الأرواح المهمومة

ثمة عوامل كثيرة اليوم تُغرق الإنسانَ في المآسي والمعاناة.. وفي ذلك يقول الشاعر والأديب والتركي “نجيب فاضل”: “كيف لا تهتمُّون أمام انقلاب القيم وتدهورها في المجتمع!؟ وكيف لا تشعرون بالألم والمعاناة إزاء انغماس الكثيرين في الملذّات رغم ما يحدث حولهم من شدائد وأهوال، وكأنه لا يوجد شيءٌ آخر في العالم!؟”.

لقد حفلَ التاريخ بشخصيات عظيمة جعلَت همَّها الأوحدَ أمَّتَها، فعاشت مثلَ هذه المآسي والمكابدات.. وهذه هي “المكابدة النبوية” أو ما يمكن تسميته بـ”المعاناة المقدسة”؛ لأن دقيقة من مثل هذه المعاناة الداخلية إزاء الأحوال العامة للإنسانية، بل ثانية منها تعادل يومًا مشحونًا بالعبادات.

إن التلوِّي وانقصام الظهر من أجل إعانة الإنسانية ورفعِ الغشاوة عن أعينها، وإرشادِها إلى الحقائق، وفتحِ آذانها، وإشعارِها بالحقّ والحقيقة؛ له قدرٌ كبيرٌ عند الله تعالى، وهذا ما دفع “سفيان بن عيينة” إلى أن يقول: “لو أن محزونًا بكى في أمّةٍ، لرحم الله تعالى تلك الأمة ببكائه”(١).

إننا في حاجة ماسة اليوم إلى هذه الأرواح المضحية المهمومة التي تهتمّ بِهَمّ غيرها، وتدرك ما يقع في المجتمع من انهيارات وتقلُّبات أخلاقية؛ فتتألّم لما يحدث في أعماق روحها، وتتجافى جنوبها عن المضاجع، فتنهض من فراشها وتتجوّل في الدهاليز كالمجانين متسائلة: “ما هذه الحال التي آلت إليها الأمة؟ متى سينتهي هذا الهذيان؟ متى سينتهي هذا التشرذم والانفصال؟!”.. إنها -ومع كلِّ ذلك- تحافظ على ألّا تقع في ذمّ القدر.

أجل، إنها من جهة، ترى ما يجري داخل المجتمع من انكسارات وتتألّم لها، ومن جهة أخرى لا تحيد عن أفق الرضا، ولا تضطلع بتصرفات وسلوكيات تذمّ القدر.. تقول دائمًا: “رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً”، مبديةً احترامها لقدر الله سبحانه وتعالى؛ فهي تعلم جيدًا أن المراد الإلهي هو الأساس في تحصيل الجماليات المنشودة، والله تعالى لا يسيّر إجراءاته الإلهية وفقًا لأهوائنا، بل يفعل ما تقتضيه سننه الكونية.

أجل، إن كل شيء يجري بأمر الله تعالى، وما يقع علينا نحن العباد على سبيل الشرط العادي -بعد استنفاذ الأسباب- هو “التحسُّر، والأنين، والتلوّي، والدعاءُ إلى الله، والتضرع إليه من أجل إسكات الأفواه الشريرة بالعقاب الإلهي ودحر الظالمين الجائرين”.. يقول الله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(النمل:٦٢)، فإن بلغ الدعاءُ أفقَ القبول، أجرى الله تعالى على عباده أفضالًا مفاجئة من حيث لم يحتسبوا، وجعل للمؤمنين الصادقين صدًى حسنًا يدوّي في كل أرجاء الأرض.

إن ما يقع على عاتق الأرواح السامقة التي تهتمّ بهموم الإنسانية إذن، هو أن تحصر كلَّ همّتِها وجهودها في حلِّ المشاكل التي تعانيها البشرية، وترميم قلاعها المتهدمة، وفي الوقت ذاته تبث شكواها إلى الحق تعالى، وتشعر في وجدانها بالسلبيات المتشابكة التي تتخبط فيها الإنسانية، وتتوجه إلى الله قائلةً في أنين وأسًى: “اللهم أنت الملجأ والملاذ، فلا تكلنا إلى غيرك”. 

(*) هذه النصوص مترجمة من دروس الأستاذ فتح الله كولن الخاصة، بتاريخ ٢١ نوفمبر ٢٠١٤. الترجمة عن التركية: هيئة حراء للترجمة.

الهوامش

(١) الرسالة القشيرية، القشيري، ١/٢٦٨.