هل اخترت يومًا أن تعمل من المنزل وتتخلص من روتين الوظيفة؟ وهل سألت عن حال من عمل عن بعد لسنوات كيف هو الآن؟ وبماذا توصي الأبحاث العلمية قبل خوض هذه التجربة المثيرة؟ يبدأ اليوم الأول لك بالعمل في المنزل بتلذذ الشعور بالراحة، والهرب من عناء الاستيقاظ مبكرًا، والشقاء في المواصلات، أو التخلص من الاضطرار للإقامة بعيدًا عن الأهل إذا كان عملك في منطقة أخرى.. ستقول حينها “ما أجمل الإنترنت”، و”ما أروع مبتكِر العمل عن بعد!” و”كيف كان هذا النظام بعيدًا عن الأذهان قبل جائحة كورونا؟”.
عندما نسمع عن العمل من المنزل، تتبادر لأذهاننا صورة رومانسية لشخص يجلس على أريكته المريحة، يحتسي قهوته الساخنة، ويعمل براحة تامة. لكن خلف هذه الصورة الجميلة يكمن وجه آخر مليء بالتحديات والمخاطر التي قد تكون أكثر قسوة مما نتخيل.
ستمر الأيام وأنت تشعر بهذا النعيم المؤقت، إلى أن تتيقن أنك في الحقيقة لا تتوقف عن العمل وتجلس في المنزل لتقوم بمهام أكثر فأكثر.. المجهود الذي كنت تتهرب منه في الخارج ستبذل أضعافه في المنزل.. صحيح أنك لست بحاجة للاستيقاظ مبكرًا، وتكفيك خمس دقائق لفتح الحاسوب والشروع في العمل، لكنها غير كافية على الإطلاق لتحضير عقلك للعمل ولتحسين مزاجك للإنتاج.
وفْق نتائج استطلاع أجرته دورية theHRDIRECTOR عام ٢٠٢٠م، تبين أن ٤٥٪ من الموظفين يشعرون بالإرهاق عند العمل من المنزل بسبب فقدان التوازن بين العمل والحياة الشخصية؛ لأنه عند العمل والعيش في نفس المكان، لا توجد حدود واضحة للفصل بين العمل والحياة الشخصية، مما قد يجعل من الصعب إغلاق الكمبيوتر المحمول وإنهاء يوم العمل. ومن المعروف أن الإرهاق الحقيقي يسبب مجموعة متنوعة من الحالات الجسدية والعقلية، بما في ذلك ارتفاع ضغط الدم، والسمنة، وضعف الجهاز المناعي، والاكتئاب، وأمراض القلب، وحتى الموت.
الوقت يتبخر
نعم سيكون أمامك الكثير من الوقت في أثناء العمل من المنزل، لكنه سيتبخر دون أن تنجز شيئًا إضافيًّا، لماذا؟ لأنه أصبح لديك فرصة للمزيد من التسويف، وستعاني بسبب الكثير من المشتتات في بيئة ليست مثالية للعمل، ولأنه صار لديك وقت للقيام بأشياء ليست طارئة، فضلاً عن أن جميع من في المنزل ينظر إليك على أنك متاح لتلبية طلباته، إذ لن يدرك أحد جدية ما تعمل طالما أنك أصبحت تقوم به بملابس النوم، وستضطر للعودة إلى العمل في غير الأوقات الرسمية على الأقل للتأكد من أنك لم ترتكب أخطاء، هذا إن لم يكن هناك مهام لم تنجزها في الأساس وتريد إتمامها.. فهذا طبيعي طالما أصبحت غير مستعجل على العودة إلى المنزل.
تخيل أنك تجلس في غرفة المعيشة، حيث كانت دائمًا ملاذًا للراحة والاسترخاء، لتجد نفسك فجأة محاطًا بمكتبك ووثائق العمل، بالطبع ستفقد سريعًا أعصابك إذا حدَّثك أحد من أفراد الأسرة في موضوع ما، سترى أن ذلك إهانة لأنك تعمل وهم لا يقدسون ما تعمل، وبلا شك فإن الزيارات المفاجئة ستصبح كارثة بالنسبة لك.. عليك أن تدرك أنه من الصعب إنشاء فصل واضح بين حياتك المهنية وحياتك الشخصية، وإقناع الآخرين بها، وأنك في الحقيقة ستقضي وقتًا أكبر في العمل يفوق ما تقضيه مع العائلة، وليس العكس. هل أحدِّثك عما هو أخطر من ذلك؟ أمام كل هذه الفوضى، ستفتقد الابتسامات والمجاملات التي كنت توزعها على زملائك في المكتب من روتينك اليومي.
