخول فيه، واختصرها في اتباع أنوار التوجه في عالم السلوك والمجاهدة، ومراقبة صحة المسيرة بشروق أنوار المواجهة من مَشرق فضل الوعد الإلهي: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(العنكبوت:69).
وربط الحاضر بالماضي فجعل مثاله المنشود سيدَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الوسيلة المعصومة في حضرة (إنما أنا قاسم والله يعطي) وارتبط بالصحابة ارتباطًا عظيمًا. وقد ذكر اللهَ بأنماط من وظائف الأولياء، وأحزابهم…
وأرى أنه قدم في التصوف نموذجًا شبيهًا بنماذج التصوف قبل تشكل البواتق التنظيمية الطرقية (وفي كلٍّ خير)، لكنه أخذ بأسباب عصره وأجاب عن سؤالات العصر بما يناسبه.
حمل الأستاذ هم الدعوة والأمة ولم يكتف في اهتمامه بالأمة المحمدية في حقل (أمة الاستجابة)، ولكنه حمل هم الأمة المحمدية في حقل (أمة الدعوة).
صنع فتح الله جيلاً قادرًا على التضحيات الجسام، وما كان يسمي أحدًا من الناس تلميذًا، وإنما كان يراهم رفاقًا واصحابًا في طريق الله ولهذه الألقاب مدلول عميق.
كان عابدًا، فانيًا، محبًّا، عالمًا بفنون الدين ومقاصده، خبيرًا بطرائق الدعوة، شاعرًا مولّهًا ذا ديباجة ممتازة.
نزه مجهوداته عن جمود المبرسمين، وطيش الحركيين، وشكلانية المتصوفين، ومع ذلك فإننا نسأل الله لنا وله القبول والرضا.
والمقام ليس مقام بسط سيرته فقد كُتبت في ذلك الكتب، ونوقشت الرسائل الجامعية، واعتُبر الرجل الأكثر تأثيرًا في العالم، وانتشرت مراكز الدراسات العلمية في جامعات العالم. رحمه الله رحمة واسعة، ونفع بعلمه وأنواره، وبارك جهده، وغفر لنا وله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
تعازينا لكل الأمة الإسلامية، بل للإنسانية، ولكننا نخص الذين عاشوا معه وحملوا مشاعل النور.
في رعاية الله القطب الكبير محمد فتح الله كولن
فإن تكن الأيام فرّقنَ بيننا فقد بان محمودًا أخي يوم ودّعا