الانطوائية الطوعية
إذا نجحت في عزل نفسك عن المحيط الخارجي والتفرغ لأجل العمل فقط، فأنت تخطو أولى خطواتك نحو الانطوائية الطوعية، ستفقد مرونتك الاجتماعية، وسيستهويك الصمت رويدًا رويدًا، وستفضله عن محادثاتك مع الأقربين، ستخرج من عزلتك في نهاية اليوم وأنت منهك، لا تملك الرغبة في الكلام مع أحد.. وتفتقد تلك اللهفة للقاء زوجتك وللنظر في وجه أبنائك أو سماع أخبارهم، ببساطة لأن أصواتهم لم تنقطع في الأساس عنك، وبالتأكيد تقابلت معهم عندما خرجت إلى الحمام أو لشرب الماء أو احتساء القهوة، لكن على الأغلب لن تلقاهم بنفس الابتسامة على وجهك عند مقابلة زميلك في المكتب الآخر. نسيت أن أخبرك أن وزنك سيزيد لا محالة، لأن عدد خطواتك في اليوم أصبحت أقل من دقات الساعة الواحدة.
مع طول غيابك عن مكتبك ستعاني من فقدان الشعور بالمنافسة مع الآخرين، وفي الغالب لن تحقق التوازن الذي تنشده بين حياتك العملية والمهنية، وستمل من الشعور بالوحدة، حيث سيقل تواصلك الشخصي مع الزملاء، ولن يكون هناك مجال لتكوين صداقات جديدة.. هذ الشعور بالوحدة هو أكبر عيوب العمل في المنزل، ويمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية مثل ارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب، والسمنة، وضعف الجهاز المناعي، والقلق، أو حتى الاكتئاب.
العمل من المنزل يعني فقدان تلك اللحظات الصغيرة التي نتشاركها مع زملائنا في المكتب؛ تلك الأحاديث الجانبية، الضحكات المشتركة، ودعم الزملاء في الأوقات الصعبة.. في غياب هذا التفاعل البشري، قد نشعر بالوحدة والعزلة، وكأننا سجناء داخل جدران منزلنا. هذا الشعور بالعزلة يمكن أن يكون مؤلمًا ويؤدي إلى تدهور الحالة النفسية.
وفق تقرير حالة العمل عن بعد لعام ٢٠٢٣م، الذي يسلط الضوء على تجارب ٣٠٠٠ عامل عن بعد من جميع الأنحاء، أفاد واحد من كل ثلاثة موظفين يعملون عن بعد، أن أكبر معاناتهم هي أنهم يبقون في المنزل كثيرًا لأنه ليس لديهم سبب للمغادرة، وكان المأزق التالي الأكثر إلحاحًا لدى العاملين عن بعد هو الشعور بالوحدة، حيث اختاره ٢٣٪ من العاملين عن بعد، يسير هذان النضالان جنبًا إلى جنب ويرسمان صورة توضح كيف يمكن أن يكون واقع العمل عن بعد أمرًا صعبًا للغاية، وإجمالاً فقد أفاد ٩١٪ من المشاركين أن لديهم تجربة إيجابية في العمل عن بعد، لكن التقرير لم يحدد الفترة الزمنية التي قضاها أي منهم في العمل بعيدًا عن المكتب.
مسؤولية أكبر
هل تعلم أن المشي في الهواء يمنحك دفعة من الطاقة وجرعة من فيتامين D المسؤول عن فوائد كبيرة أبرزها تحسين الحالة المزاجية، بل إنه بمجرد ارتداء ملابس احترافية يمكن أن يساعد ذلك على أن تكون أكثر إنتاجية ويزيد من احترامك لذاتك؟ وهل تعلم أنه على الرغم من كل الأدوات التي وفرتها لنا التكنولوجيا للتواصل عبر الإنترنت، إلا أنه في بعض الأحيان لا يوجد بديل للتفاعل وجهًا لوجه، إذ قد يتمكن الزملاء الذين يجلسون حول طاولة وينظرون إلى المخططات من حل مشكلة في دقائق، قد تستغرق أيامًا باستخدام أدوات التواصل عبر الإنترنت.
قبل أن تفكر في الانتقال إلى نمط العمل من المنزل، عليك أن تعي جيدًا أنك تتحمل مسؤولية أكبر بكثير عن حياتك المهنية وصحتك من ذي قبل، عليك أن تبدأ في بناء مستوى من الوعي الذاتي حول العلامات التحذيرية للإرهاق وتغير سلوكياتك، والتحديات المرتبطة.
العمل من المنزل يتطلب -كذلك- قدرًا كبيرًا من التنظيم والانضباط الذاتي والاعتماد على النفس.. ليس كل شخص قادرًا على إدارة وقته بنفس الكفاءة، قد نجد أنفسنا نؤجل المهام، ونتراكم الأعمال، لنشعر في النهاية بضغط هائل وصعوبة في الوفاء بالمواعيد النهائية.. هذا العبء النفسي يمكن أن يكون مرهقًا ومؤلمًا.
خطر الاكتئاب
رغم الامتيازات المتوفرة في العمل من المنزل، وتأكيد غالبية الموظفين الذين يعملون عن بُعد أنهم أكثر سعادة وإنتاجية وأكثر احتمالية للبقاء مع صاحب العمل، يظهر بحث جديد أن هناك خطرًا واحدًا -على الأقل- يواجهه من يعملون عن بعد، ألا وهو تأثر صحتهم العقلية.
وفقًا لتحليل أجراه معهد الفوائد المتكاملة (IBI) عام ٢٠٢٣م، كانت هناك زيادة بنسبة ٥٪ في احتمال ظهور أعراض القلق والاكتئاب لدى موظف يعمل عن بعد مقارنة مع موظف يعمل في مكان العمل. وذكر الباحثون أنه على الرغم من عدم وجود تباين كبير بين احتمالية إصابة العاملين عن بعد بشكل كلِّي والعاملين عن بعد بشكل جزئي بالاكتئاب والقلق، إلا أنه من الحكمة أن ينتبه أصحاب العمل إلى هذا الاختلاف. وأشار البحث إلى أن “العمل عن بعد، قد لا يكون الحل الأمثل لكل موظف”.
ولم يكن هذا هو البحث الوحيد الذي كشف عن مشاكل الصحة العقلية المرتبطة بالعمل عن بعد والمختلط، حيث قال ٦٤٪ من المديرين التنفيذيين إن العمل عن بعد أثر سلبًا على الصحة العقلية لموظفيهم في عام ٢٠٢٢م، ارتفاعًا من ٥٥٪ في العام السابق وفقًا لمسح أجرته شركة RSM US وهي شركة خدمات مهنية، بالتعاون مع غرفة التجارة الأمريكية، وقال ٧٣٪ من المديرين التنفيذيين إن العمال شعروا بالعزلة بزيادة من ٦٨٪ في عام ٢٠٢١م.
وطالما أنك في عزلة، ستجد نفسك تعمل حتى ساعات متأخرة من الليل، دون أن تدرك أنك تجاوزت الحدود بين عملك وحياتك الشخصية.. وهذا التداخل قد يؤدي إلى احتراق نفسي شديد، ويجعلنا نشعر بأننا نعيش لنعمل فقط دون أي مساحة لنفسنا أو لعائلتنا.
روح المغامر
باتت تلك الوظائف التي بعنوان “عمل عن بعد” كثيرة، وباتت الكثير من الشركات تقترح على موظفيها العمل من المنزل بغرض توفير النفقات، لكن نصيحتي لك أن “تتجدد ولا تتجمد”، لا تلهث وراء هذا الكابوس، ولا تنس أن كل يوم في المكتب يحمل في طياته فرصة للتفاعل مع الآخرين في بيئة نابضة بالحياة، أما إن اضطررت للعمل خارج مقر عملك، فلا تختر أبدًا العمل من المنزل، وأنجز عملك من أي مكان آخر.
لا تفقد روح المغامر والصياد المغروسة بداخلك؛ كان أسلافنا يخرجون منذ شروق الشمس يواجهون المخاطر، ويعودون في نهاية اليوم بصيد يرضي غريزتهم.. وأنت -كذلك- تحتاج إلى ما يمنع عنك الخمول والفتور، ويزرع فيك الرضا والشعور بالإنجاز، وهذا غير موجود في المنزل؛ ذلك المكان الذي نبحث فيه عن الهدوء والراحة، لكن بعد يوم من الضجيج والتعب.
الذهاب إلى العمل ليس مجرد روتين يومي، بل هو تجربة غنية تمنحنا الكثير من الفوائد النفسية والمهنية، من التفاعل الاجتماعي إلى الهيكلية والانضباط، من الإلهام الجماعي إلى البنية التحتية المتكاملة.. كل هذه العناصر تساهم في تحسين جودة حياتنا.. لذا، دعونا نقدر هذه الفوائد، ونستمتع بكل لحظة نقضيها في بيئة العمل النابضة بالحياة.
(*) كاتب صحفي وباحث إعلامي / مصر.